التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الخميس، 18 فبراير 2021

غزاة الشمال



هم سكان شمال أوروبا أو مايسمى شبه جزيرة "اسكندنافيا" وبحر البلطيق , عاشوا في فقر وتأخر في النواحي الحضارية وامتهنوا الزراعة وصيد الأسماك  . أخذوا الحروف اليونانية ليسجلوا بها نصوص السحر التي كانت من طقوسهم الدينية الوثنية , وكانوا بحارة بارعين ففقر مواردهم دفعهم للمجازفة وركوب البحر , وقد عثر على سفنهم في المستنقعات الدانمركية , والتي تميزت بطولها وضيقها واستعمل فيها المجاديف أو الصاري لتكون مهيئة للرسو في البحار أو الانهار .

                         سفن الفايكنج التي عثر عليها سليمة 

   وهم شعوب "أنجلو سكسونية" , وقد اسمتهم باقي الشعوب الأنجلو سكسونية "الدانيون "Danes تمييزاً عنهم , وكذلك اسموهم "الشعوب الشمالية " أو Northmen . وقد انقسموا قسمين : قسم اتجه شرقاً متجهاً من السويد إلى نهر الفولجا وبحر قزيون وامتهنوا التجارة في تلك المناطق بل واستقروا واسسوا مستعمرات تجارية , فكانوا طبقة غنية سيطرت على سكان البلاد في تلك الجهات وجنحوا للعيشة المتحضرة وتأثروا بالحضارة البيزنطية , ووصلوا للقسطنينية العاصمة وكان منهم حرس امبراطور بيزنطة .

   أما القسم الثاني الغربي فكان من الدانيين والنرويجيين وعرفوا باسم "فايكنج" أو Viking وقد اتجهوا لانجلترا وفرنسا و جزيرتي ايسلندا وجرينلاند و أسسوا محطات لهم هناك .

                                    دير لينديسفرن 
  

ومع نهاية القرن الثامن الميلادي استطاعوا ادخال  تعديلات على سفنهم ليخرجوا للمحيط الواسع وقد شهد هذا القرن تحسن في الأحوال المناخية فحملوا أسلحتهم التي صنعوها من الحديد ممتهنين مهنة القرصنة بعد أن ضاقت أرضهم بمواردها المحدودة  ولم تف بحاجة السكان الذين كانوا في ازدياد . وقد خدمتهم الظروف حيث قضى الفرنجة - قبائل سكنت ألمانيا وشمال فرنسا – على قوة الفريزيين - قبيلة جرمانية سكنت ساحل بحر الشمال في هولندا وألمانيا - وكانوا سيشكلون عائقاً أمام تقدمهم .

   وقد سجل التاريخ أول هجوم لهم على دير بجزيرة "لينديسفارن" أو الجزيرة المقدسة , وهي جزيرة صغيرة على بعد خمسة كيلو مترات من ساحل نورثمبرلاند الانجليزي , وبعد نجاح الهجوم استساغ غزاة الشمال الأمر فكانوا يشكلون جماعات صغيرة تنزل للقرى للسلب والنهب والحرق والقتل ثم تفر بسفنهم  قبل أن يتخذ السكان أي وضع للدفاع وقد ظهر من الملوك الشماليين ماقاد تلك الهجمات مثل الملك "هارولد الأشقر " فاتجهوا إلى جزر شتلاند وأوركني .

   إلا أن الأمر تغير فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي , كان الشماليين يأتون بإعداد أكبر بهدف الاستقرار , لمدة أطول فشهد شتاء عام 851م , على استقرار الشماليين على سواحل جنوب شرق انجلترا . كما اقاموا نقاط حصينة في شتلاند وأوركني لتسجيل عمليات خاطفة على قرى أيرلندا ونهبها والتي دخلوها في عام 868م , ثم استقروا في ايسلندا منذ عام 870م , ثم اتجهوا بعد ذلك للاستقرار ببعض الأماكن في جرينلاند. وساعدهم في التجول بحرية موت امبراطور أوروبي قوي كانت له سيطرة على أوروبا هو "شارلمان " .

                           الامبراطور شارلمان 

   وقد أعجبهم الحال في انجلترا فطمعوا فيما هو أكبر , فقادهم ملكهم "هنجوار "لمهاجمة ممالك انجلترا ونهب ثرواتها , ولم تصمد أمام الهجوم سوى مملكة "وسكس" بقيادة الملك "ألفريد بن أثيلوف" (871-899)م , والتي كانت المعارك بينه وبين الشماليين سجال , ولجأ "ألفريد " لخطة ذكية بدأت بعقد هدنة معهم عام 872م لأربع سنوات , ليعد فيها جيشه الاعداد الكافي, وكان الشماليين بدورهم مشغولين بغزو مملكة "مرسيا " , فوصلت الأخبار للشماليين الذين خرقوا المعاهدة وقرروا الهجوم سنة 878م , فكان ذلك مفاجأة صادمة لألفريد هزم فيها واضطر للفرار ومعه فلول جيشه وخدمته الظروف عندما أعاق تقدم الشماليين المناطق الموحلة في فصل الشتاء , وفطن ألفريد أن القوة وحدها لاتكفِ بل يحتاجها استخدام نفس سلاح الشماليين بتجهيز اعداد كبيرة من القوارب السريعة ذات المجاديف الكثيرة فاشتبك معهم عام 879م وانتصر عليهم , وقد اضطر زعيمهم "جوتروم" لعقد صلح "ودمور" عام 886م , وكان من شروط الصلح اعتناق الشماليين للمسيحية , ووضع حداً لنفوذ الشماليين في انجلترا فكانت نفوذهم شرق الطريق الروماني أو "والتنج " ومناطق نفوذ ألفريد غربه .

الملك ألفريد 


   غير أن الحرب عادت بعد تسع سنوات عام 892م , انتصر عليهم ملك وسكس و توغل داخل مناطق نفوذهم في انجلترا وقد عادت مدينة "لندن" لحكم الانجليز . ووحدت بذلك جنوب غرب انجلترا وكان ذلك تمهيدا لوحدة انجلترا ذات الممالك المتعددة . وجعلت ألفريد يبني القلاع والحصون ذات الحاميات العسكرية حول المدن الكبرى , واهتم بالاسطول الذي استعان فيه بأصحاب الخبرة من الفريزيان , واعاد ترتيب الجيش  فقسمه لثلاثة أقسام تستحق الخدمة لكل قسم لمدة شهر ثم يعود لعمله في الزراعة , حتى لايتأثر اقتصاد المملكة , وإذا كان ألفريد لمس من اعدائه الدانيين التخلف في النواحي الحضارية فأراد لبلده النهوض لمواجهتها من كل النواحي فطور من التعليم ونشر المدارس بعد أن كان مقتصراً في بلاده على رجال الدين وأنشأ مدرسة بالقصر لأبنائه وابناء الحاشية واستقطب العلماء والمفكرين والأدباء واسس جامعة "اكسفورد " ,ونشر القوانين واختار الصفوة لمهمة القضاء , واهتم بترجمة الكتب اللاتينية المشهورة مثل "تاريخ العالم , وسلوى الفلسفة " , وسجل بنفسه تاريخ بلاده في" حولية الأنجلوساكسون "باللغة الانجليزية المحلية ,  كما دون سيرته الذاتية الراهب "آسر الغالي " الذي كان مقرباً منه ومعلمه للغة اللاتينية , وايضا بنى الكنائس بغرض التبشير , ورمم كل الكنائس والأديرة التي دمرها الدانيون . ولتلك الاصلاحات لقب بألفريد العظيم , واستمر ابنه من بعده في صد الدانيين وزيادة وحدة انجلترا بالمصاهرة مع مملكة "مرسيا" الانجليزية واسترد بعض الأماكن التي خضعت للدانيين من قبل , وتوالى من بعده الملوك الانجليز الأقوياء الذين هادنوا الدانيين وكانت انجلترا القوية مركزها "وسكس", ولكن بعد وفاة الملك "ادجار "عام 975م قامت الحروب الأهلية , وزاد الصراع على العرش , واعتلى الحكم ملوك صغار السن ضعفاء , فاستهان النبلاء بهم , وشجع هذا الدانيون للهجوم عام 980م , ووحدوا قوتهم مع النرويجيين بقيادة ملوك حقيقيين بدلا من زعماء القبائل , ففرض الملك الانجليزي "اثلرد " على شعبه الضرائب وحاول دفعها للشماليين ليثنيهم عن غزوهم , إلا أنهم استمروا في مهاجمة الأراضي الانجليزية ولم يستطع الشعب المنهك من الضرائب على صدهم , وأصبح الملك الداني "سوبين " ملكاً على انجلترا عام 1013م , " وخلفه من بعده ابنه في العام التالي "كانوت " الذي عاد للحرب معه "اثلرد " الذي قد فر إلى نورمانديا  , ولكنه مات عام 1016م و تولى ابنه "ادموند" الذي انتصر على الدانيين , وأخذ الجزء الجنوبي من انجلترا , وبقي الجزء الشمالي في حوزة "كانوت " حتى توفي "ادموند" وعادت انجلترا لحكم الدانيين  , ولقد وعي "كانوت " الداني الدرس جيداً -إذا ما أراد تثبيت ملكه- فكان مسيحياً يحترم بابا روما , وساوى بين الانجليز والدانيين في الحقوق والواجبات, ونظم الضرائب , واستعان بمستشارين انجليز , وتقرب من  مجلس الوفاق الذي كان رافضاً لحكمه من قبل , واستعان بأهل الثقة ليكونوا نوابه في المقاطعات , واطلق عليهم اسم "ايرل " , وقسم المقاطعات ليديرها النبلاء ويرأس كل نبيل "ايرل ".

 

الملك كانوت 

وانتعش الاقتصاد وقتها حيث عقدت الاتفاقيات مع التجار الأوروبيين لكون "كانوت "يسيطر على منطقة واسعة تمتد من انجلترا وحتى الدانمرك والسويد والنرويج . ولكن بعد موته عام 1035  م , تفككت الامبراطورية واختارت النرويج الانفصال , واختار مجلس الوفاق "ادوارد بن ادموند" لحكم انجلترا عام 1042م , و حمل ادوارد المعترف – لقب بذلك نظراً لورعه , والذي امضى حياته في نورمانديا الفرنسية-  مظاهر الثقافة الفرنسية التي ظهرت في بلاط القصر , واصبح النورمان هم المستشارين والحكام , وعند وفاته في عام 1066م لم يكن له وريث , فعادت الفوضى للبلاد , فدخلها الحكم النورماني منهياً بذلك آخر صفحة في حكم الشماليين على انجلترا .

    ومما لا شك فيه بعيداً عن سلب ونهب الشماليين والكنوز التي أخذوها لبلادهم , فقد حدثت تأثيرات جسيمة للشماليين لم تجعلهم كما كانوا قبل الخروج للغزو فقد لمسوا من الحضارة في نواحي كثيرة لم يألفوها من قبل لاسيما اعتناقهم المسيحية.

   أما تأثيرهم على انجلترا فقد محوا عادة كانت  معروفة عند الانجليز وأبطلوها في الجزء الشرقي الذي استقروا فيه حيث لم يكن فيه نظام العبيد والذي لم يعرف في بلادهم , وعلموا الانجليز احتراف ركوب البحر فازدهرت الحياة في انجلترا المعزولة وفتحوا لها المجال للخروج للبحر الواسع , وكذلك ظهر أثرهم في ترك الأسماء الدانية التي تنتهي بحروف by, Thorpe , و نقلت كثير من الكلمات الاسكندنافية للانجليزية مثل sky, window  take.

 


السبت، 13 فبراير 2021

دراهم ودنانير


   من يقرأ القرآن ويدقق في معانيه وصوره , يجده ينقل لنا بصورة غير مباشرة أحوال البشر في نواحي حياتهم العديدة , ومنها آيات كريمة ذكرت فيها العملات النقدية , وذكرت بأسمائها باللفظ , فذكر الدرهم في الآية الكريمة 75 من سورة " يوسف " في قوله تعالى " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ " . وذكر الدينار في الآية الكريمة 20 من سورة " آل عمران " في قوله تعالى " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ " . وسواء تناول القرآن الكريم أحوال الأمم السابقة أو المعاصرة لنزول الوحي فكان ينقل صورة قريبة لذهن أول مجتمع تلقى الوحي , أو مجتمع الجزيرة العربية ذلك المجتمع القبلي البدوي الذي لم يعرف الحكومة المركزية ,  ولم ير من التقدم سوى مامر عليه من التجار الغرباء أو ما رأوه ولمسوه خارج حدودهم عندما خرجوا للتجارة ويذكر لنا التاريخ أن "بنو عبد مناف " قد عقدوا معاهدة مع الامبراطورية البيزنطية ,و "بنو عبد شمس" مع الامبراطورية الفارسية , وعقد "بنو عبد المطلب " معاهدة مع اليمن , و " بنو عبد نوفل " مع الحبشة  , والتجارة أوذلك النشاط  الحيوي التي كانت شريان الحياة لهم كان لزاماً له العملة المتمة لصفقاته , فلجأوا للاعتماد والتعامل مع العملات الدولية المعروفة في ذلك الوقت , وكانت جارتهم الجنوبية "سبأ" قد عرفت العملات المعدنية وقد عثر على عملة فضية سبئية ترجع للقرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد عليها وجه العملة المعبودة اليونانية "أثينا " وقد تدلى من أذنها قرط وعلى خدها حرف النون السبئي , وظهر العملة عليها بومة وهلال وغصن زيتون به ورقتان وسطهما حبة زيتون وأول حرفين من أثينا بالخط اليوناني , فاًذا كانت العملة اليونانية دولية في ذلك الوقت كانت تسك في العديد من البلاد دون اضافة , فإن سبأ قد أضافت بصمتها الخاصة لتؤكد كيانها الاقتصادي ويرجح أن حرف النون السبئي هو أول حرف من اسم ملكها "نشا كرب " , الذي حكم حوالي 250 ق.م , أوملك آخر هو  "نصرم " الذي حكم تقريباً عام 200قبل الميلاد , وقد اكتشف أيضا عملة سبئية برونزية يظهر عليها صورة رجل وخلفه قرص الشمس وعلامة شخصية وعلى الوجه الآخر نفس الرجل ومنقوش "كرب إلي وتر " ويشير ذلك للملك السبئي "كرب إلي وتر " الذي حكم حوالي 160قبل الميلاد , وظهر التطور في أن العملة أصبحت تمثل الملك السبئي وتكتب اسمه بلغتهم الخاصة ووضعت كذلك صورة المعبودة المحلية الشمس "ذات حمم "  بدلا أثينا الأجنبية . وكذلك كان للأنباط في الشمال دولة مستقلة في الشمال الغربي للجزيرة العربية حيث عثر في بترا أو "البتراء" العاصمة على عملة برونزية عليها صورة القيصر  "ترايانوس " تراجان واسمه منقوش باليونانية ممايعني أن العملة كانت في الفترة مابين 98-117ميلادية حيث كانت مملكة الأنباط تحت الحكم الروماني , أما الوجه الآخر نقش عليه باليونانية "بترا" وصورة المعبودة "اللات – مناتو " معبودة المدينة .

        عملة يمنية قديمة 

  وكما رأينا بالأدلة أن عرب شبه الجزيرة العربية كان متاحاً لهم استخدام العملات الدولية  وكذلك عملات الممالك العربية على أطراف شبه الجزيرة , وقد وظل الحال كذلك حتى ظهور الاسلام وظهور دولة مدنية أسسها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عاصمتها المدينة .

   والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما اهتم بالدعوة للدين الاسلامي , اهتم بأحوال الرعية في الحياة الدنيا , وبطبيعة الحال كانت تلك الدولة الوليدة , لاتملك الامكانات لسك عملة خاصة بها , فلجأت لتداول العملات الدولية الموجودة وقتها , ولم يجد غضاضة في ذلك فالرسول صلى الله عليه سلم عندما زوج ابنته فاطمة رضي الله عنها من علي بن أبي طالب كان مهرها 480 درهماً كسروياً من الفضة , منقوش عليها  صورة معبد النار "آتش كاه "  , كما كانت الدنانير البيزنطية الذهبية صاحبة صورة الصليب , عملة معترف بها في دولة الرسول صلى الله عليه وسلم , وكذلك كانت العملات اليمنية الحميرية ,  وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم , عام 11 هجرية , فتولى أبو بكر الصديق الخلافة وانشغل بحروب الردة , التي كادت أن تقضي على دولة المسلمين في شبه الجزيرة , فلم تقر سكة جديدة خاصة بالدولة الاسلامية , وظلت العملة البيزنطية هي المتداولة , حتى توفي عام 13 هجرية , وتولى بعده عمربن الخطاب والذي بدأت في عهده الفتوحات الاسلامية تأخذ شكلا أكثر توسعاً , بعد أن كانت في البداية صدامات على الحدود مثل غزوة مؤته عام 8 هجرية , وتم في عهده فتح الشام ومصر والعراق وفارس , فبقيت العملة الفارسية والبيزنطية كماهي معترف بها , مع إضافة نقوش اسلامية ,مثل : "الحمد لله " , " محمد رسول الله " , كما ضربت عملات كان ينقش عليها اسماء المدن بالعربية واليونانية فكان عليها اسماء المدن التي كانت من قبل  تحت الاحتلال البيزنطي ولا تزال اللغة ليونانية مستخدمة فيها  , مثل : دمشق , وحمص , وطبرية , و بعلبك , وإيليا , ,قنسرين . كما زيدت عليها كلمات تشير لوزنها الصحيح , فالعملة البرونزية التي سكت في دمشق أضيف عليها كلمة "جايز " , أما التي سكت في حمص فأضيف عليها كلمة "واف " أو "طيب" .

  وكان للدرهم الفارسي قيمة مختلفة من مكان لآخر , ولتوحيد ذلك أقر قيمة واحدة له في كل أنحاء الدولة الاسلامية .

   وفي خلافة عثمان بن عفان "23هجرية – 35 هجرية " زيد على الدراهم عبارة "الله أكبر " .

     وفي عهد أول خلفاء الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان , طرأت تحولات جديدة على الدولة الاسلامية في كل النواحي ومنها العملة فعثر على دنانير بيزنطية من عهد معاوية بن أبي سفيان عليها صورته متقلداً سيفه متشبهاً بالأباطرة البيزنطيين , , وبعد وفاة يزيد بن معاوية , أعلن عبد الله بن الزبير عن خلافة جديدة مقرها مكة المكرمة وبايعه كل المسلمين ماعدا بعض المناطق في الشام ,وقد وصلت إلينا معلومات من المقريزي أن "عبد الله بن الزبير" ضرب دراهم منقوش على وجهها "محمد رسول الله " وعلى ظهرها "أمر الله بالوفاء والعدل " , وضرب أخوه مصعب في العراق دراهم فارسية سنة 70 هجرية , مكتوب على أحد الوجهين "بركة الله " والآخر "اسم الله " .

    ولم تصمد دولة عبد الله بن الزبير وكذلك دولة قطري بن الفجاءة الذي اراد هو الأخر تأسيس خلافة بعد وفاة ابني الزبير وسك لنفسه عملة وقد استعاد بنو أمية منه الخلافة , فحدث التطور الأهم في العملة وذلك في عهد الخليفة "عبد الملك بن مروان " "65 هجرية – 86هجرية " وهو سك عملة عربية اسلامية خالصة , في اجراء اقتصادي يتوازن مع التعديلات الادارية التي اجراها بتعريب الدواوين , لتدخل الدولة الاسلامية مرحلة جديدة .

                           

                           درهم قطري بن الفجاءة 

   

    وفي بداية حكم عبد الملك بن مروان كانت الدنانير الاسلامية على غرار الدنانير البيزنطية مع بتر أعلى الصليب وظهر حرف " T " محاطاً بعبارات التوحيد بالخط الكوفي .  والوجه الآخر كانت صور هرقل وابنيه قنسطنين وهرقليانوس . وعموداً قائماً على المدرج الذي يحمل الصليب . 

            دينار هرقل وأولاده في بداية حكم عبد الملك بن مروان                       


 ثم ظهر ديناراُ جديداُ أثار عاصفة من الاعتراضات , حيث حمل صورة عبد الملك بن مروان , وعلى الوجه الآخر عمودأ قائماً على أربع مدرجات بدلا من الصليب وعلى الحافة عبارة "بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست وسبعين " , فاعترض البيزنطيون بشدة على ذلك واعتبروه خروجاً على نظام النقد البيزنطي العالمي, أما داخل الدولة الاسلامية فقد اعترض جماعة من الصحابة لتشبه الخليفة بالأباطرة , كما أن الصور ينهى عنها الشرع .


    
صورة عبد الملك بن مروان على العملة 

  

وبرغم ذلك كانت تلك مجرد البداية فضرب عبد الملك بآراء الجميع عرض الحائط واصدر العملة الاسلامية الخالصة عام 77 هجرية , فكان ديناراً اسلامياً على أحد الوجوه في الوسط عبارة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له "  وعلى الحافة "محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " , والوجه الآخر في الوسط " الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد " , وعلى الحافة "بسم الله ضرب هذا الدينار عام سبعة وسبعين " . 

       

العملة الأموية العربية الاسلامية الخالصة 

وبذلك خطت الدولة الاسلامية خطوة واسعة لأن تتبوأ عملتها مكانة مميزة في العملات العالمية ذات الثقل الاقتصادي العظيم لتتواكب مع الفتوحات والتوسعات ودرجات التقدم الكبيرة التي وصلت إليها دولة المسلمين  في كل المجالات .  

الجمعة، 5 فبراير 2021

نشأة سفاح

 


   في يوم الثامن والعشرين من أغسطس عام 1227م , مات جنكيز خان في "هاسيا –هسي" بالصين وكانت وصيته أن يدفن في مسقط رأسه بمنغوليا وتحديداً فى العاصمة "قراقورم " , وكان موكبه الجنائزي يمر بطريق طويل كان مصير كل من قد شاهده القتل سواء كان بشراً أو طائراً أو حيواناً , حتى لايتسرب خبر وفاة القائد الأعظم فتحدث اضطرابات في الامبراطورية المترامية الأطراف , وقد يرى الكثير في ذلك دموية لامبرر لها , ولكن حياة ذلك الشخص كانت دموية أكثر فقد تسبب في قتل مالايقل عن سبعة وثلاثين مليون شخص واستمر في سفك الدماء نسله من بعده لا لشئ سوى استعمار مدن وقتل كل ساكنيها بلارحمة وبدون أسباب . وعند وصول جثمانه كان زعماء المغول قد اجتمعوا لتشييعه ثم دفن في غابة قد أوصي بان يدفن فيها تحت شجرة , وعهد لإحدى العشائر بحراسة القبر وحرق البخور دون توقف حتى تكاثفت وتشابكت أشجار الغابة المحيطة بالقبر فيختفي أثره . وقد اختلف المؤرخون في أسباب مقتله وكان كل فريق يفسره بطريقة تتناسب ومايريد . فذكر المؤرخون الصينيون بأنه قتل من جرح قاتل أصابته بأسنانها "كوربيلديشين خاتون " أرملة حاكم التانجوت عندما هم جنكيزخان بمداعبتها في حريمه : ثم ألقت بنفسها في النهر الأصفر , ويشكك في تلك الرواية فربما يكون ذلك لتلطيخ سيرة جنكيز خان بأن نهايته كانت على يد امرأة , أما يوحنا الكاربيني فذكر أنه عند زيارته لقراقورم علم أن الوفاة كانت نتيجة الاصابة بسهم , وقد ذكر هذا ايضا الرحالة ماركوبولو .

   وإذا كانت تلك الوفاة محاطة بالأساطير والدماء , كانت ايضا الحياة , ولم  تختلف عنهما البداية , فقد اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته فمنهم من ذكر عام  1155م والبعض رجح عام 1167م , في إقليم"دولون بولداق " بمنغوليا بالقرب من الضفة اليمنى لنهر "أونون" , واسمه تيموجين بن يسوكاي بن برتان بن بهادر رئيس وخان قبيلة "قيات" المغولية , لم يحضر أبوه ولادته فكان يحارب التتار وقتل زعيمهم "تيموجين " , وأمه هي "يولون " اختطفها أبوه يوم زفافها من شخص آخر من قبائل الماركيت , و قد عاد أبوه للديار ليجد وليده قابضاً على قطعة من الدم بيده , ففسروا ذلك بأنه سيكون ملكاً عظيماً , لذلك سوف يسفك الكثير من الدماء وقد ربط يسوكاي ذلك بانتصاره على زعيم التتار فأطلق على ابنه "تيموجين" تخليداً لذكرى انتصاره . ونشأ "تيموجين " أو جنكيز خان فيمابعد كأي طفل مغولي يتغذى بعد فطامه على ألبان الخيل والماشية , ويتدرب منذ الثالثة على استخدام القوس والنشاب في صيد غذائهم من الفئران والأرانب وركوب الخراف مقلدين الكبار عندما يركبون الخيل , وعندما كبر كان يتأثر بقصص العشيرة عن الحرب والسلب , وكان يرعى الماشية وتميز بكونه ذكياً فارع الطول قوي البنية بارعاً في الرماية والمصارعة . عندما بلغ الثالثة عشر من عمره خرج مع والده في رحلة لأخواله , التقيا خلالها بزعيم قبيلة القنقرات المغولية والذي اعجب بتيموجين وعقد خطبته على ابنته "بورته" وكانت وقتها لم تبلغ العاشرة , وفي طريق رحلة يسوكاي بهادر دعاه بعض بدو التتار-أصحاب الثأر القديم -  لتناول العشاء فدسوا له السم , وظل يسوكاي محتملا الآلام لثلاثة أيام حتى وصل لقومه , وحكى لهم غدر التتار, وعلم ابنه بذلك فأسرع لوالده لكن وجدهقد مات, وبما أنه الابن الأكبر فكانت عليه مسؤولية الأسرة , و القبيلة و الحلف المغولي الذي ترأسه يسوكاي , ولصغر سنه تولت أمه تلك المهام .

   ولكن يسوكاي الزعيم القوي قد مات , فتحلل زعماء المغول من تبعيتهم لزعيم قبيلة "قيات" وزعيم المغول الصغير , بل إن قبيلة قيات نفسها تمردت على زعامة طفل صغير أو حتى أرملة تخطط لابنها الزعامة , فاختار بعضهم زعيماً آخر واختار البعض زعامة كبير تايجيوت التتري , وتخلى عن أسرة تيموجين الجميع , فتنقلت الأم "يولان" بأفراد الأسرة من مكان لآخر هرباً من ثأر التتار الذي لم يهدأ , وكانت تتولى اطعام الأسرة بجمع النباتات و الثمار البرية , وتربيةابناء يسوكاي ولم تفرق بين أولادها "تيموجين , جوجي قسار , قاجيون , تموأتجكن " و" بلوتي نويان " من زوجة ثانية ,  و "بكتار" من زوجة ثالثة , وجعلت مهمة الأبناء في صيد الحيوانات البرية الصغيرة , وأسماك نهر أونون .

    وتحت تلك الظروف القاسية من طعام شحيح , كانت أكبر فرحة عند صيد ثعلب أو فأر , يلزمها  تدبير الفخاخ و الخطط , في أجواء مناخية قاسية قد تصل درجة الحرارة فيها إلى ستين تحت الصفر ,وأحلام السيادة بعد أن كان يسوكاي قاب قوسين من تولية خاقانية المغول , وثأر قديم من قاتليه , وقوة جسمانية هائلة متعطشة للتعبير عن نفسها تشكلت شخصية تيموجين .

  وقد تشاجر تيموجين مع شقيقه "جوجي كسار " لأخ لهم غير شقيق وقتلوه حيث اتهموه بسرقة عصفور وسمكة , فتصدت الأم لبداية الفرقة بين أفراد الأسرة ونبهتهم بأن العدو هو قتلة أبوهم " التايجيوت " , وصدقت الأم فلم يترك "التايجيوت " ابناء" يسوكاي " وطاردوهم , فنقلوا اقامتهم إلى جبل "كنتاي "المقدس للاحتماء به .

     ومع الوقت والجهد أصبح للأسرة تسعة خيول استولى لصوص من التايجيوت على ثمانية منها , فطاردهم "تيموجين " لأربعة أيام اشده في رحلته صبي قابله يدعى "بورتشو" وهو من دله اللصوص , ورافقه في رحلته , حتى استعاد خيوله ونجح في الفرار من مطاردة "التايجيوت" , ورجع "بورتشو" لوالده الذي اكرم ابن الزعيم "يسوكاي " , ثم يعود "تيموجين " لأسرته , وكلما مر الوقت زادت قوة العلاقة بين "تيموجين " و"بورتشو " والعديد من المغول حوله , وبدأت تتضح قوة شخصيته وملامح الزعامة تظهر عليه , وكانت صلته تقوى بالقبائل المغولية لرجاحة عقله وحسمه للأمور فيما بينهم بالعدل , فأعلنت بعض القبائل تبعيتها , ودخل حرب مع المنشقين من ابناء قبيلته "قيات" وانتصر عليهم , حتى أصبح زعيماً رسمياً للقيات  , وتزوج من "بورته " ابنة زعيم "القنقرات " التي أتمت الثالثة عشر من عمرها , ولم يطلب والدها  مهراً سوى فراء حيوان السمور .  وقد رأى "تيموجين " في منامه أنه يمسك سيفاً بكل يد من يداه , وقد امتدت يداه لتلامس إحداهما المشرق والأخرى المغرب , فقص على أمه ما رآه فبشرته  أنه سيستولى على الدنيا بشرقها وغربها .

   وبعد ان اصبح "تيموجين " زعيم القيات وتحالف مع أصهاره "القنقرات " وخضعت له العديد من القبائل , أصبح سيداً على شرق منغوليا , وأراد "تيموجين " احياء حلم "يسوكاي " فتحالف مع "طغرل " زعيم قبيلة "كرايت"  على نهر تولا , وقد كان والده قد شرب معه من قبل نخب الصداقة الأبدية , ثم تحالف مع قبيلة "جاجيرات "حلفاً حدث بعده فرقة , انتهت بانتصار "تيموجين " حيث استخدم سلاح الدعاية مبشراً المغول بكل النبؤات وقراءة الطالع التي أكدت من قبل سيادته , فانضوى المغول تحت لوائه وهو الزعيم الآت حتماً , وقد اجتمع أربع أمراء يمثلون أعرق العائلات الملكية نسباً على اختيار "تيموجين " خاناً للمغول , وأدوا له القسم على مناصرته وبذل الروح فداءا له , وأطلق عليه لقب "جنكيزخان " والتي اختلف المؤرخون في معناه فبعضهم فسرها بالقوي , والبعض بابن السماء , وآخرون بالمحارب الكامل . وهنا لنا وقفة حيث أن أولئك الأمراء منهم من أحق بالزعامة وهم أصحاب الدماء الملكية , ولكن الأوضاع المتردية والفرقة بين المغول التي حاول "تيموجين " من قبل أن يقضي عليها , ونار الثأر من التتار والتي تملأ صدر "تيموجين " جعلته خير من يتولى زمام الأمور , فأقام عدة اصلاحات في دولته الجديدة , فأصبح مواطنوا القبائل معروفون باسم "أولوس" , أما أصحاب القرب أو "أروج" من  أفراد أسرته وأقاربه وعشيرته وكل المقربين منه وقد أعطى لهم المناصب العسكرية والمدنية . 

    ومن هؤلاء اختار المهرة منهم في الرماية والقتال كحرس شخصي , والباقي المهام الخاصة بنقل الأوامر الملكية وتجهيز العربات وتوفير الطعام والشراب , والاشراف على الخدم , والمحافظة على النظام عند انعقاد "مجلس قوريلتاي " أو مجلس أعيان القبائل المغولية , وكان رئيس كل هؤلاء صديقه المقرب "بورتشو " .

   وقد حان الوقت للأخذ بالثأر من التتار , فاتجه بجيش مغولي مكون ثلاثة عشر ألف جندي لمحاربة "التايجيوت " صاحبة الثلاثين ألف جندي , و انتصر "جنكيز خان " عليهم , وألقى أسراهم في أحواض مليئة بالمياه المغلية , فكان كل ذلك رسالة واضحة لمن يقف في وجهه , وكانت تلك البداية لأحداث دموية لن تنساها البشرية اكتسح خطرها آلاف الأميال , كالأوبئة التي لافكاك منها .