التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الخميس، 16 نوفمبر 2023

حدوتة قبل النوم


صورة تخيلية للملكة استير مع جواريها للرسام البريطاني إدوين لونج 


في قديم الزمان يحكي أن ملكاً عظيماً كان يحكم بلاداً قوية غنية كانت له زوجة جميلة , ولكنها ذات مرة رفضت أوامره و قللت من شأنه أمام ضيوفه , فانتقم لكرامته وطلقها بناءاً على نصيحة حكماءه , ثم اقترح له معاونوه الذي اختيار مجموعة من العذراوات الجميلات , عوضا ً عن زوجته , فكانت منهم بنت جميلة بريئة , كانت تقرأ للملك كل يوم ثم تنصرف , فانجذب لها وأحبها ثم تزوجها وصارت ملكة , وذات يوم سمع أحد معاونو الملك المخلصين والذي كان سببا ً في أن يأتي بالملكة للقصر ,  بمؤامرة لاثنين من المخصين بالقصر,  لقتل الملك , فيرسل للملكة بأن تبلغ سيدها بتلك المؤامرة , ويعدم المتآمرين , فيثير كل هذا حنق , الوزير الأعظم , الذي أراد الاطاحة بالملكة والوزير , فطلب من الملك أن يختبر ولاء  وزيره  , بأن يسجد له , فيرفض لأنه كان يعبد الله , بينما كان ملكه اً , فيطلب الوزير الأعظم الاذن الاطاحة بكل قوم ذلك المسؤول حيث كان الوزير الأعظم  من نسل قوم بينه وبين قوم الوزير صراعات قديمة , فتتدخل الملكة وتلبس أفخم ثيابها وتتزين بأحسن زينة وتذهب للملك في مخدعه , وتعلن له أنها ابنة عم معاون الملك  كذلك القصر يعج بابناء عمومتها خدم الملك المخلصين الذين انقذوه من القتل , والذي سينتهي أمرهم بسيف الوزير الأعظم , وتستخدم سحرها الأنثوي , لينقلب الحال بقتل الوزير الأعظم وقومه ومصادرة أملاكهم , ونجاة قومها , لتصبح بطلتهم وتذكرها الأجيال من بعدها .

    هذه ليست من قصص ألف ليلة وليلة , وهذه ليست شهرزاد التي سحرت الملك بقصصها , أنها "هداسا" البطلة اليهودية أو "استير" , والتي سمي على اسمها سفر من أسفار التوراة تقديرا لجهودها , وتلك القصة قد تبدو أقرب للخيال , ألا أن فريقاً مخلصاً في العمل , هو كان المحرك لأحداث تلك القصة , فبعد وفاة الملك الفارسي القوي "دارا الأول "تولى ابنه "خشيارشا الأول " أو "زركسيس" الحكم (حكم بين 485 و465 ق.م )- على الرغم من أنه لم يكن أكبر الابناء -, وكان ملكاً قوياً كأبيه , واستكمل مسيرته في حربه ضد اليونايين , ودخل معهم في معارك شرسة , حتى أنه صنع جسراً من السفن المربوطة بسلاسل عبر مضيق الدردنيل , واجتاز بجنوده تراقيا ومقدونيا , واشتبك اسطوله بأسطول اتحاد المدن اليونانية في معركة من أضخم معارك العالم القديم أو معركة سلاميس عام 480ق.م . وكاد أن يفنى فيه أسطوله , ثم يقرر أن يعود لبلاده فارس , ويترك حروب اليونان لقائد جيشه "ماردونيوس" , الذي تنال منه الهزائم ثم يقتل هناك , أما "خشيارشا " الذي عاد لفارس انقلبت حياته  ليعيش حياة البذخ والحفلات الصاخبة , وكأن أحدهم قد خطط لقلب نظام حياته ليصرف نظره عن بلاد اليونان البعيدة ليعود وسطهم هناك على أرض فارس . 

خريطة توضح موقع معركة سالاميس 

  

