التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الجمعة، 30 أكتوبر 2020

زرياب . أستاذ الموسيقى وفن الحياة



  هو أبو الحسن علي بن نافع المعروف بزرياب . وزرياب كلمة فارسية تطلق على طائر أسود اللون حسن التغريد , وكان ذلك ينطبق على زرياب , أما كونه طائراً يهجر عشه الأثير , فيطير لأماكن أخرى ناقلاً معه أي شيء يقدرعلى حمله فذلك ماحدث له بالضبط . حيث كان مغنياً وموسيقياً بارعاً يعيش في بغداد ثم هاجر للغرب  , ولابد أن نتوقف ونوضح من هي بغداد في ذلك الوقت .

   بغداد هي أغني و أرقى عواصم العالم وقتها كانت عاصمة الخلافة العباسية التي قضت على الخلافة الأموية بشكل دموي , وتم تأسيسها عام 762م  . فسكنها مختلف الأجناس من الفرس و الروم والصينيون و الهنود , ونقلوا علومهم ومظاهر حضارتهم وثقافتهم وفنونهم , كما كانت بغداد مركزاً للترجمة لما تركه الفرس والهنود والسريان والاغريق والمصريون , وكذلك ازدهرت فيها صناعة الورق ونسخ الكتب وتجليدها لتوثق تلك المعارف قديمها وحديثها , وقد بنيت بها القصور و المباني الجميلة و الشوارع النظيفة وغيرها من مظاهر الحياة الراقية , والتي نشأ فيها زرياب , وكان تلميذاً للمغني العراقي الكبير اسحاق الموصلي , وقد حدث أن غنى زرياب أمام هارون الرشيد فأعجب الخليفة بفنه , فحقد عليه اسحاق الموصلي وعمل على اقصائه , فخيره بين الرحيل عن بغداد , والبقاء فيها عرضة لإيذائه , فاختار زرياب الرحيل غرباً , فلما وصل لافريقية اتصل بصاحبها زيادة الله بن الأغلب , لكنه لم يطب له المقام , فرحل للمغرب وكتب للأمير الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس , فرحب به و أرسل له المغني منصور اليهودي ليصحبه للأندلس , وهنا لنا وقفة أخرى لنتساءل لما اختار زرياب الأمير الأندلسي الحكم ليتواصل معه ؟

  فالحكم بن هشام كان شاعراً, يحب مجالس الغناء , و كان ينظم الشعر ويقترح على جواريه غناءه , وقد هاجر إليه اثنان من مغني المشرق هما علون وزرقون , وكان في بلاط قصره أيضاً المغني منصور اليهودي , وكان له ابن يدعى المغيرة يشاركه حب الغناء . وذلك لم يكن غريباً على الأمراء الأمويين في الأندلس فقد كان جده عبد الرحمن الداخل يحب الغناء , وكان يشتري الجواري المدنيات – كانت المدينة المنورة وقتها مركزاً هاماً لتعليم الجواري الموسيقى والغناء من المشرق والمغرب على حد سواء– فكانت له جواري بلغن مكانة كبيرة من الفن ذكر التاريخ منهن فضل وكانت جارية لابنة هارون الرشيد , علم , العجفاء , قلم الأندلسية , و قد أسس لهن عبد الرحمن الداخل داراً عرفت بدار المدنيات لأن أغلبهن تعلمن هناك , فكان من الطبيعي أن يرى زرياب في  هذا المناخ المناسب له , اضافة إلى رغد العيش في الأندلس , وبعدها عن سلطة  الدولة العباسية التي قد يطوله الأذى على أراضيها من استاذه اسحق الموصلي .

  وبمجرد أن وصل زرياب للشاطئ الأندلسي حتى وصلت الأنباء بوفاة الحكم , فأراد العودة للمغرب , إلا أن المغني منصور , أراد أن يقدم للأمير الجديد عبد الرحمن الأوسط هدية يوطد بها علاقته معه , فأرسل سريعاً  لعبد الرحمن يخبره بما عزم عليه زرياب , فرد عليه الأمير سريعاً باستبقاء زرياب وطلب حضوره لقرطبة , بل وأمر عماله على مختلف  المدن في الطريق بحسن استقبال زرياب , وعندما وصل قرطبة استقبله الأمير بنفسه في احتفال , و أنزله داراً من أفضل الدور , بها كل مايحتاج إليه , وكان هذا بداية سعد على زرياب حيث استقبله الأمير عبد الرحمن بعد ثلاثة أيام في قصره , و أقر له مائتي دينار كراتباً شهرياً  , وعشرون ديناراً شهرياً لأولاده الذين أتوا معه , وكانوا أربعة " عبد الرحمن ,و جعفر , و عبيد الله , ويحي . ولكل عام له ثلاثة آلاف دينار , منها لكل عيد ألف دينار , ولكل مهرجان ونيروز خمسمائة دينار , و أن يكون له من الطعام العام ثلاثمائة ثلثاها شعير وثلثها قمح , وأعطاه من الدور والضياع مايقدر بأربعين ألف دينار .

   وإذا كان الأمير عبد الرحمن الأوسط , لم يبخل على زرياب في العطايا فقد تشبه بالخلفاء العباسيين في السخاء بالعطاء على واحد من أهل الفن , حيث أعجب بهم أيضا في ملابسهم ومظهرهم وفي احتجابهم عن الرعية لكسب الهيبة .

  وقد انطلق زرياب ليبدع في الأندلس , فقد علم الأندلسيين طرقاً جديدة في الموسيقى من حيث كيفية بداية الغناء وانهائه , واضاف مقامات موسيقية جديدة حيث أدخل السلم الخماسي المعروف لأهل النوبة , وعلمهم أن يستخدموا قوادم النسر بدلا من الخشب في الضرب على العود ليساعد على نقاء الصوت وسلامة الوتر , بل واضاف وتراً خامساً في العود في الوسط . واخترع الموشحات التي اشتهرت في الاندلس , وقد أنشأ مدرسة لتعليم أصول الغناء بدأها بابنائه  وبناته وجواريه  حيث كان ابنه عبيد الله أفضلهم يليه عبد الرحمن , وكانت بنته حمدونة أفضل بناته في الفن ,و أفضل جواريه كانت تسمى متعة وقد أهداها بعد ذلك للأمير عبد الرحمن ,  وقد تتلمذ في تلك المدرسة الكثير ممن نشروا الفن في الأندلس .

  ومثلما نقل زرياب فنون الشرق وطورها , وعلمها لأهل الأندلس , فقد نقل ايضا لهم فنون الحياة ورغد العيش , فربما كانت معيشتهم  ميسرة ولكنها لم تكن راقية كالشرق , فليس كل غنياً استطاع التمتع بكل مايملك , فغير كل هذا زرياب , وعلم أهل قرطبة , أن ليس كل ملبس غال راق , بل أن الملبس الراق الجميل هو من يناسب الوقت , والمناسبة المخصصة له . فحث الناس على تغيير الملابس لتكون مناسبة لفصول السنة المختلفة , فعلم الناس لبس الأبيض من شهر يونيه إلى أول أكتوبر , ثم يليها ثلاثة أشهر يلبسون فيها الملابس الملونة , وجعلهم يلبسون في الربيع ملابس لا بطائن لها , وفي آخر الصيف وأول الخريف يلبسون ملابس ملونة خفيفة ذات حشو وبطائن كثيفة , وإذا اشتد البرد زادوا من تحت تلك الملابس بالفراء .

   وايضا كان لزرياب الأثر الحميد في طعام وشراب أهل الأندلس  , فربما تكون المائدة عامرة بالطعام الشهي وقد يرغب عنه الناس لسوء التقديم , فعلم الناس طريقة التسلسل المنظم في تقديم الأطعمة , فالبداية تكون بأطباق الشوربة والأطعمة التي تقدم ساخنة , ثم أطباق اللحوم والطيور المتبلة بالبهارات , وأخيرا أطباق الحلوي وعلمهم نوع من الحلويات يسمى "التفايا" وهو نوع من الفطائر المصنوعة من الجوز واللوز والعسل يشبه القطائف , و أيضا المعجنات المحشوة بالفستق والبندق والمعقودة بالفواكه المعطرة وقد سميت على اسمه "زريابيه " ثم حرفت إلى زلابيه التي نعرفها الآن  , وقد أدخل على المطبخ الأندلسي بقلية الهليون التي لم تكن معروفة هناك , ولم يقتصر تأثيره على الأطباق المقدمة بل امتد للمظهر العام لمائدة الطعام , فاختار غطاء المائدة من الجلد الرقيق بدلا من الغطاء المصنوع من القطن أو الكتان لأن الجلد أسهل في التنظيف , و أشاع بين الناس استخدام أواني الزجاج الرقيق بدلاً من أواني الذهب والفضة التي كانوا يتباهون بها , دون أن يفطنوا أن الزجاج لا ضرر منه على صحتهم , وترك الذهب والفضة لأصص الأزهار – إذا أرادوا من هذا زيادة في الجمال والرفاهية ومتعة للعين _ وعلم أهل الأندلس وضع المناديل على المائدة لمختلف الأغراض فذلك لليدين وتلك للفم , وذلك للجبهة و تلك للعنق , وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا.

   وذلك الرجل الذي نقل للأندلس فن الذوق العام أو مايسمونه الآن بالاتيكيت , كان هو مثالاً على ذلك فكان أنيقاً في  ملابسه و كلامه وطعامه وشرابه . أقبل الناس على ابتكاراته في كل نواحي حياتهم , حتى أنه من أدخل الشطرنج  للأندلس ومن بعدها انتقل لأوروبا .

   وفوق كل هذا بهر أهل الأندلس بموسوعيته , فقد كان واسع الثقافة , يقرأ الآداب , وعالماً بالنجوم , وعلم الجغرافيا من تقويم البلدان ومناخها وطبائع أهلها وتشعب بحارها وتصنيف شعوبها .

  وكان منطقياً أن يثير حسد المقربين من الأمير عبد الرحمن , فعارضه بعض العلماء والوزراء , بحجة عدم الاطمئنان لتلك البدع الشرقية القادمة من العراق , ومثال لهؤلاء : العالم والأديب والشاعر تمام بن علقمة , والشاعر يحيي الغزال فاضطر الأمير عبد الرحمن للتدخل وحماية زرياب , فنهر تمام بن علقمة , ونفي يحيي الغزال وصالح بين زرياب والوزراء . وقد فعل الأمير عبد الرحمن هذا لأنه رأى  زرياباً  علامة من علامات التقدم والازدهار في عصره , وليشهد التاريخ بأنه كان راعياً لمظاهر الحضارة الراقية ولو كانت قادمة من عند العباسيين الذين فتكوا بأجداده الأمويين .

  وقد توفي زرياب في " 852 ميلادية – 238 هجريه " قبيل وفاة الأمير عبد الرحمن الأوسط .


الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

بلاد لاما وليما



هي بيرو أو البيرو أو جمهورية بيرو , دولة من دول أمريكا الجنوبية لها مذاق خاص , اشتق اسمها من  اسم حاكم محلي عاش بالقرب من خليج " سان ميغيل"  في "بنما" في أوائل القرن السادس عشر.  عندما زار المستكشفون الإسبان ممتلكاته عام "1522" م كانت أقصى جنوب العالم الجديد المعروف حينها لهم .  وعندما استكشف "فرانسيسكو بيزارو" المناطق الأبعد إلى الجنوب أصبحت تعرف باسم  "بيرو"ثم.  أضاف التاج الإسباني الصفة الرسمية للتسمية في إعلان توليدو عام 1529 والذي أطلق اسم مقاطعة بيرو على أراضي إمبراطورية الإنكا.  وأصبحت تحت الحكم الإسباني تعرف باسم ولاية بيرو والتي أصبحت جمهورية بيرو بعد حرب الاستقلال البيروفية.


                                  موقع بيرو بالنسبة لأمريكا الجنوبية                               


    تبلغ مساحتها حوالي 1.2 مليون كم مربع . يحدها من الشمال كل من الإكوادور وكولومبيا ومن الشرق البرازيل و من الجنوب الشرقي بوليفيا وتشيلي من الجنوب والمحيط الهادئ من الغرب والعاصمة  ليما .

 تشتهر بجبال الأنديز التي تحاذي المحيط الهادي وتقسمها لثلاث مناطق جغرافية . فالساحل يقع إلى الغرب و يتصف بكونه ضيق وقاحل الأودية الناجمة عن الأنهار الموسمية. ثم جبال الأنديز وبها  أعلى قمة في البلد "هوسكاران" بارتفاع 6768  م. ثم  منطقة الغابات وتمثل حوالي 60% من مساحة البلاد,  وبيرو  رابع أكبر مساحة من الغابات المدارية في العالم بعد البرازيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإندونيسيا. و تنبع معظم أنهار بيرو من قمم جبال الأنديز , ومن أطول أنهارها :" أوكايالي" و"مارانيون "و"بوتومايو" و"الأمازون". و برغم من أنها دولة استوائية إلا أن  جبال الأنديز وتيار "همبولت" جعلوا المناخ متنوعاً فالساحل معتدل الحرارة وذو أمطار منخفضة ورطوبة عالية باستثناء المناطق الشمالية الأكثر دفئاً ورطوبة . والمرتفعات مطرها صيفي ,  وتقل درجات الحرارة والرطوبة مع الارتفاع وصولاً إلى قمم جبال الأنديز المجمدة. تتميز مناطق الغابات بهطول الأمطار الغزيرة وارتفاع درجات الحرارة عدا جانبها الجنوبي البارد شتاء وذو الأمطار الموسمية. وبسبب التنوع في الجغرافية والمناخ ظهره أثره في زراعتها فهي تزرع البطاطس , الكوسا , والفول السوداني , والقطن منذ آلاف السنين وتزرع الآن الذرة , الأرز , والبن و بجانب الزراعة كنشاط اقتصادي  هناك ايضا  صيد الأسماك والتعدين والصناعات الخفيفة التقليدية كالنسيج .


قمة هوسكاران أعلى قمة في الأنديز 

                     غابات الأمازون في بيرو 

 


النسيج التقليدي في بيرو

 

 صيد الاسماك في بيرو

 

و بسبب هذا التنوع أيضا  كان هناك  تنوعاً حيوياً كبيراً أوجدت من أجله العديد من المحميات الطبيعية . وشمل هذا التنوع كذلك  السكان والثقافات فعدد سكانها حوالي 30 مليون نسمة متعددي الأعراق فخلال الخمس قرون الأخيرة حدث تغيرات على خريطة السكان فقد دخل الأسبان في القرن السادس عشر البلاد ووجدوا سكانها الأصليين عددهم حوالي 9 مليون نسمة تناقصوا إلى حوالي 600 ألف نسمة بسبب الأمراض المعدية القادمة مع الغزاة وكانت غريبة عنهم  .  و السكان الموجودون الآن حوالي 45 % منهم من السكان الأصليين , و حوالي الثلث من المستيزو وهم نتاج زواج السكان الأصليين و الأسبان , و قد جلب الأسبان بالأفارقة كرقيق بداية من القرن السادس عشر , ثم بدأت الهجرات الأوروبية من انجلترا و فرنسا وألمانيا وايطاليا و اسبانيا فشكلوا الآن  15 %, ثم جاء الصينيون في خمسينات القرن التاسع عشر و استبدلوا مكان العمال الرقيق , ثم جاءت هجرات العرب واليابانيين , ليشكل كل هؤلاء 3 % . يتحدث أغلبهم الأسبانية وإن احتفظ السكان المحليون بلغاتهم الأصلية . وأغلب السكان من المسيحيين الكاثوليك والتي غلبت على ديانة السكان الأصليين الذي كانوا يعبدون الشمس وعناصر الطبيعة , ويعاني معظم سكان بيرو من الأمية وسوء التغذية وارتفاع الوفيات بين المواليد .

 

   السكان الأصليين لبيرو 

 

                 المستيزو 

  والتنوع السكاني في بيرو خلف تنوعا ايضا في الفن نراه واضحا وإن ظل تأثير حضارة الإنكا ظاهرا في الخزف والنحت والمنسوجات والمجوهرات و العمارة , مع وجود تأثير واضح للفن الباروكي في العمارة خاصة في الكنائس والأديرة . و الموسيقى في بيرو متأثرة بالفن الأسباني و الأفريقي بجانب موسيقى سكان الانديز .

 ولتاريخ بيرو أثر عميق على مختلف نواحي الحياة , والذي يمتد لأكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد , ثم  تميزت حضارة نورتي شيكو، على ساحل المحيط الهادي في ما بين 3000 و1800 قبل الميلاد.  تبع ذلك حضارات تاريخية مثل" الكابيسينك" و "الشافيين" و" الباراكاس" – من 800 إلى 100 ق.م وتميزت بنظم الري والتقدم في النسيج - و" الموشيكا "و"النازكا "- في الساحل الجنوبي  بين أعوام 200 ق. م - 600 م ذات مستوطنات صغيرة الحجم نظرا للبيئة الجافة جدا على نمو السكان، وهي تتميز بالفخار والملون بألوان متدرجة . ثم تميزت في القرن الخامس عشر حضارة "الإنكا " أو إمبراطورية "إنكا" (1438–1527) م , كامبراطورية قوية غنية شملت مجتمعات اعتمدت على الزراعة  وتربية ورعي اللاما و أشباهها  وصيد الأسماك واستخراج المعادن خاصة الذهب و الفضة وصناعة النسيج  وتبادلت منتجات تلك الأنشطة فيما بينها . وكانت الانكا مقرها الاداري والعسكري هو  "كوسكو" ومقر عبادة الشمس و قد اكتشف حديثا أنها أكثر بقعة على كوكب الأرض تتعرض للأشعة فوق البنفسجية , وتقع على جبال الانديز وترتفع أكثر من 3000 متر عن سطح البحر وقد بلغ عدد سكانها أكثر من ربع مليون نسمة , أصبحت من المزارات السياحية الهامة نظرا للكنائس و الأديرة والقصور التي بناها "فرانسيسكو بيزاو" على أنقاضها عندما استعمر امبراطورية "إنكا "وكذلك لأنها تحتوي على المطاعم التي تقدم أنواع البطاطس الأصلية بالطرق التقليدية .  

 

 

                     حضارة نورتي شيكو 

 

ذهب ملوك انكا 


وامبراطورية "انكا" تحتوي ايضا على أعجوبة من عجائب الدنيا السبع الجديدة أو المدينة المفقودة أو "ماتشو بيتشو"  وتعني "قمة الجبل القديمة"  وعثر عليها الصدفة عام "1911م "المستكشف الأمريكي "هيرام بينغهام " , وكانت مغطاة بالغابات الاستوائية الكثيفة , وهي في نطاق إقليم "كوسكو " على ارتفاع أكثر من 2250 متر عن سطح البحر , على جانبيها هاوية سحيقة ارتفاعها حوالى 600 متر , تحتوي على الكثير من الحدائق والأروقة والبنايات والقصور الفخمة والترع وقنوات الري وبرك الاستحمام . وتربط السلالم الحجرية بين الحدائق والشوارع المختلفة الارتفاع . ويعتقد أنها لم تكن للمعيشة وإنما كانت لتقديم القرابين ، حيث وجدت أعداد كبيرة من جثث للنساء في هذه المدينة. لاعتقاد  شعب "الإنكا "أن النساء بنات الشمس المقدسة.

 

ماتشو بيتشو 

 

                   ماتشو بيتشو 

 

               ماتشو بيتشو 

 

                    هيرام بينجهام 



وظلت امبراطورية "انكا" في ازدهار حتى وطأ المستعمر الأسباني أرض الامريكتين ومعه الأمراض المعدية من العالم القديم ففي الفترة ما بين "1524_1526"م اكتسح مرض الجدري حضارة "الإنكا "بعد انتقاله من" بنما ".مما أدى لموت حاكم "الإنكا " وأغلب عائلته و وريثه , وهو ما أدى إلى انهيار نظام "الإنكا" السياسي واندلاع الحرب الأهلية بين الأخوين" أتوالبا "و "واسكار". وشجع ذلك الصراع القائد الأسباني "بيزارو" فهزم "أتاوالبا" أخيه "واسكار", ثم هزم" بيزارو" "أتاولبا " الذي افتدى نفسه بغرفة من الذهب وغرفتين من الفضة , ومع ذلك نكث وعده "بيزارو" وقتله وقضى على أي معارضة من السكان الأصليين للحكم الأسباني لتظل "بيرو" تحت الحكم الأسباني بخيراتها الوفيرة وكنوز الذهب والفضة , حتى أن ممثل التاج الأسباني "فرانسيسكو توليدو" اجبر السكان الأصليين في استخراج الفضة وذلك في سبعينات القرن السادس عشر ليشكل ذلك نشاطا اقتصاديا للبلاد .


 

فرانسيسكو بيزارو 

 

حرب بيزارو مع السكان الأصليين 

 

        خوسيه دي مارتن 

 

               سيمون بوليفار 

 

  ومع زيادة الضرائب من اسبانيا على سكان "بيرو" قامت العديد من الثورات مثل ثورة " توباك أمارو الثاني" , وظل الحال كذلك حتى جاء القائدان "خوسيه دي سان مارتان" و" سيمون بوليفار" واشتركا في حرب ضد اسبانيا  , حيث ارادا الاستقلال عن اسبانيا وتشكيل اتحاد جنوب أمريكي , و أصبح خوسيه دي سان مارتن الأرجنتيني أول رئيس لبيرو  في 28 يوليو 1821 م , إلا أن الصراع بين القادة أدى لفشل الاتحاد وانهيار الوحدة ما بين "بوليفيا" و"بيرو" - تلك الدول الوليدة والتي نالت استقلالها - بعد إنشائها بفترة قصيرة , ثم دخول "بيرو" الحرب مع "تشيلي" ما بين "1879- 1883" م ، وهو ما أدى إلى خسارة "بيرو" لمقاطعتي "تاراباكا "و"أريكا" وفقا لمعاهدة "ليما" ومعاهدة "أريكا" , وعلى الرغم من كل تلك الصراعات مع الجيران , ألا أن كل هؤلاء الدول جمعهم في يوم من الأيام نفس المعاناة من المستعمر الأسباني الذي أتي من وراء المحيط و أخذ خيراتهم لبلاده وحارب ثقافتهم واختلط بهم وسكن مكانهم وتزوج منهم , لتنشأ دول جديدة تتضافر فيها حضارة المستعمر مع حضارتهم .




وإذا تناولنا معالم "بيرو" المختلفة , يجب ألا ننسى  اللاما ذلك الحيوان الذي يقطن أمريكا الجنوبية هو رفيق كفاح الانسان قاطن تلك البلاد في المناطق المرتفعة والجيلية ولا يعرفه مواطنوا الغابات والمناطق الاستوائية بأمريكا الجنوبية , وقد اتخذته بيرو شعارا لها , فقد قدم لمواطن تلك المناطق وخاصة في دولة بيرو خدمات جليلة , فهو كالبقرة للمصري القديم , والحصان أو الناقة للعربي شهد على بداية حضارته وسانده فيها بصبر وجلد ,و اعتمد على لحمه كغذاء وصوفه في الملابس والمفروشات وايضا كوسيلة نقل وكناقل للاحمال عبر الجبال ،  ذلك الحيوان , هو متعدد الأنواع يختلط على البعض في تسميتهم فالبعض يرى أنهم كلهم لاما , فمنهم : "اللاما" , "الفيكونة ", "الغوناق" , "الألباكا ", وكلما تقدمت الأبحاث تثبت اختلاف درجة القرابة بينهم و يجمعهم كلهم انتمائهم لفصيلة الجمليات و تواجدهم بجبال أمريكا الجنوبية , وكان العلماء في البداية يرونها أقرب للأغنام لكنها وضعت تحت جنس الجمليات وقد اثبتت الحفريات أنها كانت تعيش في العصور الجليدية في أمريكا الوسطى وإذا تحدثنا عن أقرب الحيوانات  شبهاً ويعتبر صنفا فرعيا من اللاما , كان " الغوناق "ولكنه  بري لم يستطع الإنسان استئناسه ربما لأن "اللاما" هناك عوضته عن ذلك , ويتميز عن "اللاما" بأذنه الصغيرة , ووزنه يصل إلى  75 كجم للإناث , 100 كجم للذكور , وارتفاع من 100سم  إلى حوالي 120 سم .  

الغوناق 

 

فيكونيا 




 وهناك "الفيكونيا" يعتمد عليها السكان المحليين في جز فروها وبيعه كنشاط اقتصادي , حيث يخرج السكان من مختلفي الاعمار في رحلة أشبه برحلات الصيد ولكنهم يتركون "الفيكونيا" بعد أن يأخذوا مايحتاجونه من الفرو ويتركوا على جسمها مايسمح لها بالتدفئة ولا يؤخذ من نفس الحيوان فروه بعد الجز إلا بعد مرور سنتين  . 

                                                                                 

                                   ألباكا    


 والنوع الثالث هو "ألباكا" ,  وينحدر من "الفيكونيا ", وهو يشبه الخروف طويل الرقبة أو اللاما الصغيرة , وهو شبه مستأنس , ويربى على مرتفعات الانديز على ارتفاع يتراوح 3500 إلى 5000 متر , ويستفاد من صوفها الذي يصنع منه الملابس الثقيلة و المفروشات , و ارتبطت "ألباكا" بشعب "الموش "في بيرو منذ الاف السنين , حيث سجلت صورها في فنونهم , فقد اعتمد عليها منذ ذلك الوقت وحتى الآن في استخدام  اللحوم والصوف ,  وتربى "الالباكا "في قطعان تصدر اصوات صاخبة عن طريق الاستنشاق للتحذير من اقتراب الخطر , وتستطيع أن تدافع عن نفسها بالركل بقدميها الأماميتين أو البصق .  و"الألباكا " يكون البصق عندها قذيفة من الهواء والقليل من اللعاب الذي يحتوي على طعامها العشبي , وللألباكا سلوك في التخلص من الفضلات يحد من انتشار الطفيليات الداخلية حيث يصطف القطيع في مكان واحد تتكون بعدها كومة من الفضلات . 

                    

                                                                        اللاما

                                   

   ثم يأتي "اللاما" الحيوان الأهم في جبال الانديز , صاحب الصوف الكثيف الذي يدخل في صناعة الملابس والمفروشات وجلده في صناعة الصنادل , ويتغذى السكان الأصليين على لحوم صغارها , ونظراً لأن "اللاما" أكبر أنواع عائلة الجمال  حجماً في أمريكا الجنوبية حيث يصل طوله إلى حوالي 119 سم إلى مستوى الظهر و حوالي 225 سم إلى فوق الرأس , ويتراوح وزنها  بين 130 إلى 155 كجم ، ويبلغ ارتفاعها عند الأكتاف حوالي 1,2م , فتلك المواصفات الجسدية , جعلت السكان منذ تاريخ قديم يستخدمونها في الحمل والنقل حيث تستطيع أن تحمل حتى 90كجم، وتسير بأقدام ثابتة في الممرات الجبلية، لمسافة أكثر من 30كم في اليوم الواحد. وإذا تعب "اللاما" ، فإنه يستلقي على الأرض ويرفض التحرّك. وعند الغضب أو التعرض للهجوم فإنه يبصق بلعاب كريه الرائحة في وجه عدوه ومايبصقه عبارة عن خليط من الطعام غير المهضوم من معدته، له حموضة عالية نسبيًا لأن مصدرها المعدة. وهذه المادة الهضمية الخارجة من معدة "اللاما" هي نفسها المادة التي يخرجها الجمل عندما يعطش وهو يخزنها في سنامه، أما "اللاما" ليس له سنام لذا فهو يخرجها من معدته .  وعند قدم مجيء الأسبان لبيرو في القرن السادس عشر الميلادي استخدموا حوالي 300,000 من حيوانات "اللاما "لنقل الفضة من المناجم. وللأسباب السابقة كانت "اللاما" شريك في بناء حضارة" بيرو" وايضا كانت تربيتها غير مكلف، فهي شديدة التحمل، تعيش على الشجيرات القصيرة ونباتات "الأُشنة "وغيرها من النباتات التي تنمو في الجبال المرتفعة. كما تتحمل البقاء لعدة أسابيع بدون ماء، وتستعيض عنه بالنباتات الخضراء الرطبة .

السبت، 17 أكتوبر 2020

مآدب دموية

 

 

مذبحة القلعة 
                           

الخلاف بين البشر يشكل  أحد طبائع النفس  , و الذي ربما قد يتنامى ليصل لصراع  دموي لا ينتهي , وقد ينتهي الصراع بالصلح النهائي فيجعل ماسبق حدوثه مجرد ذكرى مؤلمة واجبة النسيان , وقد يكون الصلح فصلا من فصول انتقام , فيها أحد الطرفين يشتعل قلبه حقداً ,  يمد يده بالسلام بينما اليد الأخرى تخفي السلاح وراء الظهر . 

    و مؤكد حدث هذا في مناسبات كثيرة يصعب حصرها - بالطبع لم تسجلها  المصادر التاريخية كلها - ومن مظاهر إكساب عملية الغدر تلك المصداقية  أن تتم المصالحة في حفل ومأدبة ليكون الناس شهوداً على حسن النية , وليندس أعوان الغادر وسط الناس ويقوموا بمساعدته دون إثارة الشبهات . وأقدم عملية للغدر من الخصم وسط مأدبة صلح سجلها التاريخ .  كانت جزءا من مراحل أسطورة مصر الشهيرة " ايزيس و أزوريس " الأسطورة التي سجلت في تاريخ مصر القديم على مدارمئات السنوات ربما من قبل التاريخ , فكان أول ظهور لها كصورة مكتملة في أول نصوص جنائزية في مصر في نصوص الأهرام في الأسرة الخامسة , ثم في الدولة الوسطي بنصوص التوابيت , وكتاب الموتى بالدولة الحديثة ثم في العصور المتأخرة  بكتابات الرحالة الاغريق وحتى القرن الثاني بعد الميلاد بكتابات المؤرخ والفيلسوف اليوناني بلوتارخ , وعلى مدار تلك العصور حدثت اختلافات بسيطة في الروايات وبقيت أحداثها الاساسية كماهي فالصراع بين الأخوين ست إله الشر وأوزرويس ملك مصر من ضمن  أحداثه قتل ست لأوزوريس وتمزيق جسده وتوزيعها على الأقاليم حتى لا يبعث مرة أخرى , فتطوف ايزيس زوجة أوزوريس البلاد هي وأختها نفتيس  زوجة ست والتي لم تكن راضية عن أفعاله , لتجمعا اشلاء الجسد وكانتا على شكل حدءتين , وتبكي ايزيس و تحيي  دموعها الجسد الميت , ثم تحمل من زوجها بحورس ملك مصر القادم وبطل الفصل الثاني من صراع الخير مع الشر , وبعد ذلك يخطط  ست لقتله مرة أخرى بطريقة ناعمة و جو سلمي مرح , فيقيم مأدبة يحضرها أوزرويس الذي نسي غدر أخيه من قبل به , ويعلن ست عن منح صندوقاً هدية للشخص الذي يتناسب مقاسه معه , وكان قد أمر باعداد واحداً يتناسب مع حجم أوزوريس , فيقوم الضيوف ، واحدًا تلو الآخر، بالنوم في الصندوق ، لكن أحدًا لم يناسب مقاسه سوى أوزوريس. وعندما يرقد أوزوريس بداخله ، يضع ست ورجاله  الغطاء على  الصندوق ويحكموا غلقه ، ويلقوه  بالنيل فيطفو الصندوق ، ويصل للبحر وتنتهي رحلته  لمدينة جبيل حيث تنمو شجرة حوله ثم يأمر ملك جبيل بقطع الشجرة لعمل دعامة لقصره ، ويكون الصندوق بداخل الشجرة. وتصل ايزيس لجبيل و وتخرج الصندوق من الشجرة حتى تستعيد جسد زوجها. و تترك الشجرة في جبيل حيث تصبح موضعًا للعبادة هناك . ويصبح بذلك أوزوريس ضحية للمرة الثانية لأخيه نتيجة مأدبة صلح كاذبة .

 وقصة أخرى للمآدب الدموية في العصر القديم لم يذكر تاريخها بالتحديد , ذكرها القرآن الكريم في قصة النبي يوسف عليه السلام  , وكانت من مراحل رحلة يوسف الطويلة بعيدا عن أهله . فبعد أن رماه أخوته في البئر وهو صغير وادعوا أن الذئب أكله , والتقطته قافلة , باعوه لعزيز مصر الذي رباه , وعندما كبر حاولت إغوائه امرأة العزيز  فأبى وأتى الله بالبرهان على صدقه وافتراءها عليه , فنقلت تلك الأخبار  المشينة لأهل المدينة , وأصبحت حديث النساء , فقال عز وجل في سورة يوسف الآية 30  " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين " , فأصبحت في نظرهن تعيش في الضلال بعد أن ملكها حبه , ففقدت رشدها , فأوغل صدر امرأة العزيز , التي لم يحفظ لها مالها و حسبها كرامتها , وارادت الانتقام منهن , فدعتهن لقصرها و أعدت لهن مأدبة ومجلس يليق بمركزها وبضيوفها , وذلك في الآية الكريمة التالية من نفس السورة , حيث قال الله تعالى : " فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " , وبذلك تم لها الانتقام , فلما رأين جمال يوسف لم يشعرن بالسكين وهو يجرح أيديهن , ولم تكتف برؤية ماحدث بل تتشفى فيهن لتشعرهن بالندم والتأنيب النفسي وكذلك أرادت منهن أن يلتمسن لها العذر , كما وردت في الأية الكريمة التي تلتها :" قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " .

ونقلة أخرى لتاريخنا الاسلامي , و حادث آخر لمأدبة صلح دموية غادرة , وكان ذلك في الأندلس وسميت بوقعة الحفرة عام 199 هجرية – 814 م , وكانت على عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل , حيث أسس جده دولة اسلامية مستقلة في الأندلس بعيدا عن الخلافة الأم في بغداد , وقد شبه الحكم بالخليفة العباسي المنصور , في حزمه و قوته وشدة ذكاءه , حيث استطاع القضاء على العديد من الفتن و الثورات في عهده , فقد ثار أهل طليطلة عام 181هجرية – 797 م بل وبايعوا أحد المولدين ويدعى عبيدة بن حميد – المولدين هو جيل جديد نشأ في الاندلس من آباء مسلمين عرب و بربر و أمهات  مسيحيات – فأرسل لهم جيشا بقيادة عمروس بن يوسف حاكم البيرة والذي  فشل في القضاء عليهم , فأدرك الحكم  أن القوة لن تنفع فلجأ للحيلة  , و طبق مبدأ فرق تسد , فاتصل سرا ببني مخشي من أهل طليطلة ووعدهم بالعطايا  , وتآمر معهم على قتل عبيدة بن حميد زعيم ثورة التمرد  , فذهب كبارهم  برأسه للقائد عمروس في البيرة ليرسلها للحكم , فأكرم وفادتهم وهو بعلم بوجود ثأر قديم بين بني مخشي وبين بربر مدينة البيرة , الذين وثبوا عليهم قتلوهم  , فذهب برؤوسهم جميعا لمقر الحكم , وانتهى من كل الأطراف دون أن يرفع سلاحه على  أحد .

فأعجب الحكم بعقلية عمروس  في الخديعة فولاه طليطلة , وأرسل لأهل طليطلة يبشرهم أنه قد جاء بواحد من المولدين والياً عليهم يرعى أمورهم ولن يكرههم على أحد أو شيء لا يرتضونه , فاطمئن أهل طليطلة , خاصة أن عمروس أظهر كرهه لبني أمية و رغبته في الثورة عليهم , ثم شرع في بناء قلعة حصينة بحجة عدم مضايقة ومزاحمة  جنده لأهل طليطلة , فلم يعارضوه على بناء الحصن في وسط المدينة , وعندما انتهى البناء أرسل للحكم يخبره بذلك , و الذي لجأ لخدعة جديدة حيث أرسل لحاكم الثغر الأعلى يأمره بأن يكتب إليه مستغيثاً من هجوم جيوش نصارى أسبانيا , فيصل الخبر للحكم فيجهز جيشا بقيادة ابنه عبد الرحمن بدون أن يثير أي شك لما ينويه , فينطلق شمالا حتى يصل طليطلة , وهنا يصله خطاب آخر بأن جيوش نصارى أسبانيا تفرقت وابتعدت عن الثغر الأعلى , فيستعد عبد الرحمن للعودة لقرطبة , فينصح عمروس بن يوسف وجهاء وزعماء المولدين , بالخروج والترحيب بعبد الرحمن بن الحكم , وفي نفس الوقت يرسل الحكم برسالة خفية لعمروس ليقنع زعماء المولدين , بأن يدخلوا بعبد الرحمن  وجنوده للمدينة فيرى قوتهم و كثرتهم , فيقتنع أهل طليطلة فيدخلها عبد الرحمن وجنوده بعد أن أظهر تمنعا في البداية ثم قبل الدعوة , و يقيم بالقلعة التي أقامها عمروس وليمة عظيمة لزعماء الولدين , بحيث يدخلوا من باب ويخرجوا من آخر بحجة عدم التزاحم , وكانوا يدخلون فيذهب بهم لجهة معينة يقطعون رقابهم ويلقون بالجثث في حفرة كبيرة خصصت لذلك من قبل , وفي نفس الوقت كان قرع الطبول و صوت المزامير يعلو على استغاثة أي أحد منهم , وظل الحال هكذا حتى منتصف النهار عندما لاحظ أحد حكمائهم , أنه لم يقابل أحدا من باب الخروج , وأن البخار المتصاعد كان بخار الدم لا دخان الطهي , فهرع الباقين وفروا وقضي على ثورتهم , بعد أن أعطوا الأمان لعبد الرحمن بن حكم ولوالي طليطلة الذي كان واحدا منهم .   

    ويشهد العصر الحديث على مأدبة دموية حدثت في مصر في عهد محمد علي , ذلك الوالي الذي صعد لسدة الحكم عام 1805 م  , بإرادة الشعب الذي لم يستطع تحمل ظلم و ضرائب ولاة الدولة العثمانية , فكان لذلك الوالي الجديد  صدامات دموية مع المماليك حتى من قبل أن يتولى الحكم , ومثلما قبل السلطان العثماني وجوده هو والأرناؤوط أو الألبانيين ,  أظهر له  محمد علي الولاء حتى يضمن تقوية جبهته الداخلية ثم مواجهته بعد ذلك , وكان له بالفعل ما أراد  ففي 1807 م عام  تمكن أهل رشيد من صد حملة فريزر الانجليزية ,  بعد أن فتح لهم حاكم الاسكندرية أمين أغا أبوابها , فتشجعت قوات محمد علي وهزمت الانجليز وطردتهم , وحالف الحظ مرة أخرى محمد علي , فقد توفي كلا من عثمان بك والألفي زعيمي  المماليك واستمر الخلاف بين مماليك الزعيمين , و نفى من أوصله للحكم  وهو الشيخ عمر مكرم الذي اتهمه بالفساد المالي لدمياط عام 1809م  أما باقي المشايخ فتم استمالتهم بالعطايا والاستقطاعات , وقد طلب منه السلطان مصطفى الرابع عام 1807م , تنظيم حملة لمحاربة الوهابيين الذين سيطروا على  الحجاز لإنهاك موارده و جنوده , فاعتبرها محمد علي فرصة جيدة ليشغل فيها جنوده  عن اثارة الاضطرابات  . و قرر قبل أن يذهب جنوده للقتال أن يقضي على أقوى خصومه في مصر ألا وهم المماليك , وكان قبل ذلك قد ضمن التأييد الشعبي لما سيفعله بأن ترك للمماليك جبابة الضرائب وهو يعلم أنهم أكثر خبرة منه في تلك الأمور وسيكونون في المواجهة مع المصريين بل وكان يعلن عدم رضاه عن أسلوبهم في جمع الضرائب ثم كانت الخطوة التالية بتدبير رفيقه عند مجيئه لمصر وصديقه "لاظوغلي "باشا  وكان هذا أنسب وقت لها ,  فمماليك القاهرة كانت بينهم وبين مماليك الصعيد مراسلات مريبة كما أن خروج ابنه "أحمد طوسون" للحجاز قد يغري المماليك بالقيام بالثورة  , فقام بتحضير حفل خروج  للحملة ودعا فيه كبار رجال الدولة والعلماء والأعيان والأمراء المماليك والبكوات والكشاف وكان ذلك في أول مارس 1811م , وقد أوهم محمد على سادة المماليك بأن دعوتهم تشريف لموكب ابنه , و اطمئن له المماليك حيث جالسهم واحتسى معهم القهوة , حتى جاء موعد التحرك و الخروج من "باب العزب" في الجهة الغربية من القلعة فكان الترتيب أن يتقدم الموكب الفرسان بقيادة " أوزون علي " ثم والي الشرطة والآغا محافظ القاهرة والمحتسب , ثم الجنود الأرناؤوط بقيادة " صالح آق قوش " ثم كان دور المماليك يتقدمهم "سليمان بك البواب "يليهم دفعة ثانية من الجند الأرناؤوط وعندما اجتازت مقدمة  الموكب البوابة وجاء دور  المماليك في الخروج من باب العزب أقفل الباب من الخارج , وتسلق الجنود الأرناؤوط الصخور من الجانبين وانهالوا بالرصاص على المماليك الذين وقفوا في مصيدة ذلك الممر الصخري , ثم انهالوا علي البقية منهم  بالذبح , وامتلأ الفناء بجثثهم , وسالت الدماء على الطريق المواجه للباب فسمي الطريق بالدرب الأحمر ثم قطعت رؤوسهم بأمر "كتخدا بك " ووضعت رؤوس كبارهم على باب الجامع الحسين ليكونوا آية وعبرة على قوة الباشا الجديد و بطشه , ولم ينج من تلك المذبحة إلا "أمين بك"  الذي قفز بجواده من على سور القلعة وكان في مؤخرة الصفوف ليهرب للشام , كما قام الجنود الأرناؤوط بمهاجمة بيوت المماليك ونهبها وقتل كل من يجدونه منهم , وظل الحال كذلك ثلاثة أيام حتى نزل محمد علي بنفسه للقاهرة ليوقف جنوده بعد أن قتل حوالي ألفاً من المماليك , و تكررت تلك المذبحة من ابراهيم باشا للمماليك الفارين للصعيد , في اسنا عام 1812م , وذلك بعد دعوة الفارين منهم للصلح واعادتهم لمناصبهم مقابل أن يعترفوا بحكم محمد علي , حيث كانوا قد لجأوا لزعماء العبابدة والبشارة فانطلت عليهم الخدعة , ثم بعدها  فر من نجى منهم  للسودان .