التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الخميس، 16 نوفمبر 2023

حدوتة قبل النوم


صورة تخيلية للملكة استير مع جواريها للرسام البريطاني إدوين لونج 


في قديم الزمان يحكي أن ملكاً عظيماً كان يحكم بلاداً قوية غنية كانت له زوجة جميلة , ولكنها ذات مرة رفضت أوامره و قللت من شأنه أمام ضيوفه , فانتقم لكرامته وطلقها بناءاً على نصيحة حكماءه , ثم اقترح له معاونوه الذي اختيار مجموعة من العذراوات الجميلات , عوضا ً عن زوجته , فكانت منهم بنت جميلة بريئة , كانت تقرأ للملك كل يوم ثم تنصرف , فانجذب لها وأحبها ثم تزوجها وصارت ملكة , وذات يوم سمع أحد معاونو الملك المخلصين والذي كان سببا ً في أن يأتي بالملكة للقصر ,  بمؤامرة لاثنين من المخصين بالقصر,  لقتل الملك , فيرسل للملكة بأن تبلغ سيدها بتلك المؤامرة , ويعدم المتآمرين , فيثير كل هذا حنق , الوزير الأعظم , الذي أراد الاطاحة بالملكة والوزير , فطلب من الملك أن يختبر ولاء  وزيره  , بأن يسجد له , فيرفض لأنه كان يعبد الله , بينما كان ملكه اً , فيطلب الوزير الأعظم الاذن الاطاحة بكل قوم ذلك المسؤول حيث كان الوزير الأعظم  من نسل قوم بينه وبين قوم الوزير صراعات قديمة , فتتدخل الملكة وتلبس أفخم ثيابها وتتزين بأحسن زينة وتذهب للملك في مخدعه , وتعلن له أنها ابنة عم معاون الملك  كذلك القصر يعج بابناء عمومتها خدم الملك المخلصين الذين انقذوه من القتل , والذي سينتهي أمرهم بسيف الوزير الأعظم , وتستخدم سحرها الأنثوي , لينقلب الحال بقتل الوزير الأعظم وقومه ومصادرة أملاكهم , ونجاة قومها , لتصبح بطلتهم وتذكرها الأجيال من بعدها .

    هذه ليست من قصص ألف ليلة وليلة , وهذه ليست شهرزاد التي سحرت الملك بقصصها , أنها "هداسا" البطلة اليهودية أو "استير" , والتي سمي على اسمها سفر من أسفار التوراة تقديرا لجهودها , وتلك القصة قد تبدو أقرب للخيال , ألا أن فريقاً مخلصاً في العمل , هو كان المحرك لأحداث تلك القصة , فبعد وفاة الملك الفارسي القوي "دارا الأول "تولى ابنه "خشيارشا الأول " أو "زركسيس" الحكم (حكم بين 485 و465 ق.م )- على الرغم من أنه لم يكن أكبر الابناء -, وكان ملكاً قوياً كأبيه , واستكمل مسيرته في حربه ضد اليونايين , ودخل معهم في معارك شرسة , حتى أنه صنع جسراً من السفن المربوطة بسلاسل عبر مضيق الدردنيل , واجتاز بجنوده تراقيا ومقدونيا , واشتبك اسطوله بأسطول اتحاد المدن اليونانية في معركة من أضخم معارك العالم القديم أو معركة سلاميس عام 480ق.م . وكاد أن يفنى فيه أسطوله , ثم يقرر أن يعود لبلاده فارس , ويترك حروب اليونان لقائد جيشه "ماردونيوس" , الذي تنال منه الهزائم ثم يقتل هناك , أما "خشيارشا " الذي عاد لفارس انقلبت حياته  ليعيش حياة البذخ والحفلات الصاخبة , وكأن أحدهم قد خطط لقلب نظام حياته ليصرف نظره عن بلاد اليونان البعيدة ليعود وسطهم هناك على أرض فارس . 

خريطة توضح موقع معركة سالاميس 

  

وكان خشيارشا له زوجة حكيمة وفية , وفي إحدى الحفلات الصاخبة- والتي كانت تستمر لأيام طويلة -والملك تحت تأثير الخمر , طلب الملك من زوجته أن تخرج من الحريم لتأتي لضيوفه لعرض جمالها , فرفضت , فغضب الملك من تصرفها , فأوعز له أحد الحكماء – ويبدو أنه من اراد في البداية أن تخرج لضيوفه – أن يطلقها لأن مافعلته الملكة سوف ينتشر خبره , ولن تنصاع بعد ذلك الزوجات لأوامر أزواجهن , ثم عرض على الملك البديل , وجيء له بالعذراوات الجميلات من كل البلاد , فاختار واحدة منهن , ويبدو أن كل شيء كان معداً له فبنات الأمراء وعلية القوم , كن أولى بشرف أن يصبحن الملكات وهن أصحاب الأصل النبيل  , ولكن الملك اختار فتاة فقيرة من بين الجواري تدعي "استير " , وهي ابنة عم "موردخاي " أحد حكماء الملك , وكان وصياً عليها بعد وفاة والديها والاثنان من سبط بنيامين بن يعقوب , وقد وضع أمامه استير واسمها الحقيقي  العبري الذي أخفته هو "هداسا" , وكان بفارس عدد كبير من اليهود , وهم الإرث الذي ورثه الفرس من السبايا اليهود المنفيين الذي أخذهم الملك البابلي نبوخذ نصر من بلادهم , وقد طلب منها مردخاي بألا تخبر الملك بهويتها اليهودية , وكان يطمئن عليها يوميا في بيت النساء بالقصر , مما يدل على نفوذه ووضعه لخطة محكمة على الملك , ويبدو أنه من كان متولياً أمر مايريده الملك من رغبات  , وشيئا فشيئا تلفت "استير" انتباه الملك لها من وسط كل الجواري -بعد أن كانت في البداية تقرأ له فقط قبل أن يخلد للنوم - " فيختارها زوجة , وذات مرة يسمع "مردخاي " مؤامرة لاثنين من خصي القصر بقتل الملك , ويبدو أنه كان معتاداً على التلصص والتصنت في القصر , وبرغم قربه من الملك , إلا أنه أراد اختيار الوقت المناسب والخبر المناسب من الشخص المناسب , فكان من أوصل له الخبر , الملكة "استير " وبعد قتل الخصيين , لمع نجم استير أكثر وأكثر وأصبحت هي ومردخاي ,  أصحاب نفوذ قوي , مما أوغر صدر الوزير الأعظم "هامان " من نسل أجاج ابن العماليق أعداء اليهود القدامى , ومن حال بينهم وبين دخول فلسطين , بعد خروجهم من مصر , ومن حاربوهم بعد ذلك ودخلوها بعد انتصروا عليهم .

الملك خشيارشا الاول 

  فأراد "هامان " أن ينتهي من أمر مرخاي " فأمره أن يسجد للملك كباقي الحاشية فرفض "مردخاي "  , ليوعز للملك بأن يأمر بقتله وقتل كل اليهود , لأنه لافائدة منهم , و أن أبسط شروط الطاعة لم يؤدها , ولما علمت "استير " بذلك وهي من كانت على علم بكل خبايا القصروكان لها مجموعة كبيرة من الجواري والخصي يأتون لها بالأخبار  , فققرت أن تذهب للملك في مخدعه بعد أن لبست أغلى ثيابها وظهرت في أحسن صورة على الرغم من أنه لم يطلب رؤيتها وكان في ذلك مخاطرة كبيرة عليها , وأقنعته بسحرها , أن مردخاي بريء , وأنه من قام بانقاذ حياة الملك من قبل , وهو ابن عمها وأن قتل اليهود قومها جريمة كبيرة يريد أن يفعلها الشرير هامان , وأن حياتها ستصبح في خطر بعد أن أراد القضاء على كل اليهود وهي منهم , فاستشاط الملك غضبا على شخص أراد أذية الحكيم مردخاي الذي أنقذ الملك ونقم على اليهود شعب الملكة , وواجه هامان والذي ذعر ولجأ للملكة في مخدعها , لتؤثر على الملك في أن يعفو عنه , فيراه الملك في مخدعها ويظن أنه أراد أن يغتصبها , فيأمر بقتله , وتعليق جثته في نفس المكان الذي أعد لمرخاي من قبل , وصودرت أملاك "هامان " وقتل ابنائه العشرة , و أصدر الملك قراراً أن من حق اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم ضد أعدائهم , فبادر اليهود بالهجوم وقتل 75 ألفاً من ابناء العماليق , وصارت "استير" بطلة في نظر قومها , واطلق اسمها على احدى الأسفار , وأصبح ذكرى يوم قتل هامان عيدا دينياً عند اليهود يسمى عيد المساخر أو الفوريم , ويتم في ذلك اليوم قراءة سفر "استير " وصنع الضجيج عند ذكر اسم "هامان " . وبلا شك أن ماترتب على ذلك لم يكن صادرا من مجرد استعطاف فتاة جميلة كانت جارية لأقوى ملك في العالم , بل أن الملك كان محاطاً باليهود الذين تغلغلوا في كل نواحي حياته بداية من قراراته السياسية وحتى غرفة نومه بدون أن يصرح الكثير منهم بأنهم يهوداً في الأساس , وكان طبيعيا ً أن ينتهي أمره بالقتل بايعاز من قائد حرسه , بعد أن أمضى حياته في اللهو والمجون , ومنقاداً لليهود بقيادة استير ومردخاي , أما خليفته الملك أرتحشتا " الأول الملك الجديد , فقد سمح لليهود بأن يعودوا لأورشليم , تأكيداً على نجاح ماخططت له استير وقومها , باستمرا تأثيرهم القوي على أقوى ملوك الأرض . 

الجمعة، 28 أبريل 2023

اللؤلؤة السوداء و أخواتها

 

اللؤلؤة السوداء كما تخيلها صناع الفيلم 

هل شاهدت سلسلة الأفلام الشهيرة المعروفة بقراصنة الكاريبي ؟ . فإذا لم تكن قد شاهدتها  فهي سلسلة أفلام مغامرات خيالية تدور أحداثها في القرن الثامن عشر الميلادي , مزجت فيها بعض الحقيقة بالخيال من أسماء لشخصيات و أماكن وسفن , فنجد على سبيل المثال سفينة اللؤلؤة السوداء موجودة بشكل أساسي في الأحداث والقراصنة الغرقى الذين عادوا للحياة يشكلون معظم شخصيات أفلام السلسلة .

  

خريطة لبحر الشمال توضح أماكن استقرار التنانين 

   و لم يكن هذا وليد خيال صناع الفيلم , فالسفن الغارقة التي رقدت في أعماق الماء – حتى وإن انتشل موتاها – و الرحلات البحرية , هي مادة خصبة لقصص الرعب الشعبية في الغرب وربما كان هذا متأصلاً لديهم وظاهراً منذ القدم في ملحمة الأوديسا لهوميروس التي واجه فيها البحارة أهوالاً عظيمة فمن دوامة عملاقة تبتلع السفن كاملة إلى  كائن عملاق يقتل البحارة وعرائس بحر يفتكن بهم , بل أن الخرائط البحرية القديمة كانت تضيف صوراً لتنانين في إشارة لوجود تلك الكائنات الأسطورية في تلك المناطق , وعلى مر الزمان كانت ملاقاة البحارة لأي حيوان بحري يمثل إضافة جديدة للقصص الخرافية التي كانوا يقصونها عن رحلاتهم ربما لأن خيالهم صور لهم ذلك أو لإضافة صفة البطولة والمغامرة لرحلاتهم .

   ولم يقف في وجه الخرافة سوى خرافة مثلها , فكان البحارة يتبعون بعض القواعد لإبعاد أخطار البحر عنهم , منها : أن ركوب النساء ورجال الدين وذوي الشعر الأحمر يجلبون الحظ السيء , كذلك كانوا يتشائمون من مرافقة أسماك القرش لسفنهم , لأنهم ظنوا أنها تشعر باقتراب أحد من البشر على الموت , وغفلوا أن الأسماك ترافقهم طمعاً في بقايا الطعام التي كانوا يلقون بها أو لفضول من القرش , وحرموا قتل طيور النورس معتقدين منهم أنها  تحمل أرواح البحارة الموتى , وكذلك كانوا لا يبدأون رحلتهم يوم الجمعة لأنه يوم صلب المسيح , أما أغرب الاعتقادات والتي كانت تودي بحياة البحارة حرفياً هي حرص معظم البحارة على عدم تعلم السباحة لأنهم كانوا يؤمنون بقوة البحر التي ستنهي حياتهم بمجرد نزولهم فيه مهما كانت مهارتهم في السباحة .

السفينة ماري سيليست


   وقد جرى العرف أنه عند ملاقاة سفينتين في البحر وجب علي أفراد طاقم السفينتين تبادل التحية , غير أن جو الود هذا قد يعكره مقابلة سفن مهجورة تجوب البحر , حيث يظن أن البحارة الموتى هم من يسيرون تلك السفن , بل أنهم ظنوا أن السفن تبحر بنفسها بحثاً عن طاقمها المفقود , وفي بعض الأحيان كانت بعض السفن يضطر أن يغادرها بحارتها لظنهم أنها على مشارف الغرق , ولكنها تظل تجوب الماء , بفضل الرياح والتيارات المائية , ولكن أحياناً يصادف البحارة لقوارب خالية من الركاب , بدون تفسير لسبب مغادرتهم , فيذكر لنا التاريخ لغز السفينة "ماري سيليست " والتي وجدت بالصدفة عام "1872"م , حيث كانت سفينة "دي جراتيا" علي بعد مئات الكيلو مترات قبالة سواحل جبل طارق , عندما شاهد قبطانها " مور هاوس " سفينة تبعد عنهم 8 كم , فاتجهوا لها ووجدوا سفينة مهجورة , دفتها تدور بلا توقف , و بوصلتها محطمة , وخريطة رسم عليها خط حتى جزر " الأزور " التي تبعد حوالي 500 كم من موضع السفينة , ويبدو أنها كانت في طريق عودتها لتلك الجزر , حيث كانت تحمل المئات من براميل المشروبات الكحولية التي ظلت كما هي دون عبث , بل أن الطاقم ترك أغراضه الشخصية كماهي , وكانت تحضر وجبة في المطبخ , كل هذا ترك الأسئلة التي لا إجابة لها أين ذهب من كانوا بالسفينة ؟  .  و افترض البعض أنهم غادروا السفينة لسبب ما و لم يربطوا الدفة ظناً منهم بعودتهم مرة أخرى , وقد سحبت سفينة "دي جراتيا " " ماري سيليست " لأقرب ميناء في جبل طارق .

    وقد انتشرت قصة السفينة بعد عودتها  , حيث قد غادرت نيويورك في رحلة إلى ميناء جنوا بإيطاليا , وقبطانها كان يدعى "بنيامين بريجز " وكان معه زوجته وطفلته التي تبلغ عامين , وسبعة بحارة .

آرثر كونان دويل 

    وبرغم غموض الموضوع إلا أنه قد اضيف النار على البنزين , حينما طلب القبطان "مور هاوس " مكافأة لسحبه سفينة "ماي سيليست " للميناء سليمة بحمولتها , فكان هذا كافياً لإثارة الشكوك من حوله , حيث توجهت السلطات للمدعي العام في جبل طارق , فدارت الشكوك حول أن تلك تمثيلية مفتعلة بين طاقمي "دي جراتيا " و " ماري سيليست " لاقتسام أموال التأمين حيث كان كلا من |"مور هاوس " و " بريجز " صديقين قديمين .   وتوالت التحقيقات وجلسات الاستماع وكان الغموض يزداد ومعه اهتمام الصحف بهذه القضية , وظهرت أدلة جديدة عند تمشيط المحققين للسفينة , حيث وجد سيفاً عليه دماء داخل مقصورة القبطان , و دماء على أطراف السفينة , وبخلاف هذا لم يوجد أي دليل على العنف , ومرجح أن تكون تلك الدماء من صيد الأسماك بل من الممكن أن يكون هذا صدئاً , وبالطبع كان ذلك مادة خصبة للإشاعات , إلا أنه لم يوجد أي دليل ضد بحارة السفينتين يدينهم , وتردد صدى تلك الأخبار في مختلف البلاد , حتى بعد مرور حوالي اثنتي عشر عاماً نشرت إحدى المجلات البريطانية إفادة لشخص يدعى "جاي جيبسون " ادعى أنه كان من ركاب "ماري سيليست " , و أن سبب ماحدث أن راكباً مضطرباً عقلياً , قد قتل القبطان و عائلته و كذلك طاقمه و قد أراد الناس تصديق تلك الرواية لإنهاء الغموض الذي أحاط بتلك السفينة و أن ماحدث نهاية لسلسلة من اللعنات أحاطت بها , فبعد صنعها في عام 1861م ظلت تستعصي دفعها للماء لثلاثة أيام وكان اسمها الأول "امازون "  , و في أول رحلاتها مرض قبطانها وهو في نفس الوقت ابن مالكها , بعد أول يوم من مغادرة الميناء فاضطروا للعودة ونقله لمنزله حيث مات , ثم اصطدمت بقارب صيد , وحينما أرادت عبور المحيط الأطلنطي اصطدمت بسفينة بالقنال الانجليزي , وحينما أرادت العمل في نقل البضائع من و إلى أمريكا الجنوبية واجهت في إحدى رحلاتها عاصفة جعلها تجنح عن مسارها وتتعرض للاضرار , ثم بيعت و تنقلت بين الملاك  حتى  وصلت لمجموعة شركاء عام 1868 م و منهم  قبطانها الأخير " بنيامين بريجز " وغير اسمها إلى "ماري سيليست " . وكابتن بريجز كان يعتقد أنه أيضاً مصاب باللعنات حيث ,  توفي أقربائه في حوادث في البحر ولكل تلك الأحداث , ذلك عزف عن العمل على السفينة الكثير من البحارة لظنهم أنها ملعونة حتى التحق بها آخر بحارتها لتلحقهم لعنتها  . 

   وقد فتحت  الحكومتين البريطانية والأمريكية التحقيقات مع المجلة البريطانية للعثور على "جيبسون " الراكب الناجي فاتضح أن الافادة مجرد قصة من تأليف كاتب شاب يدعى " آرثر كونان دويل " (1859- 1930) م  ,  الذي غمره الحماس بعد نجاحه في نسج تلك القصة المشوقة عن السفينة فانطلق يكتب سلسلة مغامرات بوليسية أخرى لمخبر سري يدعى " شارلوك هولمز , وبالتدقيق في التحريات نجد أن أحدا لم ينتبه لخمس براميل  قد تسرب منها الكحول على السفينة , و أن السفينة كانت تأخذ حمولتها من "هانترز بوينت " وكانت حديقة صناعية في لونج آيلاند , وكانت معروفة بتصنيع الايثانول والفورمالدهيد , أي أن تلك البراميل المتضررة لم تكون مشروبات كحولية في الأساس , لذلك رسم سيناريو جديد لما حدث في الرحلة أخيرة لماري سيليست .  فربما عندما اقتربت السفينة من جزر "أزور" هبت عاصفة شديدة أجبرت الجميع على المكوث داخل السفينة , ونتيجة لتلك العاصفة الشديدة تكسرت بعض البراميل وتسرب منها المواد الكيماوية ونتج عن تفاعل تلك المواد بالهواء دخان سام  يصيب البشر بالهلوسة والدوار والاختناق , وعند هدوء العاصفة سارع من بالسفينة لركوب قارب النجاة الوحيد المربوط بهسفينتهم ,  حتى يتبخر الدخان السام ,  ولم يجدوا وقتاً في رفع الأشرعة العليا لذلك عند هبوب الريح زادت سرعة السفينة , ومنطقياً أن قارب صغير مثل هذا عليه تلك الحمولة مع سرعة السفينة ربما أدى ذلك لقطع الحبل وفقدان القارب في البحر ووفاة ركابه من الجوع والبقاء في العراء وسط المحيط , وعندما دخل بحارة "دي جراتيا " إلى "ماري سيليست " كانت تبددت رائحة الأبخرة السامة  .

      وإذا كانت تلك قصة من الماضي جميع من شهدوها في عداد الموتى , فهناك حادثة أخرى من واقعنا المعاصر , في يناير 2003 م , على بعد 270 كم عن ساحل استراليا , وجدت سفينة الصيد "هاي إم 6 " محملة بأسماك التونة التي بدأت في التعفن , وخزان وقودها فارغاً , و خالية من الطاقم , برغم من أن أغراضهم الشخصية في مكانها الطبيعي , ولا آثار لأي عنف , ولكن بعد عدة أسابيع , أبلغت أسرة مهندس السفينة , أنه طلب منهم سداد فاتورة الهاتف الخلوي الخاص به , وقد أجريت المكالمات بعد اختفاءه , ورجحوا أن ذلك الهاتف كان مع شخص آخر , كما رجحوا أنها كانت تحاول أن تسبق سفينة ما , مما جعل الوقود ينفذ منها , وربما كانت تلك سفينة قراصنة , وربما قتلوا طاقمها ورموهم في المياه , وبعد سرقة ما أرادوا , تركوا السفينة , حيث كثرت حوادث القرصنة في الفترة الأخيرة .

    وحطام السفن مادة خصبة للقصص الأسطورية , حيث تقدر السفن الغارقة في العالم بحوالي 3 مليون سفينة , فمن سفن القراصنة , إلى السفن الأسبانية التي كانت تنقل كنوز العالم الجديد , إلى سفن صيد الحيتان القطبية , إلى تيتانيك و لوسيتانيا التي غرقت في الحرب العالمية الأولى .

البورون 

   ونجد أن حطام بعض السفن تنقل لنا أحداث الماضي كأي قطعة آثار ومنها حطام سفينة "البورون" والتي تعود للقرن الرابع عشر قبل الميلاد . والتي غرقت بالقرب من بلدة سياحية صغيرة جنوب غرب تركيا واكتشفها صياد للاسفنج من أهل البلدة وتعود للعصر البرونزي المتأخر .

                            

من متحف سفن الفايكنج 

   ولا يوجد أفضل من سفن الفايكنج البحارة الغزاة التي عثر عليها والتي توثق تاريخهم ففي النرويج متحفاً يعرض تلك السفن , ومازالت حتى الآن بحيرات النرويج و أنهارها ينتشل منها سفن الفايكنج الشهيرة وتحتفظ إلى حد كبير بشكلها السابق .

  وهناك سفن بعد غرقها دارت حولها قصص الرعب متصورين أن الغرقى أرواحهم تحيط بحطام السفينة ولا تجد الراحة , فنجد أن سفينة "رون " البخارية البريطانية , التي غرقت في البحر الكاريبي بسبب عاصفة في أكتوبر 1867م وغرق فيها 124 شخصاً  , ويبلغ طولها 95 متراً , والتي كانت تنقل البريد والركاب بين بريطانيا وجزر الكاريبي , وعند هبوب العاصفة تلافت السفن الخوض فيها وفرت منها فيماعدا السفينة "رون " التي وثق قبطانها بقوتها وخاض في العاصفة التي كانت في الحقيقة إعصارا مركزه فوق السفينة تماماً , ولم يجد القبطان مفراً من الصراع مع العاصفة و أمر بحارته بتقييد الركاب بأسرتهم حفاظاً على أمانهم وحمايتهم من الإصابات وكان ذلك اجراءاً معروفاً في ذلك الوقت , وكان الاصطدام بموجة هائلة أدى لسحق السفينة وارتطام غلاياتها بالمياه الباردة  كاف لانفجارها وقسمها لجزءين وغرقها , ولم ينج منها سوى 23 شخصاً  وحطامها الغارق قبالة سواحل جزر فيرجن البريطانية أصبحت مزاراً سياحياً يستقطب أعداد كبيرة من الغطاسين ليشاهدوا الحطام المغطي بالأعشاب البحرية والشعاب المرجانية وتتجول بداخله المخلوقات البحرية , وقد اشتكى بعض الزوار من أنهم يحسون بمن يشدهم أو يمسك بهم تحت الماء , كما كان البعض الآخر يسمع أصوات تأوهات وتكسر .

   و إذا كانت العديد من السفن يلفها الغموض والرعب , فهناك كثير من السفن ايضاً تكون مسرحاً لأحداث مرعبة بمجرد الصعود إليها يخمن تفاصيلها , ومنها عشرات السفن من كوريا الشمالية التي تجنح سنوياً , لشواطيء كوريا الجنوبية و اليابان و معظمها سفن صيد خشبية قديمة , يكتشف على متنها بحارة موتى , قد تتحلل أجسادهم لتصبح هياكلاً عظمية , ويظن  أن هؤلاء أشخاص عاديون عديمي الخبرة من الجنود والمدنيين , أجبرتهم حكومة "كيم جونج أون " على امتهان الصيد لزيادة مواردها , وبعض السفن يعثر عليها بدون بحارة لأن بحارتها قد غرقوا لسبب أو لآخر حتى تصل السفن مهجورة لكوريا الجنوبية واليابان , أو أن تلك السفن يهرب فيها الكوريون الشماليون من حكومتهم , ولعدم خبرتهم يهلكون في المحيط , و أغلب الظن أنهم  صيادي الأسماك حيث تذهب تلك الأسماك كصادرات للصين وكطعام لمليون جندي شمالي , ويبدو أن صيادي الأسماك المساكين بين شقي رحي فقد قررت اليابان عدم التهاون مع أي فرد يوجد على قيد الحياة على تلك القوارب باعتبار أنهم قد يكونوا جواسيس , بالرغم من أنه لم يثبت حقيقة ذلك الظن .

                       

                                           سفينة " كوين ماري"

  

 وهناك سفن  كانت ذات تاريخ مزدهر , ولكنها مثل الثوب الناصع البياض الذي لطخته بعض البقع , فالسفينة البريطانية " كوين ماري" وهي من السفن الفاخرة وعابرة للمحيطات دخلت الخدمة عام 1936م , وكانت تابعة لشركة "كونارد لاين " ثم سحبت منها لتقوم  بنقل الجنود خلال الحرب العالمية الثانية  . وهي راسية الآن في ميناء "لونج بيتش " بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية , في مساحة يتعدى طولها أربع شوارع , ولها اثنا عشر رصيفاً , وأكثر من ألف غرفة , كانت أكبر و أسرع من سفينة "تيتانيك " وهي الآن على قائمة  السجل الوطني للاماكن التاريخية الأمريكي .

    وقد سافر على متنها أشهر الشخصيات العالمية من و إلى أضخم الموانىء في المحيط الأطلنطي , إلا أن مرحلة نقلها لجنود الحرب العالمية الثانية ظلت بقايا ذكرياتها السيئة تلوث سمعة السفينة , فهناك قصص عن شبح لجندي من الحرب العالمية الثانية , يتجول في الأروقة المظلمة باحثاً عن رفاقه الذين قتلوا في المعارك , وهناك قصص عن شبح لعروس تدخل وتخرج من الجدران , أما رواد الدرجة الأولى فيصادفهم شبح لفتاة صغيرة تدعى جاكي يسمع صوت ضحكها وغنائها  حول حوض السباحة .

    وربما كانت تلك القصص مصدرها إلى أن  الحكومة الأمريكية قد سحبت السفينة من الشركة المالكة "كونارد لاين " لتضمها للبحرية الأمريكية لتخدم في نقل الجنود فكانت تنقل عشرات الألوف من الجنود في كل رحلة , ومن سرعتها وقوتها كانت تنقل الجنود في مياه تعج بالغواصات الألمانية بكل سلاسة , ورصد "هتلر " جائزة تقدر مايعادل 3.5 مليون دولار لإغراقها , وكانت تنقل رئيس وزراء بريطانيا " وينستون تشرشل " لحضور الاجتماعات عبر الأطلنطي . و لكن الرعب لم يأت بعد ففي أكتوبر 1942م قبالة السواحل الأيرلندية , اصطدمت "كوين ماري " وكان على متنها خمسة عشر ألفاً من الجنود , عرضياً بسفينة مرافقة تدعى" إتش إم إس كوراكوا  ". وبالطبع غرقت السفينة الصغيرة وبقي الجنود عالقين في المحيط , فكان الأمل في "كوين ماري " أن تنتشلهم , والتي كانت لديها أوامر مسبقة بعدم التوقف , فالمنطقة خط سير للغواصات الألمانية واكتفت بأن اصدرت الأوامر لسفن أخرى بانتشال البحارة العالقين, وقد غرق 329 جندياً بعد الصراع في المحيط لساعات  وبقى على قيد الحياة 99 بحاراً .

  فتعلقت أشباح الجنود في السفينة التي كانت أملاً كاذباً لهم , كما يظن أن الفتاة جاكي هي طفلة غرقت في حوض السباحة , وذلك بعد الحرب العالمية الثانية , وكذلك العروس ماتت مريضة أثناء رحلتها لعريسها .

   و سفينة بكل هذه الإمكانيات وهذا التاريخ , لن تبقى بدون فائدة , حتى وإن رست بلا إبحار , فقد نظمت زيارات للسياح لكي يتجولوا في أروقة السفينة وكانت قصص الأشباح لها مذاق خاص لزوار توافدوا خصيصاً لمقابلة الأشباح , فهناك شبح لميكانيكي السفينة  "جون " الذي توفي عام 1966م , وكان يبلغ ثمانية عشر عاماً , حيث سحقه أحد أبواب السفينة في تدريب لإجلاء السفينة عند الحريق  للطاقم , وهو يتفاعل مع الزوار بإعطاء اشارات على وجوده . وفي إحدى الزيارات أكد الفوج السياحي أن المرشدة حجمها يتبدل وطولها يزداد لمترين . 

                                    

                                            سفينة "ادوارد بولينج

 

     وليست كل السفن المهجورة في أعماق المحيط , أو راسية على أرصفة الموانئ , بل أن هناك سفن على البر في الصحراء تمثل لغزاً , ومنها سفينة "ادوارد بولينج " في صحراء "ناميبيا" والتي جنحت عام "1909"م  بسبب الضباب ,وقد دفعت الرمال إلى شاطيء البحر , فتعلقت السفينة في الصحراء , و أصبحت السفينة ملجأً لحيوانات الصحراء مثل ابن آوى لتحتمي من حرها .

ونجد كذلك العديد من السفن التي تجنح للشاطيء أو تترك بالقرب من الموانئ فتصبح ظاهرة للعيان بعضها أو يمكن زيارة حطامها المتبقي على الشاطئ حيث نجد ظاهرة في ميناء نوازيبو الموريتاني والذي يزخر بالعديد من السفن المهجورة واتضح بعد ذلك أن لها فائدة اقتصادية , حيث فيها أكثر من مئة سفينة مهجورة , ربما لأن الحكومة هناك متساهلة مع شركات السفن التي تترك سفنها وتتخلص منها هناك , فوجدت أن ذلك أسهل و أوفر من انتشالها واعادة اصلاحها أو بيعها لاعادة تدويرها , أي أن المنطقة هناك أصبحت مكباً للسفن , فتحولت أنقاض تلك السفن لمساكن تجمع الأسماك , فجعل الصيد أكثر ازدهاراً , حيث أن الصيادين هناك يستعملون أدواة بسيطة غير متقدمة .  

                          

سفن مهملة في نوازيبو



 وإذا كان ميناء نوازيبو الموريتاني مكباً للسفن الغير مرغوب فيها , فإن الحكومة الأسترالية وعن قصد قد جمعت 15  سفينة تم اغراقها  عن قصد فيمابين 1963- 1978م , لإنشاء مرفأً صناعياً في منتجع جزيرة تنجالوما , ولكن ماحدث أدهش العلماء من حيث وفود أكثر من مئة نوع من الأسماك حول الحطام والتي أمكن دراستها , و طمست معالم تلك السفن إلا سفينتين يمكن التعرف عليهما , وهما "ماريبورو " و " البيرليكان " ويعود تاريخهم للقرن التاسع عشر , فكانت حطام السفن و الكائنات البحرية التي تعيش حولهم مقصداً لمحبي الغوص من السياح .

                                سفينة "سماء الأبيض المتوسط"


   وينضم لقائمة السفن التي هجرت وتركت بدون سبب سفينة "سماء الأبيض المتوسط" على سواحل اليونان , و كانت سفينة سياحية شهيرة في الخمسينات من القرن العشرين , وقد حولت في الثمانينات إلى سفينة شحن لمدة خمسة عشر عاماً دون اصلاح أو صيانة , ثم أفلست الشركة المالكة فتخلوا عنها عام 1999م , وتركت مكانها , وعام 2002 بدأت في الغرق , ومالت على جانبها عام 2003 م .

  وليس كل ترك السفن بعد خروجها من الخدمة اهمالاً , فهناك سفينة " ماري دي هوم " في الولايات المتحدة الأمريكية , وهي أطول سفينة بخارية عملت في تاريخها . فعملت مابين عامي 1881م – 1978م  على طول ساحل المحيط الهادي فرغم أنها تركت كحطام بالقرب من مكان صنعها الأصلي ,  إلا أنها أصبحت مزاراً أثرياً وطنياً .

                                           السفينة "أولمبيا"

    وعودة لليونان البلد السياحي التي استطاعت الاستفادة بكل عوامل السياحة على أرضها وبحرها فنجد أن السفينة "أولمبيا" وهي على شاطئ كالوتاريتيسا قبالة ساحل جزيرة أمورجوس , والتي كانت نهايتها في أوائل عام 1980 م , حيث واجهت رياحاً قوية فاضطر قبطانها للرسو بالقرب من الشاطئ ، لكن تلك الرياح القوية نفسها تدخلت وألقت بالسفينة على الصخور. واشتهرت قصة تلك السفينة حيث كان حطامها موضوع الأفلام الوثائقية و نظمت الرحلات السياحية لزيارتها , وكانت ايضا موضوعاً  لفيلم روائي طويل انتج في 1988م .   

                                                              

سفينة " إي إس ماهينو " 

    وهناك حادثة طريفة لسفينة مهجورة و كأنها قامت بالانتحار , وهي سفينة " إي إس ماهينو " وهي سفينة عابرة للمحيطات أنشأت في عام 1905م ، من قبل القوات البحرية النيوزيلندية كسفينة مستشفى خلال الحرب العالمية الأولى. وكان طاقمها الطبي مكوناً من خمسة أطباء ، و 61 منظماً ، ومربية ، و 13 مرضعة ، وكانت السفينة تنقل الجنود الجرحى والضحايا بعيدا عن المعركة. وبعد انتهاء الحرب في عام 1918م , أعيدت السفينة لشركتها  لاستخدامها تجارياً و في عام 1935 م  ، تم ربط السفينة بسفينة اسمها "أوناه "  التي يبلغ وزنها 1758 طنا عبر حبل سلكي ، متجهة إلى ساحة تكسير السفن في اليابان. وقد اصطدمت السفن بإعصار على بعد حوالي 50 ميلا من ساحل سيدني ، وتم فصلها ، وانجرفت "إس إس ماهينو " بعيدا واختفت. و تم العثور عليها ، على الشاطئ قبالة جزيرة فريزر ، بعد بضعة أيام.

  ومن الأحداث الطريفة أيضا لغرق السفن ماحدث للسفينة "سانتا ماريا " والتي يبدو أن الطبيعة أعلنت عن غضبها من حمولة تلك السفينة , حيث غرقت في سواحل الرأس الأخضر في المحيط الأطلنطي , وذلك عام 1968م , وكانت محملة بالسيارات والملابس والأطعمة كتمويل من ديكتاتور اسبانيا الجنرال فرانكو إلى مؤيديه بالبرازيل والارجنتين , فغرقت بحمولتها وفشلوا في انتشالها , وربما كان لاسمها دلالة على ماسوف يحدث لها , حيث أن "سانتا ماريا " هي أكبر السفن الثلاث التي خرج بها "كريستوفر كولمبوس " لاكتشاف العالم الجديد وقد خرجت في 3 أغسطس 1492م وغرقت في 25 ديسمبر 1492م , حيث كان ليلتها انشغل بحارة كولومبوس بالاحتفالات والشراب وأصدر لهم كولومبوس الأمر باستمرار الابحار ليلاً فانسلوا للنوم واحداً وراء الآخر وتركو لفتى صغير القيادة حيث واجهته نوة مفاجئة فانحرفت السفينة لحاجز صخري وتحطمت وذلك قرب هاييتي فاضطر كولومبوس وبحارته الفرار منها واللجوء للشاطيء وبناء حصناً  ثم عاد لبلاده بسفينتين فقط .

  وما أخفاه قادة المركبات البحرية , يكتشف حتى ولو كان تحت الماء ويستخرج من تحت الماء ليبقى على صفحتها كنوع من العقاب وعبرة لمن تسول له نفسه , فهناك غواصات للتهريب تمتلكها العصابات وهي مركبات معدلة ومصنعة يدوياً تستخدم لتهريب المخدرات على طول المحيط الهادي , وبرغم ذلك ماتزال العصابات تستخدم تلك الغواصات و مازالت الحكومات لهم بالمرصاد . 

سفينة " باناجيوتيس "


   وتعود لنا اليونان مرة أخرى التي استفادت بحطام سفن المهربين فنجد سفينة " باناجيوتيس " على شاطئ نافاجيو ، والتي أصبحت مقصداً للسياح , وقد جنحت للشاطئ عام 1980 م , وكانت تحمل السجائر المهربة من تركيا .

   و إذا كانت  بعض شركات الملاحة تخطيء في تقدير قيمة سفنها , فنجد بعض الشركات كذلك تخطيء في تعيين قادة سفنها , فهناك قصة طريفة لحماقة ربان سفينة , فهناك سفينتان غرقتا في مياه كاليدونا الجديدة " جنوب غرب المحيط الهادي , فقد تعطلت سفينة في ستينات القرن العشرين بسبب ضحالة المياه والشعاب المرجانية , وفي عام 1970م , اسند لنفس الربان قيادة سفينة من نسخة مطابقة لسابقتها ولم يستطع القبطان تفادي أخطائه السابقة فغرقت السفينة بالقرب من أختها إلا أن نموذج السبعينات تآكل بسرعة أكبر من الأقدم .

   ويبقى الماء يحمل الكثير من القوارب والسفن في كل بقاع الدنيا , في آية بديعة من صنع الخالق , فمنها من يصل إلى مرفأه بسلاسة , ومنها مايصل بشق الأنفس , ومنها مايتجه بعيداً عن وجهته الأصلية , ومنها مايغرق وقد تلفظه المياه خارجها , لتظل تلك المغامرات تشغل الكثير من الناس , وكلما زاد غموضها , زاد المشتاقون لمعرفة حقيقة ماحدث .

 

الخميس، 6 أبريل 2023

صقر قريش الفاتك بأعدائه

 


           

      لم يكن أمراً سهلاً على أمير من بني أمية وحفيد خليفة المسلمين , أن يرى رجالات بل وصبيان قومه تقام لهم المذابح ويمثل بهم دون ذنب سوى أن دولتهم انتهت و آل الحكم لبني العباس , ولكن بطل حديثنا شهد هذا والأصعب منه واستطاع أن يحول ضياع ملك قومه إلى دولة قوية ,  وهو  عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الذي ولد في 113 هجريه – 731 م , وكان عمره تسعة عشر عاماً عندما قامت الدولة العباسية 132هجريه – 750 م ,واداروا القتل والذبح في ابناء البيت الأموي وعلى رأسهم الخليفة نفسه مروان بن محمد , والذي تعقبوه من الموصل - حيث هزم أمام العباسيين - وحتى مصر وقتل في بلدة أبو صير وأرسل برأسه إلى الخليفة العباسي الجديد أبو العباس السفاح ,وقد نجا عبد الرحمن بن معاوية من وليمة دموية أوقع بها بنو العباس أمراء بنى أمية عند نهر أبي فطرس بين فلسطين والأردن , وقتلوا أخوه يحيي في بيته فيفر لبيت آخر له في قرية دانية من الفرات ليختبىء به وتلحق به أختيه أم الأصبغ و أمة الرحمن و ابنه الصغير سليمان ذو الأربع سنوات وأخ له يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً إلا أن جنود العباسيين علموا بوجوده في تلك القرية ففر و أخوه  , ليفر منهم إلى الأحراش , ويطلب خادمه المساعدة من أحد معارفه في شراء الدواب والمؤن , ولكن وشاية خادم ذلك الرجل تأتي لهم بجنود بني العباس , فيقفز عبد الرحمن و أخوه في نهر الفرات فينقاد الأخير لنداءات الجنود بتوفير الأمان له في حالة الاستسلام وعجزه عن مصارعة التيارات القوية ليعود الجنود ويرى عبد الرحمن أخاه وهم يفصلون رأسه عن جسده . ليواصل طريقه لفلسطين ولحقه مولاه ومولى أخته أم الأصبغ بالمال والمجوهرات , وعبروا مصر واستقروا في افريقيه , وكان واليها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ذلك الوالي الطموح الذي  أخمد الثورات الداخلية في افريقيه , و أقرته الخلافة العباسية كوالياً لافريقيه , بل أنها حاولت محاربته عندما رأت منه ميولا انفصالية لولا أن موت الخليفة أبو العباس أوقف هذا , وفي افريقيه استقبل عبد الرحمن الفهري أمراء البيت الأموي , بل تزوج و أخوته من نسائهم , ولكن أمراء البيت الأموي تآمروا عليه , لأنهم رأوا أنهم أولى منه بالحكم وأعلى نسباً وشرفاً, وخشي منهم أن يقضوا عليه ويستأثروا بحكم البلاد لأنفسهم , فتربص بالقتل لكل أمراء بني أميه الذين وفدوا ويفدون إلى أفريقيه , وبالتالي كان قدوم عبد الرحمن بن معاوية لافريقيه خطراً كبيراً عليه  , فاضطر للتنقل متخفياً بين القبائل ينشد الملجأ , فمن برقة لبني رستم في تاهرت , إلى قبيلة مكناسة , ثم قبيلة مغيلة و قد لاحقه هناك عبد الرحمن الفهري فأخفته زوجة شيخ القبيلة تحت ثيابها , فنجا من القتل , و قد أكرم شيخ قبيلة مغيلة وزوجته بعد أن حكم الأندلس , حيث عاشا هناك تحت رعايته .

   ثم انتهى المقام بعبد الرحمن في قبيلة نفزة وكانت أمه من سبيهم . وقد طال به المقام في الترحال لخمس سنوات قاسية , فقرر أن يعبر البحر تاركاً العباسيين , وعبد الرحمن الفهري . فأرسل مولاه مولاه للاندلس ليدرس أحوالها ويطلب العون من زعماء موالي بني أمية ويوعدهم بأرفع المناصب .

   ولبوا بدورهم النداء لابن أصحاب الفضل عليهم من بني أمية , فهم من وهبوهم حريتهم و أعطوهم السلطة , وكانت الأندلس في صراع بين زعماء اليمنية والقيسية , و اقترح موالي بني أمية على يوسف الفهري زعيم القيسية بالمصاهرة مع عبد الرحمن بن معاوية ولكنهم فشلوا , , فلجأوا لليمينية ضد القيسية , الذين رحبوا بالأمير الجديد وأرسلوا له سفينة , فكانت آخر لحظات عبد الرحمن على الشاطيء الافريقي مغامرة أخرى حيث حال بين ركوبه السفينة مجموعة من البربر أرادوا المال , لأنهم كانوا يعرفونه ويعرفون مقصده , ولم يردعهم سوى  توزيع أحد أنصار عبد الرحمن المال عليهم , ليركب السفينة وتستقبله أرض الأندلس , ليرحب به اليمنية وجند الأندلس القرشية و كانت , صلاة عيد الفطر عام 138هجرية – 756 م , أول صلاة يدعى فيها على المنبر لعبد الرحمن بن معاوية وذلك في أرشذونة , أما زعماء القيسية وعلى رأسهم يوسف الفهري والصميل بن حاتم الذين تخلوا عن عبد الرحمن بن معاوية كان الصدام المحتوم معهم  ليس بالأمر الهين  , فهو الغريب عن الأندلس ومع ذلك اضطر لعبور المسالك الضيقة شديدة الانحدار وفيضان نهر الوادي الكبير و مواجهة الأمطار الغزيرة , و كان النصر من نصيب عبد الرحمن بن معاوية و اليمنيين وقتل ابن يوسف الفهري و ابن الصميل بن حاتم , وغنم اليمنيين معسكر القيسية , بل تدافعوا لقصر يوسف الفهري في قرطبة منتهكين حرمته , ولم يقدر عليهم عبد الرحمن وقد استجارت زوجة يوسف الفهري وابنتاه بعبد الرحمن فاستأمنهم ورد إليهم ماتمكن من استخلاصه ممن نهبوهم , فأهدته إحدى ابنتي يوسف الفهري جارية أسبانية تدعى حلل التي ولدت له بعد ذلك خليفته هشام .

   و سرعان ما انقلب اليمنية على عبد الرحمن لمنعهم من نهب قصر يوسف الفهري وحمايته لنسائه وأرادوا تدبير مؤامرة ضده و أن يكونوا حكام الأندلس بعد التخلص من القيسية و الأمويين , ولكن الانقسامات الداخلية بين زعمائهم جعلت عبد الرحمن يأخذ حذره , فعدلوا عن موقفهم , وآثروا السلم ودخل عبد الرحمن المسجد الجامع وصلى بالناس وخطب فيهم يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 138هجرية , الرابع عشر من مايو 756م , لتكون بذلك بداية الدولة الأموية في الاندلس ونهاية لست سنوات صعبة ترك فيها سلطان قومه إلى بلاد  بلاد بعيدة . .

    و لم تنته عند هذا رحلة صقر قريش والأندلس , بل كانت تلك أول خطوة في مغامراته , فلم ينته بعد أمر القيسية وعلى رأسهم يوسف الفهري و الصميل بن حاتم , فجهز لهم الجيش و العدة , ألا أن يوسف والصميل آرادا السلم , فكان الاتفاق على أن يسلم يوسف ولدين له لعبد الرحمن والذي وعده بأن يحسن معاملتها ويلزمهما الاقامة  في القصر , ورد إليه أسراه . و استتب الأمر لسنوات , ورضى الصميل بماحدث ولكن يوسف الفهري لم يرض خاصة و أنه وجد من هم أقل منه شأناً أصبحوا أصحاب نفوذ , فأراد خلع عبد الرحمن بن معاوية والذي علم بالأمر ففر من قرطبة ليجمع جيشاً من العرب والبربر في مدينة ماردة سنة 141 هجرية / 758 م , وقد قبض عبد الرحمن على الصميل الذي أيقن بأنه شريك يوسف الفهري وكذلك ولدي يوسف .

    في حين أن يوسف الفهري كانت جيوشه تتجمع من الساخطين على بني أمية , واتجه بهم لاشبيليه وكان واليها عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم  والذي بادر بالخروج اليه وكذلك ابنه عبد الله والي مدينة مورور و خرج إليه ايضا عبد الرحمن بن معاوية وقد التحم  يوسف الفهري مع والي اشبيليه وولده فهزم وفر ناجياً بنفسه ومعه أحد أعوانه , إلا أن أحد أنصار بني أميه أدركه فقتله وأرسل رأسه لعبد الرحمن بن معاوية والذي بدوره قطع رأس ابن يوسف الأكبر و أبقى على الأصغر لحداثة سنه , وأرسل بمن خنق الصميل في سجنه  .

   وماحدث كان ناقوساً للخطر لتنبيه عبد الرحمن لخطر الفهريين فطليطلة وواليها هشام بن عزرة الفهري ابن عم يوسف الفهري كانوا مؤيدين لثورته , ثم أصبحت ملجأً لابي الأسود محمد بن  يوسف الفهري والذي عفا عنه عبد الرحمن بن معاوية , إلا أن جيش عبد الرحمن دخل طيطلة بعد حصار و قبض على ابن يوسف الفهري وكان ذلك عام 142هجريه – 760م . وبعد هذا بعام و أربعة أشهر ثار في طليطلة رزق بن النعمان الغساني فقتله عبد الرحمن بن معاوية , ثم ثار هشام بن عزرة عام 144هجريه  – 761م . فحاصره الأمير عبد الرحمن فطلب هشام صلحاً , فاشترط عليه الأمير أن يسلمه ابنه لضمان عدم نقضه العهد , وبمجرد عودة الأمير حتى تمرد ابن عزرة وخلع الطاعة , فعاد له عبد الرحمن بن معاوية لحصار طليطلة ولكنه فك الحصار لعلمه بثورة في كورة باجة غرب الأندلس بقيادة العلاء بن مغيث اليحصبي فاضطر والتوجه إليه ولكنه قطع رأس ابن هشام ابن عذرة والذي كان رهينة عنده و ألقى بها بالمنجنيق لوالده .

  وكانت ثورة العلاء بإيعاز من الدولة العباسية حيث اتفقت مع العلاء بن المغيث ووعدته بإمارة الأندلس إن قضى على عبد الرحمن بن معاوية , وقد جاء من افريقية ومعه لواء الدولة العباسية وذلك عام 146هجرية – 763 م , ودخل المدينة معلناً الثورة وانضم إليه اليمنية - لتمرد عبد الرحمن من سيطرتهم عليه , وغيرهم من الساخطين على بني أمية , وقد اضطر الأمير عبد الرحمن للتحصن بقلعة قرمونة قرب اشبيلية التي كانت تؤيد العلاء , وأمر من كان معه من أهل اشبيليه بالبقاء في حصن المدور بالقرب من قرطبة , أما أهل اشبيليه المتمردين فقد أمر مولاه بدر بقتلهم , وقد حاصر العلاء الأمير عبد الرحمن حوالي شهرين وكان هذا في مصلحة الأمير فقد عاد الكثيرين من رجال العلاء إلى أوطانهم , فاختار عبد الرحمن سبعمائة من خيرة رجاله , وأوقد ناراً عظيمة قرب الباب المواجه لاشبيليه , وحث أعوانه أنه إما النصر أو الموت , فاخترقوا الحصار وتمكنوا من الانتصار وقتل العلاء , وقطعت الرؤوس , وعلقت بأذن كل رأس رقعة تحمل اسم صاحبها ومكانته , وحفظت بحشوها بالملح والكافور , ووضعت في سفط , حملها أحد تجار قرطبة إلى مكة وقت حج الخليفة إبى جعفر المنصور , ووضع السفط أمام سرادقه ليراها الخليفة , ويعي الرسالة .

    وفي عام 147 هجرية – 764م , ارسل الأمير عبد الرحمن مولاه بدر وقائده تمام بن علقمة لحصار هشام بن عزرة في طليطلة , وقد طال الحصار حتى أرسل أهل طليطلة بطلب الأمان وتسليم زعماء الثورة هشام بن عزرة وعثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وحيوة بن الوليد , وبالفعل تم تسليمهم لبدر وسيروا إلى قرطبة ودخلوها بعد أن حلقت رؤوسهم ولحاهم وألبسوا جباب الصوف  و أدخلوا في السلال وحملتهم الحمير , ثم قتلوا وصلبوا , وبعثت أخبارهم لكل الأندلس ليكونوا عبرة وعظة لأي متمرد .

   وما أن انتهى الأمير عبد الرحمن من ثورة هشام بن عزرة في طليطلة حتى قامت فيها ثورة لليمنية عام 149 هجرية – 766 م بقيادة سعيد اليحصبي , و خرجوا لأشبيلية وتمكنوا بها بل وزاد عددهم بانضمام بعض أهلها لتمرده , ثم قصدوا قرطبه فخرج إليهم عبد الرحمن بن معاوية فتراجعوا إلى أحد القلاع بالقرب من اشبيليه فحاصرهم , بل أن والي شذونه غياث بن علقمة اللخمي وغيره من اليمنية قد ارسل امدادات إلي سعيد اليحصبي فأرسل الأمير عبد الرحمن جيشاً لقطع الامدادات فقابل غياث وتصالح معه والعودة إلى شذونة , فاضطر سعيد اليحصبي للخروج للاشتباك فقتل , ثم تزعم أهل الحصن خليفة بن مروان  ولطول الحصار طلبوا الأمان فدخل عبد الرحمن الحصن وخربه وقتل خليفة بن مروان وأصحابه ثم حاصر شذونه فطلب أهلها الأمان , فأمنهم وقبض على من كان يعرف كراهيتهم له . ثم ثارت أشبيليه بزعامة أبو الصباح اليحصبي , الذي كان ينوي من قبل على التخلص من الأمير عبد الرحمن فأبعد عن قرطبه ليتولى اشبيليه ثم عزل منها عام 148هجريه – 766م . فكان ذلك سبباً لثورته , وكان الأمير عبد الرحمن صبوراً معه لنفوذه على عرب اليمنية بل طلب منه القدوم والمفاوضة في قرطبة , وقد حدث وكان اليحصبي غضوباً مع أميره متوعداً له , فأمر عبد الرحمن بن معاويه فتيانه بأن يقتلوه , ثم استشار وزرائه في سجنه و هو يعلم سطوته حيث أتى اليحصبي بأربعمائة من جنده , تركهم خارج قرطبه , فنصحه الوزراء بالتراجع عن هذا , فكان قراره أن قطع رأسه و أخرجها لجنوده فعادوا إلى بلادهم وقد استهجن معاونه عبد الله بن خاد تلك الخيانة وانقلب إلى معاونة الخليفة العباسي .    

   وبرغم هذا عادت اشبيليه للثورة ثأراً لليحصبي وتزعم الثورة حيوة بن ملامس الذي كان فيما مضى من أول المرحبين بالأمير عبد الرحمن , ثم دب الخلاف بينهم وكان بينهم قتالاً ثم صلحاً عام 145هجرية – 762م . إلا أن طلب ثأر اليحصبي بل وانضم إليه أقارب اليحصبي من حكام المدن وتوجهوا إلى قرطبة التي غاب عنها الأمير لخرجه لقمع ثورات البربر في شرق الأندلس . فاستمات للدفاع عنها الأمويين وعلى رأسهم عبد الملك بن عمر ابن عم الأمير والذي استخلفه على قرطبه , وتم لهم النصر وقتلوا حيوة بن ملامس وفر عبد الغافر اليحصبي عابراً البحر إلى  المشرق , وفي العام التالي أعد الأمير عبد الرحمن العدة ودخل اشبيليه وقتل عدداً كبيرأ من أتباع بن ملامس فضمن طاعة أهلها . ومنذ تولى الأمير عبد الرحمن حكم الأندلس , كانت تظهر له بين كل ثورة وثورة , ثورة . فبعدما قتل أبي الصباح اليحصبي عام 146هجرية – 763م , قام البربر بثورة كبيرة بشمال شرق الأندلس وتزعمهم الفقيه شقياً بن عبد الواحد و أصله من مكناسه , و أضاف لنفسه النسب العريق بادعائه أن من ولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها وسمى نفسه عبد الله بن محمد الفاطمي . وقد كثر أعداؤه حيث كان البربر يشكلون غالبية مسلمي الأندلس و لم يكونوا على وفاق مع العرب , وقد استفحل أمر الفاطمي فكان يستولي على المدن من حوله , وقد انتصر على جيش الأمويين وقتل قائده , مما اضطر الأمير أن يسير له بنفسه عام 152 هجريه , ولم يكتب له النصر الحاسم حيث كان يعتصم الفاطمي بالجبال , فعاد الأمير عبد الرحمن لقرطبه و أرسل مولاه بدر ليطارده , ولم يفلح بدر ايضاً , ولا حتى الأمير بنفسه عندما كرر المحاولة عام 154هجريه , وكذلك فشل جيش الأمير عام 155هجريه , وأدرك الأمير أن القوة لن تجدي والفاطمي معتصماً بالجبال , فلجأ للحيلة بأن استمال أقوى زعيم من البربر في شرق الأندلس ويدعى هلال المديوني وقربه منه و أقره على مابيده و عهد إليه بما سيطر عليه الفاطمي , فقدر كثير من  أتباع الفاطمي قوة المديوني وتركوه فلمس الأمير عبد الرحمن موقف الفاطمي الضعيف واتجه لمحاربته ولكنه تقهقر بعد أن علم بثورة اليمنية , وبعد انتصاره عليهم قرر العودة لمحاربة الفاطمي الذي ضعفت قوته بمرور السنوات ولكن شوكته لازالت كانت قوية , ولم يكتب لجيوش عبد الرحمن النصر , فلجأ للدسيسة حيث نجح اثنان من أصحاب الفاطمي بقتله , و حملا رأسه لقرطبه , لتنتهي بذلك ثورة البربر في الشرق عام 160هجريه – 776م و التي استمرت لعشر سنوات .

  وإذا كان يوسف الفهري زعيم القيسية أول من تصادم مع عبد الرحمن بن معاوية في الأندلس وتمكن من قتله عام 142هجريه – 759 م , فنجد أنه قد سجن ابنه أبو الأسود محمد , والذي ادعى العمى و اتقن دور الأعمى , حتى تخفف الحراسة عليه , ويدبر مولى له الهرب من سرداب في السجن يفضي للنهر الكبير ,  كان يخرج منه السجناء لقضاء حوائجهم . وعندما حانت اللحظة وخرج مع باقي السجناء , قفز إلى النهر ليعبره سباحة ويصل إلى اتباعه ليذهبوا لطليطلة , وهناك كانت ثورته التي انضم إليها أهلها , وخرج أبو الأسود من مدينة لأخرى فسارع إليه عبد الرحمن وتتابعت معاركهم , والي لم يكتب له النصر إلا بعد الاتفاق مع قائد ميمنة جيش أبي الأسود , والذى تخلى عنه , فاضطر للفرار والاختباء بقرية قريبة من طليطلة توفي فيها عام 170هجريه – 787 م , فحمل لواء الثورة أخوه القاسم والذي خرج إليه الأمير عبد الرحمن في العام التالي فأسرع بطلب الصلح , فوافق عبد الرحمن ونقله لقرطبه ولم يسيء إليه .

   ولم ينس العباسيون ثأرهم مع الأمويين والذين أوعزوا بالثورة إلى العلاء بن المغيث اليحصبي , ثم  انتهى الأمر بقطع رأسه هو و أعوانه , وارسالها إلى الخليفة أبو جعفر المنصور , وبعد تولي ابنه  الخليفة المهدي الحكم , نجده قد اشترك مع أعداء عبد الرحمن بن معاوية , ليحيطوا به كشقي رحى , فاتفق مع عبد الرحمن بن حبيب الفهري ووالي برشلونة سليمان الكلبي ووالي سرقسطة الحسين بن يحيي الأنصاري ووالي الجزيرة الرماحس الكناني , ومعهم من الخارج شارلمان الذي تطلع للاستيلاء على الأندلس أو على الأقل شمالها ليأمن غزوات المسلمين على فرنسا .

    وكانت الظروف مواتية لشارلمان فالساكسون قد اعتنقوا المسيحية وخضعوا له , ونفي أخطر ملوكهم ولجأ لأمير دانماركي .

   و قد دخلت الدولة الأموية في الأندلس في علاقلات طيبة مع الدولة البيزنطية التي كانت تجاور الدولة العباسية وتعاديها وفي نفس الوقت و كانت الدولة البيزنطية تعادي البابوية والتي كانت مدعومة من الفرنجة .

  وفي وسط كل هذا اراد شارلمان عبور جبال البرانس ليدخل سرقسطه فيسلمها له سليمان بن يقظان , وفي نفس الوقت يقتحم أسطول عبد الرحمن الفهري ومعه جيش من البربر , من المغرب ليهاجم  شرق الأندلس فيطبقون على عبد الرحمن بن معاوية ويقضون عليه , وترجع الأندلس للخلافة العباسية بمساعدة حليفه شارلمان .

   إلا أن تنفيذ الخطة لم يكن سهلاً , فقد وصل عبد الرحمن الفهري قبل وصول شارلمان , فكان هدفاً سهلاً للأمير عبد الرحمن فاستغاث بوالي برشلونه  سليمان بن يقظان ليساعده للوصول لوالي سرقسطه والتحالف معه , فتقاعس عن مساعدته ,  بحجة انتظاره لشارلمان , فانقلب الحلفاء لأعداء حيث اتجه عبد الرحمن الفهري لقتال والي برشلونه  , والذي هزمه , وفي نفس الوقت كان الأمير عبد الرحمن قد أحرق أسطول عبد الرحمن الفهري الذي كان راسيا , فحوصر الأخير , وهرب إلى الجبال , ولجأ عبد الرحمن لسلاح الخديعة , حيث تمكن مشكار البربري صديق عبد الرحمن الفهري من قتله , وحمل رأسه إلى الأمير عبد الرحمن وذلك عام 162هجريه- 778 م , أما والي الجزيرة الرماحس الكناني فبمجرد ما أن أعلن عن الثورة ,هاجمه الأمير عبد الرحمن , فعبرالبحر فاراً إلى بغداد , أما سليمان بن يقظان والي برشلونة فقد تحالف مع والي سرقسطه الحسين الأنصاري في الثورة ضد الأمويين , فأرسل الأمير عبد الرحمن جيشاً هزمه والي برشلونه , و أسر قائده , وتوجه به إلى ألمانيا للقاء شارلمان , داعياً إياه لغزو شمال أسبانيا , ولم يستعد لذلك شارلمان إلا بعد انقضاء الشتاء , وجهز الغزو في ربيع 778م للتوجه جنوباً , وقسم جيشه لقسمين الأول يعبر شرق جبال البرانس والثاني بقيادته ويتجه غرباً ويتقابلا على ضفاف نهر ايبرو أمام سرقسطه , وقد اخترق شارلمان بلاد البشكنس المستقلة عن أي قوى سواء الفرنجة أو المسلمين وهزمهم واستولى على بنبلونة عاصمتهم . وكان معه والي برشلونه بن يقظان , وتقابل مع النصف الشرقي من جيشه ليتحد الجيش لمقابلة حليفهم والي سرقسطه , والذي كان يضمر السوء لابن يقظان لظهوره بموقف الزعامة أمام شارلمان فتخلى عن ابن يقظان ولم يخرج لملاقاة شارلمان بل وتحصن بمدينته , وفشل شارلمان في اختراقها , وقد اضطر لفك الحصار والعودة لبلاده , حيث تمرد السكسون وحرقوا أراضي شارلمان وارتدوا عن المسيحية وعادوا لوثنيتهم , وأسر معه والي برشلونه لأنه كان السبب في فشل الحملة , واثناء عودته على بلاد البشكنس وقد علموا بفشل حملته و انضم إليه قوات مسلمة مجاورة لمساعدتهم في الوقوف أمام شارلمان , إلا أنه هزمهم وهدم حصونهم واقتحم عاصمتهم مرة أخرى , و لكن عبوره لجبال البرانس لم يكن سهلاً , حيث تحالف ابني سليمان بن يقظان و أعوانه مع البشكنس و فهاجموا مؤخرة جيش شارلمان , وحرروا سليمان بن يقظان وباقي الرهائن , و قتلوا منها العدد الكبير وعلى رأسهم القائد رولان و الذي خلدته الملاحم  والأساطير الشعبية والتي اعتبرت بطولته في عدم النفخ في البوق والاستنجاد بشارلمان منتهى الاخلاص له وكانت ملحمته بداية الدب الفرنسي .

   وبذلك كان معظم أعداء الأمير عبد الرحمن في تلك الحملة الحاشدة قد قضوا على أنفسهم  , حيث أوعز الحسين الأنصاري بقتل ابن يقظان في المسجد الجامع بعد أن لجأ إليه , وعندما توجه الأمير عبد الرحمن لحصار والي سرقسطه نجد أن عيشون بن سليمان بن يقظان جاء وطلب التحالف معه حيث أنه قد فر من سرقسطه بعد مقتل أبيه , وقد طلب والي سرقسطه الصلح , وقدم ابنه سعيد رهينه , فوافق الأمير عبد الرحمن , وتركه والياً لسرقسطه , ثم انتقل لبلاد البشكنس واقتحم عاصمتها بنبلونة ودخلت تحت طاعته , ودفع واليها الجزية .

   وقد فر ابن والي سرقسطه من معسكر معاوية إلى أبيه , والذي تشجع وأعلن ثورته , فأرسل له الأمير جيشاً , هزمه و أسر يحيي بن الحسين و عدد من صحبه , و أعدموا في قرطبه , وفي العام التالي 167هجريه – 783 م , حاصر عبد الرحمن سرقسطه ثم هدم أسوارها وقتل والي سرقسطه وأعوانه , وفر سعيد بن الحسين , وعين قائده ثعلبة بن عبيد الله الذي افتداه من الفرنجه , والذي سبق أن هزم أمام بن يقظان و أرسل كرهينة لشارلمان .

   وبذلك تمكن الأمير عبد الرحمن من التخلص من أعدائه تباعاً , تارة بالقوة وتارة بالخديعة والخيانة والتفريق بين صفوفهم , وفي هذا أحوال متناقضة فأعداء اليوم , كانوا حلفاءا ً بالأمس والعكس , وإن كتب له أن يسانده بعض المخلصين الذين افتدوه بأرواحهم , كما كان له من الدهاء وتدبير الأمر بأن يأخذ كل استفادة من حلفاء اللحظة قبل أن ينقلبوا عليه , و قد عاداه الجميع , الدولة العباسية وعرب افريقيه , ودخل في صراع مع ممالك الجوار من الفرنجة والبشكنس , وانقلب عليه عرب اليمنية والقيسية والبربر وحكام ولاياته , وحتى أهله من الأمويين والذين أتوا بدعوة منه  فارين بحياتهم .  ولكنه كان يؤمن بأنه أفضلهم , لأنهم لم يفعلوا مثلما فعل في تأسيس دولة جديدة , لذلك قدم إلى قتل ابن أخيه وابن عمه عندما أحس منهم بميول للخروج عن طاعته عام 163 هجريه – 779م ,780م , بتأييد مولاه عبيد الله بن عثمان أول من سانده في الأندلس عندما تلقى رسالته , وقد عفا عنه لذلك . ثم كانت محاولة أخرى لقتله عام 167هجريه , اشترك فيها ابن أخ ثان له , مع ابن الصميل بن حاتم عدوه السابق وبعض زعماء القبائل العربية , وكانت وشاية شركائهم هي من كشفت أمرهم فقتلوا جميعا ماعدا ابن أخيه الذي طرد للمغرب بعد أن منحه خمسة آلآف درهم . وقد أطلق عليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور صقر قريش . وقد سمي بعبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل بني أمية قرطبة حاكماً .

   وقد حكم الأندلس ثلاثة و ثلاثين عاماً وتوفي عام 172هجريه – 787م وهو في نحو الثامنة والخمسين عاماً .