وكان خشيارشا له زوجة حكيمة وفية , وفي إحدى الحفلات الصاخبة- والتي كانت تستمر لأيام طويلة -والملك تحت تأثير الخمر , طلب الملك من زوجته أن تخرج من الحريم لتأتي لضيوفه لعرض جمالها , فرفضت , فغضب الملك من تصرفها , فأوعز له أحد الحكماء – ويبدو أنه من اراد في البداية أن تخرج لضيوفه – أن يطلقها لأن مافعلته الملكة سوف ينتشر خبره , ولن تنصاع بعد ذلك الزوجات لأوامر أزواجهن , ثم عرض على الملك البديل , وجيء له بالعذراوات الجميلات من كل البلاد , فاختار واحدة منهن , ويبدو أن كل شيء كان معداً له فبنات الأمراء وعلية القوم , كن أولى بشرف أن يصبحن الملكات وهن أصحاب الأصل النبيل  , ولكن الملك اختار فتاة فقيرة من بين الجواري تدعي "استير " , وهي ابنة عم "موردخاي " أحد حكماء الملك , وكان وصياً عليها بعد وفاة والديها والاثنان من سبط بنيامين بن يعقوب , وقد وضع أمامه استير واسمها الحقيقي  العبري الذي أخفته هو "هداسا" , وكان بفارس عدد كبير من اليهود , وهم الإرث الذي ورثه الفرس من السبايا اليهود المنفيين الذي أخذهم الملك البابلي نبوخذ نصر من بلادهم , وقد طلب منها مردخاي بألا تخبر الملك بهويتها اليهودية , وكان يطمئن عليها يوميا في بيت النساء بالقصر , مما يدل على نفوذه ووضعه لخطة محكمة على الملك , ويبدو أنه من كان متولياً أمر مايريده الملك من رغبات  , وشيئا فشيئا تلفت "استير" انتباه الملك لها من وسط كل الجواري -بعد أن كانت في البداية تقرأ له فقط قبل أن يخلد للنوم - " فيختارها زوجة , وذات مرة يسمع "مردخاي " مؤامرة لاثنين من خصي القصر بقتل الملك , ويبدو أنه كان معتاداً على التلصص والتصنت في القصر , وبرغم قربه من الملك , إلا أنه أراد اختيار الوقت المناسب والخبر المناسب من الشخص المناسب , فكان من أوصل له الخبر , الملكة "استير " وبعد قتل الخصيين , لمع نجم استير أكثر وأكثر وأصبحت هي ومردخاي ,  أصحاب نفوذ قوي , مما أوغر صدر الوزير الأعظم "هامان " من نسل أجاج ابن العماليق أعداء اليهود القدامى , ومن حال بينهم وبين دخول فلسطين , بعد خروجهم من مصر , ومن حاربوهم بعد ذلك ودخلوها بعد انتصروا عليهم .

الملك خشيارشا الاول 

  فأراد "هامان " أن ينتهي من أمر مرخاي " فأمره أن يسجد للملك كباقي الحاشية فرفض "مردخاي "  , ليوعز للملك بأن يأمر بقتله وقتل كل اليهود , لأنه لافائدة منهم , و أن أبسط شروط الطاعة لم يؤدها , ولما علمت "استير " بذلك وهي من كانت على علم بكل خبايا القصروكان لها مجموعة كبيرة من الجواري والخصي يأتون لها بالأخبار  , فققرت أن تذهب للملك في مخدعه بعد أن لبست أغلى ثيابها وظهرت في أحسن صورة على الرغم من أنه لم يطلب رؤيتها وكان في ذلك مخاطرة كبيرة عليها , وأقنعته بسحرها , أن مردخاي بريء , وأنه من قام بانقاذ حياة الملك من قبل , وهو ابن عمها وأن قتل اليهود قومها جريمة كبيرة يريد أن يفعلها الشرير هامان , وأن حياتها ستصبح في خطر بعد أن أراد القضاء على كل اليهود وهي منهم , فاستشاط الملك غضبا على شخص أراد أذية الحكيم مردخاي الذي أنقذ الملك ونقم على اليهود شعب الملكة , وواجه هامان والذي ذعر ولجأ للملكة في مخدعها , لتؤثر على الملك في أن يعفو عنه , فيراه الملك في مخدعها ويظن أنه أراد أن يغتصبها , فيأمر بقتله , وتعليق جثته في نفس المكان الذي أعد لمرخاي من قبل , وصودرت أملاك "هامان " وقتل ابنائه العشرة , و أصدر الملك قراراً أن من حق اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم ضد أعدائهم , فبادر اليهود بالهجوم وقتل 75 ألفاً من ابناء العماليق , وصارت "استير" بطلة في نظر قومها , واطلق اسمها على احدى الأسفار , وأصبح ذكرى يوم قتل هامان عيدا دينياً عند اليهود يسمى عيد المساخر أو الفوريم , ويتم في ذلك اليوم قراءة سفر "استير " وصنع الضجيج عند ذكر اسم "هامان " . وبلا شك أن ماترتب على ذلك لم يكن صادرا من مجرد استعطاف فتاة جميلة كانت جارية لأقوى ملك في العالم , بل أن الملك كان محاطاً باليهود الذين تغلغلوا في كل نواحي حياته بداية من قراراته السياسية وحتى غرفة نومه بدون أن يصرح الكثير منهم بأنهم يهوداً في الأساس , وكان طبيعيا ً أن ينتهي أمره بالقتل بايعاز من قائد حرسه , بعد أن أمضى حياته في اللهو والمجون , ومنقاداً لليهود بقيادة استير ومردخاي , أما خليفته الملك أرتحشتا " الأول الملك الجديد , فقد سمح لليهود بأن يعودوا لأورشليم , تأكيداً على نجاح ماخططت له استير وقومها , باستمرا تأثيرهم القوي على أقوى ملوك الأرض . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق