صورة تخيلية للملكة استير مع جواريها للرسام البريطاني إدوين لونج |
في قديم الزمان يحكي أن ملكاً عظيماً كان يحكم بلاداً قوية غنية كانت له زوجة جميلة , ولكنها ذات مرة رفضت أوامره و قللت من شأنه أمام ضيوفه , فانتقم لكرامته وطلقها بناءاً على نصيحة حكماءه , ثم اقترح له معاونوه الذي اختيار مجموعة من العذراوات الجميلات , عوضا ً عن زوجته , فكانت منهم بنت جميلة بريئة , كانت تقرأ للملك كل يوم ثم تنصرف , فانجذب لها وأحبها ثم تزوجها وصارت ملكة , وذات يوم سمع أحد معاونو الملك المخلصين والذي كان سببا ً في أن يأتي بالملكة للقصر , بمؤامرة لاثنين من المخصين بالقصر, لقتل الملك , فيرسل للملكة بأن تبلغ سيدها بتلك المؤامرة , ويعدم المتآمرين , فيثير كل هذا حنق , الوزير الأعظم , الذي أراد الاطاحة بالملكة والوزير , فطلب من الملك أن يختبر ولاء وزيره , بأن يسجد له , فيرفض لأنه كان يعبد الله , بينما كان ملكه اً , فيطلب الوزير الأعظم الاذن الاطاحة بكل قوم ذلك المسؤول حيث كان الوزير الأعظم من نسل قوم بينه وبين قوم الوزير صراعات قديمة , فتتدخل الملكة وتلبس أفخم ثيابها وتتزين بأحسن زينة وتذهب للملك في مخدعه , وتعلن له أنها ابنة عم معاون الملك كذلك القصر يعج بابناء عمومتها خدم الملك المخلصين الذين انقذوه من القتل , والذي سينتهي أمرهم بسيف الوزير الأعظم , وتستخدم سحرها الأنثوي , لينقلب الحال بقتل الوزير الأعظم وقومه ومصادرة أملاكهم , ونجاة قومها , لتصبح بطلتهم وتذكرها الأجيال من بعدها .
هذه ليست من قصص ألف ليلة وليلة , وهذه ليست شهرزاد التي سحرت الملك بقصصها , أنها "هداسا" البطلة اليهودية أو "استير" , والتي سمي على اسمها سفر من أسفار التوراة تقديرا لجهودها , وتلك القصة قد تبدو أقرب للخيال , ألا أن فريقاً مخلصاً في العمل , هو كان المحرك لأحداث تلك القصة , فبعد وفاة الملك الفارسي القوي "دارا الأول "تولى ابنه "خشيارشا الأول " أو "زركسيس" الحكم (حكم بين 485 و465 ق.م )- على الرغم من أنه لم يكن أكبر الابناء -, وكان ملكاً قوياً كأبيه , واستكمل مسيرته في حربه ضد اليونايين , ودخل معهم في معارك شرسة , حتى أنه صنع جسراً من السفن المربوطة بسلاسل عبر مضيق الدردنيل , واجتاز بجنوده تراقيا ومقدونيا , واشتبك اسطوله بأسطول اتحاد المدن اليونانية في معركة من أضخم معارك العالم القديم أو معركة سلاميس عام 480ق.م . وكاد أن يفنى فيه أسطوله , ثم يقرر أن يعود لبلاده فارس , ويترك حروب اليونان لقائد جيشه "ماردونيوس" , الذي تنال منه الهزائم ثم يقتل هناك , أما "خشيارشا " الذي عاد لفارس انقلبت حياته ليعيش حياة البذخ والحفلات الصاخبة , وكأن أحدهم قد خطط لقلب نظام حياته ليصرف نظره عن بلاد اليونان البعيدة ليعود وسطهم هناك على أرض فارس .
خريطة توضح موقع معركة سالاميس |
وكان خشيارشا له زوجة حكيمة وفية , وفي إحدى الحفلات
الصاخبة- والتي كانت تستمر لأيام طويلة -والملك تحت تأثير الخمر , طلب الملك من
زوجته أن تخرج من الحريم لتأتي لضيوفه لعرض جمالها , فرفضت , فغضب الملك من تصرفها
, فأوعز له أحد الحكماء – ويبدو أنه من اراد في البداية أن تخرج لضيوفه – أن
يطلقها لأن مافعلته الملكة سوف ينتشر خبره , ولن تنصاع بعد ذلك الزوجات لأوامر
أزواجهن , ثم عرض على الملك البديل , وجيء له بالعذراوات الجميلات من كل البلاد ,
فاختار واحدة منهن , ويبدو أن كل شيء كان معداً له فبنات الأمراء وعلية القوم , كن
أولى بشرف أن يصبحن الملكات وهن أصحاب الأصل النبيل , ولكن الملك اختار فتاة فقيرة من بين الجواري
تدعي "استير " , وهي ابنة عم "موردخاي " أحد حكماء الملك ,
وكان وصياً عليها بعد وفاة والديها والاثنان من سبط بنيامين بن يعقوب , وقد وضع
أمامه استير واسمها الحقيقي العبري الذي
أخفته هو "هداسا" , وكان بفارس عدد كبير من اليهود , وهم الإرث الذي
ورثه الفرس من السبايا اليهود المنفيين الذي أخذهم الملك البابلي نبوخذ نصر من
بلادهم , وقد طلب منها مردخاي بألا تخبر الملك بهويتها اليهودية , وكان يطمئن
عليها يوميا في بيت النساء بالقصر , مما يدل على نفوذه ووضعه لخطة محكمة على الملك
, ويبدو أنه من كان متولياً أمر مايريده الملك من رغبات , وشيئا فشيئا تلفت "استير" انتباه
الملك لها من وسط كل الجواري -بعد أن كانت في البداية تقرأ له فقط قبل أن يخلد للنوم
- " فيختارها زوجة , وذات مرة يسمع "مردخاي " مؤامرة لاثنين من خصي
القصر بقتل الملك , ويبدو أنه كان معتاداً على التلصص والتصنت في القصر , وبرغم
قربه من الملك , إلا أنه أراد اختيار الوقت المناسب والخبر المناسب من الشخص
المناسب , فكان من أوصل له الخبر , الملكة "استير " وبعد قتل الخصيين ,
لمع نجم استير أكثر وأكثر وأصبحت هي ومردخاي ,
أصحاب نفوذ قوي , مما أوغر صدر الوزير الأعظم "هامان " من نسل
أجاج ابن العماليق أعداء اليهود القدامى , ومن حال بينهم وبين دخول فلسطين , بعد
خروجهم من مصر , ومن حاربوهم بعد ذلك ودخلوها بعد انتصروا عليهم .
الملك خشيارشا الاول |
فأراد "هامان "
أن ينتهي من أمر مرخاي " فأمره أن يسجد للملك كباقي الحاشية فرفض
"مردخاي " , ليوعز للملك بأن
يأمر بقتله وقتل كل اليهود , لأنه لافائدة منهم , و أن أبسط شروط الطاعة لم يؤدها
, ولما علمت "استير " بذلك وهي من كانت على علم بكل خبايا القصروكان لها
مجموعة كبيرة من الجواري والخصي يأتون لها بالأخبار , فققرت أن تذهب للملك في مخدعه بعد أن لبست
أغلى ثيابها وظهرت في أحسن صورة على الرغم من أنه لم يطلب رؤيتها وكان في ذلك
مخاطرة كبيرة عليها , وأقنعته بسحرها , أن مردخاي بريء , وأنه من قام بانقاذ حياة
الملك من قبل , وهو ابن عمها وأن قتل اليهود قومها جريمة كبيرة يريد أن يفعلها
الشرير هامان , وأن حياتها ستصبح في خطر بعد أن أراد القضاء على كل اليهود وهي
منهم , فاستشاط الملك غضبا على شخص أراد أذية الحكيم مردخاي الذي أنقذ الملك ونقم
على اليهود شعب الملكة , وواجه هامان والذي ذعر ولجأ للملكة في مخدعها , لتؤثر على
الملك في أن يعفو عنه , فيراه الملك في مخدعها ويظن أنه أراد أن يغتصبها , فيأمر
بقتله , وتعليق جثته في نفس المكان الذي أعد لمرخاي من قبل , وصودرت أملاك
"هامان " وقتل ابنائه العشرة , و أصدر الملك قراراً أن من حق اليهود أن
يدافعوا عن أنفسهم ضد أعدائهم , فبادر اليهود بالهجوم وقتل 75 ألفاً من ابناء
العماليق , وصارت "استير" بطلة في نظر قومها , واطلق اسمها على احدى
الأسفار , وأصبح ذكرى يوم قتل هامان عيدا دينياً عند اليهود يسمى عيد المساخر أو
الفوريم , ويتم في ذلك اليوم قراءة سفر "استير " وصنع الضجيج عند ذكر
اسم "هامان " . وبلا شك أن ماترتب على ذلك لم يكن صادرا من مجرد استعطاف
فتاة جميلة كانت جارية لأقوى ملك في العالم , بل أن الملك كان محاطاً باليهود
الذين تغلغلوا في كل نواحي حياته بداية من قراراته السياسية وحتى غرفة نومه بدون
أن يصرح الكثير منهم بأنهم يهوداً في الأساس , وكان طبيعيا ً أن ينتهي أمره بالقتل
بايعاز من قائد حرسه , بعد أن أمضى حياته في اللهو والمجون , ومنقاداً لليهود
بقيادة استير ومردخاي , أما خليفته الملك أرتحشتا " الأول الملك الجديد , فقد
سمح لليهود بأن يعودوا لأورشليم , تأكيداً على نجاح ماخططت له استير وقومها ,
باستمرا تأثيرهم القوي على أقوى ملوك الأرض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق