التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الجمعة، 20 أغسطس 2021

نهاية جنة قراصنة الكاريبي

 


              كثير من هواة الرحلات البحرية - حتى ممن لا يبارحون أماكنهم ويكتفون بالمشاهدة على الانترنت أو الأفلام الوثائقية - ينبهرون بجمال جزر البحر الكاريبي ذات المياه الزرقاء الصافية والجبال الخضراء و الغابات والشلالات وزد عليهم الاستعداد لاستقبال السياح بالاطعمة الخاصة ودفء الاستقبال والموسيقى والثقافة و المنتجات الوطنية .

     

 


 


                                                     بورت رويال الآن 

   

   وتبرز من بين تلك الجزر "جاميكا " التي وصفها "كريستوفر كولمبس" بأنها الأجمل من بين مااكتشفه من الجزر , وعند تفقد الأماكن السياحية التي ينصح بمشاهدتها قرية هادئة للصيادين تدعى "بورت رويال " أو الميناء الملكي , يتميز أهلها بالود والطيبة  ويذكر الدليل السياحي أسماء المرشدين من صندوق التراث الوطني الجامايكي  , وعددهم  لايزيد على أصابع اليد الواحدة  وعلى استعداد لاصطحابك في جولة في "بورت رويال " لمعرفتهم التامة بتاريخها البائد والذي يتمثل في متحف صغير آخر ماتبقى من حصن "فورت تشارلز " و كان مخزناً للأسلحة عام "1888"م - وقد تعرض لزلزال قوي عام "1907"م فأصبح جزءا من يسمى "جيدي هاوس " من المعالم بسبب ميله الغريب - ويحوي القليل  من الآثار المنتشلة من تحت الماء .

                                                   جيدي هاوس 

 

    وقد زاد من هدوء المكان انقطاع الرحلات السياحية البحرية إليه منذ أربعين عاماً- لظروف سياسية - حتى بدأت السفن السياحية تتدفق إليها خاصة أن الحكومة قد زودت الميناء برصيف عائم كانت بداية عمله استقبال 2000 زائر , في يناير 2020م , قادمين على السفينة "ماريا ديسكفري 2 " .


                           عودة الرحلات البحرية لبورت رويال

     وبالطبع السائح عندما تطء قدمه تلك البقعة سيروى له تاريخ حافل , ربما لن يستطع البعض الربط بينه وبين مايراه الآن من هدوء وزوال لتلك الآثار .

    فبعد اكتشاف كريستوفر كولمبوس للعالم الجديد , توسع المكتشفين من بعده في الغزو , ونهب ثروات العالم الجديد برعاية أسبانيا والبرتغال , فطمعت بريطانيا في أن يكون لها موطئ قدم فبدأت بانشاء المستعمرات في أمريكا الشمالية و حاولت الاتجاه جنوباً لجزر الكاريبي ففشلت في الاستحواذ على هسبانيولا " هاييتي و جمهورية الدومينكان الآن " فاتجهت إلى "جامايكا " وحصلت عليها في "1655 "م , واستعانت انجلترا بقوات غير نظامية , لم تدربها أو تدفع لها راتبا , وتدين لها بالولاء وكانت شوكة في ظهر القوات البحرية الأسبانية , وكانت تلك القوة هي القراصنة , التي كانت تتقاسم معهم الغنائم , وظهر منهم "هنري مورجان " من ويلز , وكان من الطبيعي لسفن القراصنة بعد أن تنتهي من رحلتها الدموية أن ترسو على شاطئ للتزود بالمؤن والاستمتاع بالغنائم , وبديهياً لن يكون ذلك على جزر العدو الأسبانية أو العودة للوطن فيما وراء المحيط وهم رسمياً خارجين على القانون , فوقع الاختيار على استراحة ومدينة سميت "بورت رويال" التي كانت مركزاً للقراصنة والجنس وتجار العبيد ووصفت بأنها المدينة الأكثر شراً في العالم , وكان ذلك بمباركة انجلترا .

       

                                                          القرصان هنري مورجان 

     ثم عينت القرصان "هنري مورجان " نائباً لحاكم جامايكا عام 1675م  وقبلها بعامان أعطته لقب سير تقديراً لجهوده , وقد انتهى عهده في القرصنة بعد أن تصالح الانجليز مع الأسبان , وظهر للعلن أن الانجليز ومعهم القرصان السابق مورجان في حرب ضد القرصنة , ربما لأن ذلك سوف يضر السفن الانجليزية مثلما كانت الاسبانية من قبل , وقد مات مورجان عام " 1688م " في مقبرة "باليسادوس "  , ولكن الزائر للجزيرة لن يجد تلك المقبرة , فقد حدث عام 1692 م زلزالاً هائلاً قدرت قوته بمقدار 7.5 ريختر دمر ثلثي مباني الجزيرة – بما فيها أربعة من خمسة حصون للمدينة وبقي حصن فورت تشارلز - والتي كانت مبنية على الرمال ثم اعقبها موجات تسونامي لتغرق مابقي منها , فغرق ثلاثة وثلاثين فداناً من المدينة , وكانت منها مقبرة "هنري مورجان" وطفت الجثث بكل مكان , حيث قدر عدد الضحايا بحوالي ألفي قتيل .

        وبما أنها مدينة الشر فمن بقي من ساكني المدينة عاث فيها فساداً لينهب الثروات التي قتل أصحابها ويسرق ويقتل كل من ظهر عليه الضعف . وتناقلت الأخبار بسرعة عن الجزاء الإلهي الذي أنزله الله بالقراصنة وتجار الجنس والعبيد و الأثرياء من الانجليز الذين جمعوا الثروات غير الشرعية .
    إلا أن ذلك لم ينه تاريخ المدينة الأسود فبقيت مقصداً للقراصنة في الكاريبي لنصف قرن بعدها ومن أشهرهم  القرصان الانجليزي " كاليجو جاك " أو جاك راكهام التي كانت نهايته على الجزيرة حيث حكم عليه الانجليز بالشنق هو وأفراد طاقمه عام "1720م" , والغريب في الأمر أنه لم يتم القبض عليه بواسطة الأسطول الانجليزي , بل أوعز الانجليز صائد القراصنة "جوناثان بارنت " و "جان بونادفس " القرصان الفرنسي السابق بتلك المهمة والذي كان هو وسفنه خاضعين لخدمتهم , أي أن الانجليز لم تنقطع صلاتهم بالقراصنة الذين يخدمون مصالحهم والذين يكتفون بالاغارة على سفن الأسبان دون الانجليز , وتكررت تلك الاستعانة مرات عديدة منها الاستعانة بالقرصان الانجليزي "بينجامين هورنجولد "الذي كان له يد ايضا في تقويض قوة "جاك راكهام " بل أن "هورنجولد " قد سلم الانجليز القرصان "ادوارد تيتش " أو ذو اللحية السوداء الذي كان معلمه وحليفه السابق .

 

القرصان جاك راكهام 

 

القرصان ادوارد تيتش 




وقد يظن البعض أن البحر الكاريبي جنة للسفن الأسبانية والبريطانية و القراصنة حيث الملاحة الآمنة , وهذا غيرصحيح  فالسفن كانت تتعرض للأخطار الطبيعية وتميزت تلك المناطق بالصخور والمياه الضحلة التي قد تهدد السفن بالغرق والتحطم , ولتجنب ذلك كان هناك ملاحاً انجليزياً يدعى "جوزيف سميث " كانت له خبرة طويلة في الابحار في أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي فقد أعد "كتاب ربان الهند الغربية" وفي عام "1766" م ,  و به 13خريطة وإرشادات ملاحية مفصلة للمرور بين الموانئ في منطقة البحر الكاريبي , ثم أضاف عليها ثم نشر طبعة موسعة تحتوي على 26 خريطة في "1771" م . لتجنب مخاطر الابحار والرسو في تلك المناطق . 


                خريطة قديمة لجامايكا وجزر بحر الكاريبي من عام 1778م 

   وإذا عدنا لمدينتنا "بورت رويال" سنجد أنها ابتليت بالعديد من النكبات منها حريق مدمرعام"1710"م , إلتهم أغلب مبانيها , وزلزال شديد عام  "1907" م , ثم أغلق الانجليز ميناء بورت رويال لأن المدينة نفسها لم تعد آمنة من الكوارث , وكان آخر كارثة أصابت المدينة اعصاراً قوياً دمر مابقي منها عام "1951" م , وبالطبع كانت تلك الكوارث يأتي في ذيلها الأمراض والأوبئة . وقد بقي القليل من آثار المدينة الغنية , والتي تحولت لقرية صغيرة لايزيد عدد سكانها عن 2000 نسمة .

 


 


                         تحصينات بورت رويال المباقية حتى الآن  

      وبورت رويال في الحقيقة لاتختلف كثيراً عن مانقرأه من قصص وأفلام عن المغامرات واكتشاف الكنوز وبقايا السفن , فالمياه المحيطة بها شهدت منذ النصف الثاني من القرن العشرين - والذي شهد تطور آلات الغطس والتنقيب تحت الماء – رحلات كثيرة للأثريين و صيادي الكنوز ومحبي المغامرات , فتحت المياه المحيطة ببورت رويال يستقر مجد المدينة من كنوز غمرتها مياه البحر , ويقدر تلك المسافة بأربعين قدماً تحت الماء , وشهد النصف الثاني من القرن العشرين مغامرات الغواصين تحت الماء وتسجيلها , وكان من أطرف مااكتشف ساعة للجيب بتاريخ 1686م توقفت في تمام الساعة 11:43, وقد اكتشفت عام 1969م , وقد أنشأت حكومة جامايكا صندوق للتراث الوطني به شعبة للآثار مركزها ميناء كينجستون العاصمة , وبالاستعانة بالسونار اكتشفت سفينة غارقة للقراصنة بميناء كينجستون , وقد تعاون صندوق التراث الوطني مع برنامج الآثار البحرية بجامعة تكساس إيه أند ام للكشف عن المدينة الغارقة ,وقد انتهى ثمرة تعاونهم عام 1990م , وبعد فهرسة تلك الآثار أصبحت بورت رويال من المواقع الأثرية الرسمية  بجامايكا  وذلك عام 1999م . ووضعت حكومة جامايكا نصب عينيها هدف واضح في تجميع أكبر قدر من الآثار المنتشلة لتكوين متحف كبير يليق بتاريخ المدينة الحافل .

 

                                اجزاء من المدينة الغارقة 
اجزاء من المدينة تحت الماء  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق