التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

بلاد لاما وليما



هي بيرو أو البيرو أو جمهورية بيرو , دولة من دول أمريكا الجنوبية لها مذاق خاص , اشتق اسمها من  اسم حاكم محلي عاش بالقرب من خليج " سان ميغيل"  في "بنما" في أوائل القرن السادس عشر.  عندما زار المستكشفون الإسبان ممتلكاته عام "1522" م كانت أقصى جنوب العالم الجديد المعروف حينها لهم .  وعندما استكشف "فرانسيسكو بيزارو" المناطق الأبعد إلى الجنوب أصبحت تعرف باسم  "بيرو"ثم.  أضاف التاج الإسباني الصفة الرسمية للتسمية في إعلان توليدو عام 1529 والذي أطلق اسم مقاطعة بيرو على أراضي إمبراطورية الإنكا.  وأصبحت تحت الحكم الإسباني تعرف باسم ولاية بيرو والتي أصبحت جمهورية بيرو بعد حرب الاستقلال البيروفية.


                                  موقع بيرو بالنسبة لأمريكا الجنوبية                               


    تبلغ مساحتها حوالي 1.2 مليون كم مربع . يحدها من الشمال كل من الإكوادور وكولومبيا ومن الشرق البرازيل و من الجنوب الشرقي بوليفيا وتشيلي من الجنوب والمحيط الهادئ من الغرب والعاصمة  ليما .

 تشتهر بجبال الأنديز التي تحاذي المحيط الهادي وتقسمها لثلاث مناطق جغرافية . فالساحل يقع إلى الغرب و يتصف بكونه ضيق وقاحل الأودية الناجمة عن الأنهار الموسمية. ثم جبال الأنديز وبها  أعلى قمة في البلد "هوسكاران" بارتفاع 6768  م. ثم  منطقة الغابات وتمثل حوالي 60% من مساحة البلاد,  وبيرو  رابع أكبر مساحة من الغابات المدارية في العالم بعد البرازيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإندونيسيا. و تنبع معظم أنهار بيرو من قمم جبال الأنديز , ومن أطول أنهارها :" أوكايالي" و"مارانيون "و"بوتومايو" و"الأمازون". و برغم من أنها دولة استوائية إلا أن  جبال الأنديز وتيار "همبولت" جعلوا المناخ متنوعاً فالساحل معتدل الحرارة وذو أمطار منخفضة ورطوبة عالية باستثناء المناطق الشمالية الأكثر دفئاً ورطوبة . والمرتفعات مطرها صيفي ,  وتقل درجات الحرارة والرطوبة مع الارتفاع وصولاً إلى قمم جبال الأنديز المجمدة. تتميز مناطق الغابات بهطول الأمطار الغزيرة وارتفاع درجات الحرارة عدا جانبها الجنوبي البارد شتاء وذو الأمطار الموسمية. وبسبب التنوع في الجغرافية والمناخ ظهره أثره في زراعتها فهي تزرع البطاطس , الكوسا , والفول السوداني , والقطن منذ آلاف السنين وتزرع الآن الذرة , الأرز , والبن و بجانب الزراعة كنشاط اقتصادي  هناك ايضا  صيد الأسماك والتعدين والصناعات الخفيفة التقليدية كالنسيج .


قمة هوسكاران أعلى قمة في الأنديز 

                     غابات الأمازون في بيرو 

 


النسيج التقليدي في بيرو

 

 صيد الاسماك في بيرو

 

و بسبب هذا التنوع أيضا  كان هناك  تنوعاً حيوياً كبيراً أوجدت من أجله العديد من المحميات الطبيعية . وشمل هذا التنوع كذلك  السكان والثقافات فعدد سكانها حوالي 30 مليون نسمة متعددي الأعراق فخلال الخمس قرون الأخيرة حدث تغيرات على خريطة السكان فقد دخل الأسبان في القرن السادس عشر البلاد ووجدوا سكانها الأصليين عددهم حوالي 9 مليون نسمة تناقصوا إلى حوالي 600 ألف نسمة بسبب الأمراض المعدية القادمة مع الغزاة وكانت غريبة عنهم  .  و السكان الموجودون الآن حوالي 45 % منهم من السكان الأصليين , و حوالي الثلث من المستيزو وهم نتاج زواج السكان الأصليين و الأسبان , و قد جلب الأسبان بالأفارقة كرقيق بداية من القرن السادس عشر , ثم بدأت الهجرات الأوروبية من انجلترا و فرنسا وألمانيا وايطاليا و اسبانيا فشكلوا الآن  15 %, ثم جاء الصينيون في خمسينات القرن التاسع عشر و استبدلوا مكان العمال الرقيق , ثم جاءت هجرات العرب واليابانيين , ليشكل كل هؤلاء 3 % . يتحدث أغلبهم الأسبانية وإن احتفظ السكان المحليون بلغاتهم الأصلية . وأغلب السكان من المسيحيين الكاثوليك والتي غلبت على ديانة السكان الأصليين الذي كانوا يعبدون الشمس وعناصر الطبيعة , ويعاني معظم سكان بيرو من الأمية وسوء التغذية وارتفاع الوفيات بين المواليد .

 

   السكان الأصليين لبيرو 

 

                 المستيزو 

  والتنوع السكاني في بيرو خلف تنوعا ايضا في الفن نراه واضحا وإن ظل تأثير حضارة الإنكا ظاهرا في الخزف والنحت والمنسوجات والمجوهرات و العمارة , مع وجود تأثير واضح للفن الباروكي في العمارة خاصة في الكنائس والأديرة . و الموسيقى في بيرو متأثرة بالفن الأسباني و الأفريقي بجانب موسيقى سكان الانديز .

 ولتاريخ بيرو أثر عميق على مختلف نواحي الحياة , والذي يمتد لأكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد , ثم  تميزت حضارة نورتي شيكو، على ساحل المحيط الهادي في ما بين 3000 و1800 قبل الميلاد.  تبع ذلك حضارات تاريخية مثل" الكابيسينك" و "الشافيين" و" الباراكاس" – من 800 إلى 100 ق.م وتميزت بنظم الري والتقدم في النسيج - و" الموشيكا "و"النازكا "- في الساحل الجنوبي  بين أعوام 200 ق. م - 600 م ذات مستوطنات صغيرة الحجم نظرا للبيئة الجافة جدا على نمو السكان، وهي تتميز بالفخار والملون بألوان متدرجة . ثم تميزت في القرن الخامس عشر حضارة "الإنكا " أو إمبراطورية "إنكا" (1438–1527) م , كامبراطورية قوية غنية شملت مجتمعات اعتمدت على الزراعة  وتربية ورعي اللاما و أشباهها  وصيد الأسماك واستخراج المعادن خاصة الذهب و الفضة وصناعة النسيج  وتبادلت منتجات تلك الأنشطة فيما بينها . وكانت الانكا مقرها الاداري والعسكري هو  "كوسكو" ومقر عبادة الشمس و قد اكتشف حديثا أنها أكثر بقعة على كوكب الأرض تتعرض للأشعة فوق البنفسجية , وتقع على جبال الانديز وترتفع أكثر من 3000 متر عن سطح البحر وقد بلغ عدد سكانها أكثر من ربع مليون نسمة , أصبحت من المزارات السياحية الهامة نظرا للكنائس و الأديرة والقصور التي بناها "فرانسيسكو بيزاو" على أنقاضها عندما استعمر امبراطورية "إنكا "وكذلك لأنها تحتوي على المطاعم التي تقدم أنواع البطاطس الأصلية بالطرق التقليدية .  

 

 

                     حضارة نورتي شيكو 

 

ذهب ملوك انكا 


وامبراطورية "انكا" تحتوي ايضا على أعجوبة من عجائب الدنيا السبع الجديدة أو المدينة المفقودة أو "ماتشو بيتشو"  وتعني "قمة الجبل القديمة"  وعثر عليها الصدفة عام "1911م "المستكشف الأمريكي "هيرام بينغهام " , وكانت مغطاة بالغابات الاستوائية الكثيفة , وهي في نطاق إقليم "كوسكو " على ارتفاع أكثر من 2250 متر عن سطح البحر , على جانبيها هاوية سحيقة ارتفاعها حوالى 600 متر , تحتوي على الكثير من الحدائق والأروقة والبنايات والقصور الفخمة والترع وقنوات الري وبرك الاستحمام . وتربط السلالم الحجرية بين الحدائق والشوارع المختلفة الارتفاع . ويعتقد أنها لم تكن للمعيشة وإنما كانت لتقديم القرابين ، حيث وجدت أعداد كبيرة من جثث للنساء في هذه المدينة. لاعتقاد  شعب "الإنكا "أن النساء بنات الشمس المقدسة.

 

ماتشو بيتشو 

 

                   ماتشو بيتشو 

 

               ماتشو بيتشو 

 

                    هيرام بينجهام 



وظلت امبراطورية "انكا" في ازدهار حتى وطأ المستعمر الأسباني أرض الامريكتين ومعه الأمراض المعدية من العالم القديم ففي الفترة ما بين "1524_1526"م اكتسح مرض الجدري حضارة "الإنكا "بعد انتقاله من" بنما ".مما أدى لموت حاكم "الإنكا " وأغلب عائلته و وريثه , وهو ما أدى إلى انهيار نظام "الإنكا" السياسي واندلاع الحرب الأهلية بين الأخوين" أتوالبا "و "واسكار". وشجع ذلك الصراع القائد الأسباني "بيزارو" فهزم "أتاوالبا" أخيه "واسكار", ثم هزم" بيزارو" "أتاولبا " الذي افتدى نفسه بغرفة من الذهب وغرفتين من الفضة , ومع ذلك نكث وعده "بيزارو" وقتله وقضى على أي معارضة من السكان الأصليين للحكم الأسباني لتظل "بيرو" تحت الحكم الأسباني بخيراتها الوفيرة وكنوز الذهب والفضة , حتى أن ممثل التاج الأسباني "فرانسيسكو توليدو" اجبر السكان الأصليين في استخراج الفضة وذلك في سبعينات القرن السادس عشر ليشكل ذلك نشاطا اقتصاديا للبلاد .


 

فرانسيسكو بيزارو 

 

حرب بيزارو مع السكان الأصليين 

 

        خوسيه دي مارتن 

 

               سيمون بوليفار 

 

  ومع زيادة الضرائب من اسبانيا على سكان "بيرو" قامت العديد من الثورات مثل ثورة " توباك أمارو الثاني" , وظل الحال كذلك حتى جاء القائدان "خوسيه دي سان مارتان" و" سيمون بوليفار" واشتركا في حرب ضد اسبانيا  , حيث ارادا الاستقلال عن اسبانيا وتشكيل اتحاد جنوب أمريكي , و أصبح خوسيه دي سان مارتن الأرجنتيني أول رئيس لبيرو  في 28 يوليو 1821 م , إلا أن الصراع بين القادة أدى لفشل الاتحاد وانهيار الوحدة ما بين "بوليفيا" و"بيرو" - تلك الدول الوليدة والتي نالت استقلالها - بعد إنشائها بفترة قصيرة , ثم دخول "بيرو" الحرب مع "تشيلي" ما بين "1879- 1883" م ، وهو ما أدى إلى خسارة "بيرو" لمقاطعتي "تاراباكا "و"أريكا" وفقا لمعاهدة "ليما" ومعاهدة "أريكا" , وعلى الرغم من كل تلك الصراعات مع الجيران , ألا أن كل هؤلاء الدول جمعهم في يوم من الأيام نفس المعاناة من المستعمر الأسباني الذي أتي من وراء المحيط و أخذ خيراتهم لبلاده وحارب ثقافتهم واختلط بهم وسكن مكانهم وتزوج منهم , لتنشأ دول جديدة تتضافر فيها حضارة المستعمر مع حضارتهم .




وإذا تناولنا معالم "بيرو" المختلفة , يجب ألا ننسى  اللاما ذلك الحيوان الذي يقطن أمريكا الجنوبية هو رفيق كفاح الانسان قاطن تلك البلاد في المناطق المرتفعة والجيلية ولا يعرفه مواطنوا الغابات والمناطق الاستوائية بأمريكا الجنوبية , وقد اتخذته بيرو شعارا لها , فقد قدم لمواطن تلك المناطق وخاصة في دولة بيرو خدمات جليلة , فهو كالبقرة للمصري القديم , والحصان أو الناقة للعربي شهد على بداية حضارته وسانده فيها بصبر وجلد ,و اعتمد على لحمه كغذاء وصوفه في الملابس والمفروشات وايضا كوسيلة نقل وكناقل للاحمال عبر الجبال ،  ذلك الحيوان , هو متعدد الأنواع يختلط على البعض في تسميتهم فالبعض يرى أنهم كلهم لاما , فمنهم : "اللاما" , "الفيكونة ", "الغوناق" , "الألباكا ", وكلما تقدمت الأبحاث تثبت اختلاف درجة القرابة بينهم و يجمعهم كلهم انتمائهم لفصيلة الجمليات و تواجدهم بجبال أمريكا الجنوبية , وكان العلماء في البداية يرونها أقرب للأغنام لكنها وضعت تحت جنس الجمليات وقد اثبتت الحفريات أنها كانت تعيش في العصور الجليدية في أمريكا الوسطى وإذا تحدثنا عن أقرب الحيوانات  شبهاً ويعتبر صنفا فرعيا من اللاما , كان " الغوناق "ولكنه  بري لم يستطع الإنسان استئناسه ربما لأن "اللاما" هناك عوضته عن ذلك , ويتميز عن "اللاما" بأذنه الصغيرة , ووزنه يصل إلى  75 كجم للإناث , 100 كجم للذكور , وارتفاع من 100سم  إلى حوالي 120 سم .  

الغوناق 

 

فيكونيا 




 وهناك "الفيكونيا" يعتمد عليها السكان المحليين في جز فروها وبيعه كنشاط اقتصادي , حيث يخرج السكان من مختلفي الاعمار في رحلة أشبه برحلات الصيد ولكنهم يتركون "الفيكونيا" بعد أن يأخذوا مايحتاجونه من الفرو ويتركوا على جسمها مايسمح لها بالتدفئة ولا يؤخذ من نفس الحيوان فروه بعد الجز إلا بعد مرور سنتين  . 

                                                                                 

                                   ألباكا    


 والنوع الثالث هو "ألباكا" ,  وينحدر من "الفيكونيا ", وهو يشبه الخروف طويل الرقبة أو اللاما الصغيرة , وهو شبه مستأنس , ويربى على مرتفعات الانديز على ارتفاع يتراوح 3500 إلى 5000 متر , ويستفاد من صوفها الذي يصنع منه الملابس الثقيلة و المفروشات , و ارتبطت "ألباكا" بشعب "الموش "في بيرو منذ الاف السنين , حيث سجلت صورها في فنونهم , فقد اعتمد عليها منذ ذلك الوقت وحتى الآن في استخدام  اللحوم والصوف ,  وتربى "الالباكا "في قطعان تصدر اصوات صاخبة عن طريق الاستنشاق للتحذير من اقتراب الخطر , وتستطيع أن تدافع عن نفسها بالركل بقدميها الأماميتين أو البصق .  و"الألباكا " يكون البصق عندها قذيفة من الهواء والقليل من اللعاب الذي يحتوي على طعامها العشبي , وللألباكا سلوك في التخلص من الفضلات يحد من انتشار الطفيليات الداخلية حيث يصطف القطيع في مكان واحد تتكون بعدها كومة من الفضلات . 

                    

                                                                        اللاما

                                   

   ثم يأتي "اللاما" الحيوان الأهم في جبال الانديز , صاحب الصوف الكثيف الذي يدخل في صناعة الملابس والمفروشات وجلده في صناعة الصنادل , ويتغذى السكان الأصليين على لحوم صغارها , ونظراً لأن "اللاما" أكبر أنواع عائلة الجمال  حجماً في أمريكا الجنوبية حيث يصل طوله إلى حوالي 119 سم إلى مستوى الظهر و حوالي 225 سم إلى فوق الرأس , ويتراوح وزنها  بين 130 إلى 155 كجم ، ويبلغ ارتفاعها عند الأكتاف حوالي 1,2م , فتلك المواصفات الجسدية , جعلت السكان منذ تاريخ قديم يستخدمونها في الحمل والنقل حيث تستطيع أن تحمل حتى 90كجم، وتسير بأقدام ثابتة في الممرات الجبلية، لمسافة أكثر من 30كم في اليوم الواحد. وإذا تعب "اللاما" ، فإنه يستلقي على الأرض ويرفض التحرّك. وعند الغضب أو التعرض للهجوم فإنه يبصق بلعاب كريه الرائحة في وجه عدوه ومايبصقه عبارة عن خليط من الطعام غير المهضوم من معدته، له حموضة عالية نسبيًا لأن مصدرها المعدة. وهذه المادة الهضمية الخارجة من معدة "اللاما" هي نفسها المادة التي يخرجها الجمل عندما يعطش وهو يخزنها في سنامه، أما "اللاما" ليس له سنام لذا فهو يخرجها من معدته .  وعند قدم مجيء الأسبان لبيرو في القرن السادس عشر الميلادي استخدموا حوالي 300,000 من حيوانات "اللاما "لنقل الفضة من المناجم. وللأسباب السابقة كانت "اللاما" شريك في بناء حضارة" بيرو" وايضا كانت تربيتها غير مكلف، فهي شديدة التحمل، تعيش على الشجيرات القصيرة ونباتات "الأُشنة "وغيرها من النباتات التي تنمو في الجبال المرتفعة. كما تتحمل البقاء لعدة أسابيع بدون ماء، وتستعيض عنه بالنباتات الخضراء الرطبة .

السبت، 17 أكتوبر 2020

مآدب دموية

 

 

مذبحة القلعة 
                           

الخلاف بين البشر يشكل  أحد طبائع النفس  , و الذي ربما قد يتنامى ليصل لصراع  دموي لا ينتهي , وقد ينتهي الصراع بالصلح النهائي فيجعل ماسبق حدوثه مجرد ذكرى مؤلمة واجبة النسيان , وقد يكون الصلح فصلا من فصول انتقام , فيها أحد الطرفين يشتعل قلبه حقداً ,  يمد يده بالسلام بينما اليد الأخرى تخفي السلاح وراء الظهر . 

    و مؤكد حدث هذا في مناسبات كثيرة يصعب حصرها - بالطبع لم تسجلها  المصادر التاريخية كلها - ومن مظاهر إكساب عملية الغدر تلك المصداقية  أن تتم المصالحة في حفل ومأدبة ليكون الناس شهوداً على حسن النية , وليندس أعوان الغادر وسط الناس ويقوموا بمساعدته دون إثارة الشبهات . وأقدم عملية للغدر من الخصم وسط مأدبة صلح سجلها التاريخ .  كانت جزءا من مراحل أسطورة مصر الشهيرة " ايزيس و أزوريس " الأسطورة التي سجلت في تاريخ مصر القديم على مدارمئات السنوات ربما من قبل التاريخ , فكان أول ظهور لها كصورة مكتملة في أول نصوص جنائزية في مصر في نصوص الأهرام في الأسرة الخامسة , ثم في الدولة الوسطي بنصوص التوابيت , وكتاب الموتى بالدولة الحديثة ثم في العصور المتأخرة  بكتابات الرحالة الاغريق وحتى القرن الثاني بعد الميلاد بكتابات المؤرخ والفيلسوف اليوناني بلوتارخ , وعلى مدار تلك العصور حدثت اختلافات بسيطة في الروايات وبقيت أحداثها الاساسية كماهي فالصراع بين الأخوين ست إله الشر وأوزرويس ملك مصر من ضمن  أحداثه قتل ست لأوزوريس وتمزيق جسده وتوزيعها على الأقاليم حتى لا يبعث مرة أخرى , فتطوف ايزيس زوجة أوزوريس البلاد هي وأختها نفتيس  زوجة ست والتي لم تكن راضية عن أفعاله , لتجمعا اشلاء الجسد وكانتا على شكل حدءتين , وتبكي ايزيس و تحيي  دموعها الجسد الميت , ثم تحمل من زوجها بحورس ملك مصر القادم وبطل الفصل الثاني من صراع الخير مع الشر , وبعد ذلك يخطط  ست لقتله مرة أخرى بطريقة ناعمة و جو سلمي مرح , فيقيم مأدبة يحضرها أوزرويس الذي نسي غدر أخيه من قبل به , ويعلن ست عن منح صندوقاً هدية للشخص الذي يتناسب مقاسه معه , وكان قد أمر باعداد واحداً يتناسب مع حجم أوزوريس , فيقوم الضيوف ، واحدًا تلو الآخر، بالنوم في الصندوق ، لكن أحدًا لم يناسب مقاسه سوى أوزوريس. وعندما يرقد أوزوريس بداخله ، يضع ست ورجاله  الغطاء على  الصندوق ويحكموا غلقه ، ويلقوه  بالنيل فيطفو الصندوق ، ويصل للبحر وتنتهي رحلته  لمدينة جبيل حيث تنمو شجرة حوله ثم يأمر ملك جبيل بقطع الشجرة لعمل دعامة لقصره ، ويكون الصندوق بداخل الشجرة. وتصل ايزيس لجبيل و وتخرج الصندوق من الشجرة حتى تستعيد جسد زوجها. و تترك الشجرة في جبيل حيث تصبح موضعًا للعبادة هناك . ويصبح بذلك أوزوريس ضحية للمرة الثانية لأخيه نتيجة مأدبة صلح كاذبة .

 وقصة أخرى للمآدب الدموية في العصر القديم لم يذكر تاريخها بالتحديد , ذكرها القرآن الكريم في قصة النبي يوسف عليه السلام  , وكانت من مراحل رحلة يوسف الطويلة بعيدا عن أهله . فبعد أن رماه أخوته في البئر وهو صغير وادعوا أن الذئب أكله , والتقطته قافلة , باعوه لعزيز مصر الذي رباه , وعندما كبر حاولت إغوائه امرأة العزيز  فأبى وأتى الله بالبرهان على صدقه وافتراءها عليه , فنقلت تلك الأخبار  المشينة لأهل المدينة , وأصبحت حديث النساء , فقال عز وجل في سورة يوسف الآية 30  " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين " , فأصبحت في نظرهن تعيش في الضلال بعد أن ملكها حبه , ففقدت رشدها , فأوغل صدر امرأة العزيز , التي لم يحفظ لها مالها و حسبها كرامتها , وارادت الانتقام منهن , فدعتهن لقصرها و أعدت لهن مأدبة ومجلس يليق بمركزها وبضيوفها , وذلك في الآية الكريمة التالية من نفس السورة , حيث قال الله تعالى : " فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " , وبذلك تم لها الانتقام , فلما رأين جمال يوسف لم يشعرن بالسكين وهو يجرح أيديهن , ولم تكتف برؤية ماحدث بل تتشفى فيهن لتشعرهن بالندم والتأنيب النفسي وكذلك أرادت منهن أن يلتمسن لها العذر , كما وردت في الأية الكريمة التي تلتها :" قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " .

ونقلة أخرى لتاريخنا الاسلامي , و حادث آخر لمأدبة صلح دموية غادرة , وكان ذلك في الأندلس وسميت بوقعة الحفرة عام 199 هجرية – 814 م , وكانت على عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل , حيث أسس جده دولة اسلامية مستقلة في الأندلس بعيدا عن الخلافة الأم في بغداد , وقد شبه الحكم بالخليفة العباسي المنصور , في حزمه و قوته وشدة ذكاءه , حيث استطاع القضاء على العديد من الفتن و الثورات في عهده , فقد ثار أهل طليطلة عام 181هجرية – 797 م بل وبايعوا أحد المولدين ويدعى عبيدة بن حميد – المولدين هو جيل جديد نشأ في الاندلس من آباء مسلمين عرب و بربر و أمهات  مسيحيات – فأرسل لهم جيشا بقيادة عمروس بن يوسف حاكم البيرة والذي  فشل في القضاء عليهم , فأدرك الحكم  أن القوة لن تنفع فلجأ للحيلة  , و طبق مبدأ فرق تسد , فاتصل سرا ببني مخشي من أهل طليطلة ووعدهم بالعطايا  , وتآمر معهم على قتل عبيدة بن حميد زعيم ثورة التمرد  , فذهب كبارهم  برأسه للقائد عمروس في البيرة ليرسلها للحكم , فأكرم وفادتهم وهو بعلم بوجود ثأر قديم بين بني مخشي وبين بربر مدينة البيرة , الذين وثبوا عليهم قتلوهم  , فذهب برؤوسهم جميعا لمقر الحكم , وانتهى من كل الأطراف دون أن يرفع سلاحه على  أحد .

فأعجب الحكم بعقلية عمروس  في الخديعة فولاه طليطلة , وأرسل لأهل طليطلة يبشرهم أنه قد جاء بواحد من المولدين والياً عليهم يرعى أمورهم ولن يكرههم على أحد أو شيء لا يرتضونه , فاطمئن أهل طليطلة , خاصة أن عمروس أظهر كرهه لبني أمية و رغبته في الثورة عليهم , ثم شرع في بناء قلعة حصينة بحجة عدم مضايقة ومزاحمة  جنده لأهل طليطلة , فلم يعارضوه على بناء الحصن في وسط المدينة , وعندما انتهى البناء أرسل للحكم يخبره بذلك , و الذي لجأ لخدعة جديدة حيث أرسل لحاكم الثغر الأعلى يأمره بأن يكتب إليه مستغيثاً من هجوم جيوش نصارى أسبانيا , فيصل الخبر للحكم فيجهز جيشا بقيادة ابنه عبد الرحمن بدون أن يثير أي شك لما ينويه , فينطلق شمالا حتى يصل طليطلة , وهنا يصله خطاب آخر بأن جيوش نصارى أسبانيا تفرقت وابتعدت عن الثغر الأعلى , فيستعد عبد الرحمن للعودة لقرطبة , فينصح عمروس بن يوسف وجهاء وزعماء المولدين , بالخروج والترحيب بعبد الرحمن بن الحكم , وفي نفس الوقت يرسل الحكم برسالة خفية لعمروس ليقنع زعماء المولدين , بأن يدخلوا بعبد الرحمن  وجنوده للمدينة فيرى قوتهم و كثرتهم , فيقتنع أهل طليطلة فيدخلها عبد الرحمن وجنوده بعد أن أظهر تمنعا في البداية ثم قبل الدعوة , و يقيم بالقلعة التي أقامها عمروس وليمة عظيمة لزعماء الولدين , بحيث يدخلوا من باب ويخرجوا من آخر بحجة عدم التزاحم , وكانوا يدخلون فيذهب بهم لجهة معينة يقطعون رقابهم ويلقون بالجثث في حفرة كبيرة خصصت لذلك من قبل , وفي نفس الوقت كان قرع الطبول و صوت المزامير يعلو على استغاثة أي أحد منهم , وظل الحال هكذا حتى منتصف النهار عندما لاحظ أحد حكمائهم , أنه لم يقابل أحدا من باب الخروج , وأن البخار المتصاعد كان بخار الدم لا دخان الطهي , فهرع الباقين وفروا وقضي على ثورتهم , بعد أن أعطوا الأمان لعبد الرحمن بن حكم ولوالي طليطلة الذي كان واحدا منهم .   

    ويشهد العصر الحديث على مأدبة دموية حدثت في مصر في عهد محمد علي , ذلك الوالي الذي صعد لسدة الحكم عام 1805 م  , بإرادة الشعب الذي لم يستطع تحمل ظلم و ضرائب ولاة الدولة العثمانية , فكان لذلك الوالي الجديد  صدامات دموية مع المماليك حتى من قبل أن يتولى الحكم , ومثلما قبل السلطان العثماني وجوده هو والأرناؤوط أو الألبانيين ,  أظهر له  محمد علي الولاء حتى يضمن تقوية جبهته الداخلية ثم مواجهته بعد ذلك , وكان له بالفعل ما أراد  ففي 1807 م عام  تمكن أهل رشيد من صد حملة فريزر الانجليزية ,  بعد أن فتح لهم حاكم الاسكندرية أمين أغا أبوابها , فتشجعت قوات محمد علي وهزمت الانجليز وطردتهم , وحالف الحظ مرة أخرى محمد علي , فقد توفي كلا من عثمان بك والألفي زعيمي  المماليك واستمر الخلاف بين مماليك الزعيمين , و نفى من أوصله للحكم  وهو الشيخ عمر مكرم الذي اتهمه بالفساد المالي لدمياط عام 1809م  أما باقي المشايخ فتم استمالتهم بالعطايا والاستقطاعات , وقد طلب منه السلطان مصطفى الرابع عام 1807م , تنظيم حملة لمحاربة الوهابيين الذين سيطروا على  الحجاز لإنهاك موارده و جنوده , فاعتبرها محمد علي فرصة جيدة ليشغل فيها جنوده  عن اثارة الاضطرابات  . و قرر قبل أن يذهب جنوده للقتال أن يقضي على أقوى خصومه في مصر ألا وهم المماليك , وكان قبل ذلك قد ضمن التأييد الشعبي لما سيفعله بأن ترك للمماليك جبابة الضرائب وهو يعلم أنهم أكثر خبرة منه في تلك الأمور وسيكونون في المواجهة مع المصريين بل وكان يعلن عدم رضاه عن أسلوبهم في جمع الضرائب ثم كانت الخطوة التالية بتدبير رفيقه عند مجيئه لمصر وصديقه "لاظوغلي "باشا  وكان هذا أنسب وقت لها ,  فمماليك القاهرة كانت بينهم وبين مماليك الصعيد مراسلات مريبة كما أن خروج ابنه "أحمد طوسون" للحجاز قد يغري المماليك بالقيام بالثورة  , فقام بتحضير حفل خروج  للحملة ودعا فيه كبار رجال الدولة والعلماء والأعيان والأمراء المماليك والبكوات والكشاف وكان ذلك في أول مارس 1811م , وقد أوهم محمد على سادة المماليك بأن دعوتهم تشريف لموكب ابنه , و اطمئن له المماليك حيث جالسهم واحتسى معهم القهوة , حتى جاء موعد التحرك و الخروج من "باب العزب" في الجهة الغربية من القلعة فكان الترتيب أن يتقدم الموكب الفرسان بقيادة " أوزون علي " ثم والي الشرطة والآغا محافظ القاهرة والمحتسب , ثم الجنود الأرناؤوط بقيادة " صالح آق قوش " ثم كان دور المماليك يتقدمهم "سليمان بك البواب "يليهم دفعة ثانية من الجند الأرناؤوط وعندما اجتازت مقدمة  الموكب البوابة وجاء دور  المماليك في الخروج من باب العزب أقفل الباب من الخارج , وتسلق الجنود الأرناؤوط الصخور من الجانبين وانهالوا بالرصاص على المماليك الذين وقفوا في مصيدة ذلك الممر الصخري , ثم انهالوا علي البقية منهم  بالذبح , وامتلأ الفناء بجثثهم , وسالت الدماء على الطريق المواجه للباب فسمي الطريق بالدرب الأحمر ثم قطعت رؤوسهم بأمر "كتخدا بك " ووضعت رؤوس كبارهم على باب الجامع الحسين ليكونوا آية وعبرة على قوة الباشا الجديد و بطشه , ولم ينج من تلك المذبحة إلا "أمين بك"  الذي قفز بجواده من على سور القلعة وكان في مؤخرة الصفوف ليهرب للشام , كما قام الجنود الأرناؤوط بمهاجمة بيوت المماليك ونهبها وقتل كل من يجدونه منهم , وظل الحال كذلك ثلاثة أيام حتى نزل محمد علي بنفسه للقاهرة ليوقف جنوده بعد أن قتل حوالي ألفاً من المماليك , و تكررت تلك المذبحة من ابراهيم باشا للمماليك الفارين للصعيد , في اسنا عام 1812م , وذلك بعد دعوة الفارين منهم للصلح واعادتهم لمناصبهم مقابل أن يعترفوا بحكم محمد علي , حيث كانوا قد لجأوا لزعماء العبابدة والبشارة فانطلت عليهم الخدعة , ثم بعدها  فر من نجى منهم  للسودان .

السبت، 3 أكتوبر 2020

مخدرات بالاكراه

 

       رسم كاريكاتيري لبريطانيا وهي تعطي الصين الأفيون بالإكراه                                





تاجر المخدرات هو ذلك الشخص ذو الوجه الذي يشي بالاجرام ويتحدث بطريقة سوقية ويحمل السلاح , والكبير فيهم عادة  مايكون بالغ الثراء قاسي القلب ويدعى المعلم يأمر بقتل هذا وتعذيب ذاك , وإذا ذكرنا تجار المخدرات من الأجانب - أغلبهم من أمريكا اللاتينية - كانوا كأباطرة لهم مناطق  نفوذ خاصة يبالغون في لبس الذهب ومحاطون بالبذخ والنساء والحرس والتابعين ,  يقدمون الرشوة للمسئولين ويقضون على الشرفاء منهم أما المدمن فهو ذلك الطالب فاقد القدوة أو الشخص المحاط بأصدقاء السوء والذي يقدم كل مايملكه لشراء المخدرات ثم يتعرض لأقسى أنواع الاذلال والمهانة بعد أن يدمر جثمانيا  ونفسيا  , تلك هي الصورة النمطية التي رسخت في أذهاننا من الأعمال الدرامية والسينمائية عن تاجر المخدرات والمدمن , ولكن في فترة من الماضي كان تاجر المخدرات شخصا ذي منصب حساس ومرموق , درس في أكبر المعاهد العلمية وله كلمة مسموعة على دول بأكملها والمدمن هو شعب بمختلف طوائفه .

              مناطق سيطرة شركة الهند الشرقية في الهند وتصديرها للأفيون للموانيء الصينية

 تلك الجريمة حدثت على أرض الصين وكان ذلك بعد زيادة نفوذ  وقوة شركة الهند الشرقية البريطانية و توسع تجارتها مع الصين أن   وجدت ميزان المدفوعات في  غير صالحها فهي تستورد الشاي والخزف والحرير وتصدر للصين  العقاقير الطبية وبعض المأكولات  , فكانت تدفع أكثر ما تأخذ . فقررت أن تصدر السلعة التي إن عرفها المستهلك طلب منها أضعافا , و كان ذلك الأفيون , فقامت بزاعة الأفيون في البنغال – بنجلاديش الآن – ودخل كسلعة مهربة ,  فاقبل عليه شعب الصين , وبعد أن كان التبادل بالسلع الصينية الغالية زيد عليه الفضة .


  أما الحكومة الصينية فأصدرت عدة قرارات لم تنفذ  , وكان ذلك بداية من عام 1729 م , ثم تجدد الحظر على تلك التجارة مابين عامي ( 1789- 1809 ) م , حيث كان تجار المخدرات لهم من النفوذ والقوة ما جعلهم  يقدمون  لرجال الحكومة الصينية الرشوة ليتستروا عليهم .

 


 


 


 


                                      التأثير المدمر للأفيون على الشعب الصيني 

    وقد دخلت الحكومة البريطانية ذلك الصراع القائم لتفوز به , إذ أصدر البرلمان البريطاني عام 1833 م قرار بعدم تجديد عقد امتياز شركة الهند الشرقية ووقف نشاطها مع الصين , وأن الحكومة البريطانية هم من سيقوم بذلك , وارسلت اللورد نابييرممثلا لها , والذي استبد بالقرارات , فرفض التواصل مع هيئة كو هونج " رابطة التجار الصينيين " وأراد الاتصال مباشرة مع نائب الامبراطور . فرفضت الحكومة الصينية التعامل معه , في حين ارسل نابيير لبريطانيا يحرضها على محاربة الصين وبيع الافيون عنوة . فحرمت الصين على مواطنيها العمل في الوكالة البريطانية التجارية , و كذلك منعتهم من بيع المواد الغذائية للبريطانيين و  ايضا  أمرت التجار الأجانب بعدم التعامل مع البريطانيين  , فاضطر نابيير لترك كانتون إلى مكاو حيث توفي هناك .

 


 


                            فرض الأفيون بالقوة على الصين 


    وضربت الصين بيد من حديد على تجارة الافيون حيث أمر "لين تسي هو" المسئول الحكومي القوي ,  التجار الأجانب بتسليم الأفيون , والتعهد بعدم الاشتراك في تلك التجارة وإلا كان الاعدام هو المصير المحتوم , فلم يذعنوا لذلك واشتبك معهم , وسلب منهم حوالي عشرين ألف صندوق , وتم اعدام تلك البضاعة المشبوهة في حفل كبير في 3 يونيه 1839م وكان ذلك نتيجة حتمية لما وجده الامبراطور الصيني داو جوانج من اهمال في رسائل للملكة فيكتوريا يناشدها بمنع تجارة الأفيون ثم مطالبة الشركات الأجنبية بأن تتخلى عن مخازن الأفيون التي لديها مقابل الشاي ولكن كل هذا لم يوقف تلك التجارة .  وقد لجأ التجار الانجليز المقيمين بمدينة كانتون للحكومة البريطانية المتمثلة في الكابتن إليوت والذي أمر تجار بريطانيا بمغادرة كانتون لهونج كونج وأعلنت بريطانيا بعدها الحرب علي الصين بحجة سوء معاملة رعاياها و عدم تطبيقها لحرية التجارة , فكانت هونج كونج قاعدة لبريطانيا لضرب المدن الساحلية واشتركت معها الولايات المتحدة حيث كانت تشترك في تجارة الأفيون وكانت تريد أن تفتح لبضائعها سوقا في الصين بدون قيود , فكانت حرباً غير متكافئة من حيث التسليح الغربي الحديث والتسليح الصيني الأقل تقدما منه ,وبذلك  احتلت بريطانيا كانتون وشنغهاي و أموي و ننج بو , فاضطرت الصين لعقد معاهدة " نانكينج " عام 1842 م , وانتهت حرب عرفت في التاريخ بحرب الأفيون الأولى  وفيها تنازلت الصين لبريطانيا عن جزيرة هونج كونج لتكون مركزاً آمناً للتجار البريطانيين , وكذلك فتحت موانئ " كانتون"  و " أموس "  و"  فوتشو"  و" ننج بو " للتجارة الاجنبية بعد أن كان التجار الأجانب لا يسمح لهم سوى بدخول ميناء جوانزو فقط , كما قيضت قيمة الضرائب التي تفرضها الصين على البضائع المستوردة بألاتزيد على 5% , مماجعل البضائع الاجنبية تغزو الصين مقابل البضائع الوطنية . ووفرت بريطانيا الحماية لرعاياها وجعلتهم لا يمثلون إلا أمام المحاكم البريطانية على أرض الصين و أعطت بريطانيا الحرية لتجارها في التعامل مع تجار الصين دون التواصل مع هيئة " كو هونج " , والأدهى أن بريطانيا فرضت غرامة قدرها 21 مليون دولار على الصين لدفع نفقات الحرب و كذلك غرامة عن الأفيون المحروق , وكان من ضمن بنود المعاهدة أنه إذا منح امبراطور الصين في المستقبل ولأي سبب امتيازات لرعايا أي دولة أجنبية أخرى فإن رعايا بريطانيا سوف ينعمون بمثل تلك المزايا  .

 

 

        تحالف الدول الاوروبية ضد الصين في حرب الأفيون الأولى 

 


 

القصف البريطاني للصين 

 
القصف البريطاني للصين 

                              حرب الأفيون الأولى 

   وفي هذا بداية لفتح الباب أمام الدول الأوروبية الأخرى في المطالبة بمزايا أسوة بمافعلته بريطانيا فهي لن تظل في صفوف المتفرجين للأبد فلكل دولة مصالح تريد أن توسعها , فبدأت المنافسة وأرسلت الولايات المتحدة مبعوثها "كاليب كشنج" للمطالبة بحقوق في التجارة مع الصين والتي نجحت بالفعل في عقد معاهدة مماثلة لنانكينج وهي معاهدة "وانهيا" عام 1844م , وذلك تحت التهديد باستخدام القوة , وتكرر ذلك في نفس العام مع فرنسا بمعاهدة "وامبو" وزيد على حقوق التجارة حرية التبشير الكاثوليكي ,  ثم تلاهم في المطالبة بحقوق غير مستحقة بلجيكا والسويد والدانمارك . و بذلك بدأت اوروبا تضع قدمها شيئا فشيئا على رقبة الامبراطورية التي اهتزت دعائمها وشهد أهل الصين على  ضعف حكومتهم . مماترتب عليه مواجهات مسلحة بين القوى الشعبية وحكومة الصين المستبدة أو ماسمي بثورة "تاي بنج"  , ووقفت الدول الأجنبية موقف الحياد منها في بادئ الأمر إلا أنها دخلت بحسم تلك الأوضاع المتصاعدة فمن ناحية لم تكون الامبرطورية الصينية قادرة على مواجهة تلك الثورة بمفردها , ومن ناحية أخرى رأت الدول الأجنبية أن  القوة الشعبية تريد إلغاء امتيازات الأجانب في الصين وتحرم تجارة الأفيون تحريماً تاماً  , فبدأت بالمناوشة الأولى عندما قدمت مطالب جديدة للحكومة الصينية , وهي موقنة بعجز الصين على التنفيذ  فتظهربذلك  قوتها أمام الامبراطورية الضعيفة , فطلبت كل من : بريطانيا , فرنسا , الولايات المتحدة الأمريكية عام 1854م بعدة مطالب , وهي : تعديل اتفاقيات حرب الأفيون الأولى , ضرورة اقامة ممثلي  الدول الاجنبية  في بكين –التي كانت محرمة على الأجانب – لسهولة الاتصال المباشربينهم  و بين الامبراطور الصيني واستقبالهم بالاستقبال الذي يليق بهم وإلغاء القيود المفروضة عليهم , وايضا فتح أسواق الصين للتجارة الأجنبية على اختلاف بضائعها وبالتالي مشروعية تجارة الأفيون  , ومقابل ذلك تتعهد تلك الدول بمساعدة امبراطور الصين في إخماد ثورة " تاي بنج " .


 فباتت الحكومة الصينية بين شقي الرحى فاختارت أن تميل كفة الدول الاجنبية و أن تماطلها وتعطي لها أقل التنازلات فهي على الأقل وعدت بمساعدتها , وإن كان ذلك مقابل إضعاف هيبتها , ففطنت الدول الأجنبية لمماطلة حكومة الصين , لكنها مالبثت أن انشغلت عنها بحرب القرم فيما بين عامي 1854 م - 1856 م . ثم بدأت بريطانيا بإشعال الفتيل , عندما طالبت الصين بالاعتذار عما اعتبرته اهانة وذلك عام 1856م , حينما فتشت السلطات الصينية سفينة "لوركا أرو " التي ترفع العلم البريطاني بدعوة أنها تأوى بعض القراصنة من بحر الصين . ولم تتلق الرد من الحكومة الصينية , فأسرعت القوات البحرية البريطانية  بأخذ الموافقة من لندن بالرد العسكري , فقامت يوم 25 ديسمير1857م  بقصف مدينة " كانتون " والاستيلاء عليها , وتلك كانت بداية لحرب سجلت في التاريخ باسم "حرب الأفيون الثانية "  ,ثم جاءت الفرصة فرنسا للاشتراك فيها  سنة 1857 م عندما قتل المبشر الفرنسي الكاثوليكي شابدلين  على أرض الصين , كما كانت بريطانيا تحتاج لمساعدتها حيث سحبت جزء كبير من قواتها لقمع التمرد الذي قام في الهند , فاتحدت قواتها مع بريطانيا وزحفا إلى " تيان – تسين " وهدفهما  بكين , فتأكدت الصين أن المماطلة و المناورة في تأجيل طلبات الدول الأوروربية , أمر له عواقب وخيمة فرضخت ووقعت على معاهدة " تيان تسين " عام 1858 م , وتحدد فيها : جعل تجارة الأفيون تجارة مشروعة , فتح موانئ جديدة أمام التجارة الأجنبية , قبول حكومة الصين باستقبال ممثلين الدول الأجنبية في العاصمة بكين ,  توفير الضمانات لسلامة التجار والمبشرين الأجانب في الصين , حرية البعثات التبشيرية في نشر معتقداتها في الصين , حرية الأجانب في السفر و التجارة والتنقل في أنحاء الصين , ووضع غرامات كبيرة على الصين , توحيد التعريفة الجمركية للتجار الأجانب داخل الصين على ألا تزيد عن 2.5  % , وحق استخدلم العمال الصينيين في العمل خارج البلاد لصالح الدول الأجنبية في مناجم الملايو و غرب الولايات المتحدة لمد خطوط  السكك الحديدية . ومرة أخرى ماطلت الصين في تنفيذ  المعاهدة فتجددت المعارك بين الطرفين , واحتلت بريطانيا وفرنسا "تيان – تسين " ثم اتجهوا لبكين ودمروا قصر الامبراطور , والذي فر وترك أخاه ليواجه المعتدين .

   فاضطر" كوانج " أخو الامبراطور من عقد سلسلة اتفاقيات مع القوات الغربية عرفت باتفاقيات بكين , وقد فرضت شروطا في صالح القوات الغربية , ومن أهمها  : أن يضمن السفراء الأجانب حق الإقامة في بكين , ضم مدينة "كولون" للقاعدة البريطانية في هونج كونج , ضم ميناء" تيان – تسين " إلى الموانيء المفتوحة التي شملتها للمعاهدات السابقة , التأكيد على شرعية العمالة الصينية في الخارج " الكولي " , اعادة كافة ممتلكات الكاثوليك التي كان تم مصادرتها عام 1824 م . وكان ذلك بداية علاقة تعاون بين الحكومة الصينية  و بين القوى الغربية ضد العدو المشترك ألا وهو القوى الشعبية متمثلة في ثورة " تاي – بنج " . فكانت قوات الامبراطور الصيني  مدعومة بضباط فرنسيين وبريطانيين , وايضا أحدث الأسلحة التي لم تستخدم من قبل  مثل بندقية أنفيلد , و تم استخدام الزوارق البخارية المسلحة -  التي لم تعرفها المقاومة الشعبية فهزمت المقاومة ودخلت القوى الغربية العاصمة " نانكينج " .  وكانت القوى البريطانية  يشارك فيها قادة في غاية الشراسة مؤمنين إيمان تام بعظمة الامبراطورية البريطانية  عما سواها , ومنهم القائد جوردون الذي شارك في احراق القصر الامبراطوري  والذي سينتقل بعد ذلك للسودان لقمع الثورة هناك ثم سيقتل .

وبذلك تكالب الغرب على الصين ,  فاحتلت بريطانيا الأقاليم الجنوبية الغربية لبورما بعد أن تنازلت الصين عنها  , كذلك أخذت منها نيبال . 

 


 


 


 


                                                      حرب الأفيون الثانية 

و احتلت فرنسا فيتنام المجاورة للحدود الجنوبية الشرقية للصين عام 1858 م . فكانت قاعدة عسكرية ضد الصين ونتيجة لذلك وقعت فرنسا معاهدة  عام 1885م أجبرت فيها الصين على فتح أبوابها الجنوبية الغربية لصالحها , ثم حصلت على خليج كوانجشو في الجنوب عام 1898م ليكون قاعدة بحرية بعقد استئجار لمدة 99 عاما , و كذلك حصلت على امتيازات في التعدين وإنشاء السكك الحديدية في إقليمي " كوانجسي "  و" يونان"  , واجبار الصين على تعيين مستشاريين فرنسيين لإدارة البريد . وكان ذلك فرصة لروسيا فاستولت على المناطق الحدودية مع الصين , بل وارسلت قواتها لشمال اقليم " سينكيانج " لتوقف توسع بريطانيا في جنوب الصين , و أجبرت الصين على تأجير قاعدة " بورت آرثر " وميناء " وارين " لمدة 25 عاما . فاحتدم الصراع الروسي البريطاني على أرض الصين , فاحتلت بريطانيا  ميناء " واي هاي واي " وأصرت على عدم الانسحاب منه حتى تنسحب روسيا من "  بورت آرثر " , ودخلت اليابان في تقطيع الغنيمة الصينية , فدخلت حرباً مع الصين هزمتها فيها , ثم عقدت معها معاهدة "شيمونوسكي " تنازلت فيها الصين لليابان عن " تايوان " , وجزر " بسكادور " , وشبه جزيرة " لياو تونج " , وفتحت الموانئ الصينية لليابان , و تحكمت في كوريا بعد أن كان هذا لصالح الصين , ولم تقف ألمانيا تشاهد ذلك دون حراك , فانتهزت مقتل اثنين من المبشرين الألمان في "شانتونج " عام 1897 م , فتم الضغط والتهديد على الصين , و تمكنت من عقد اتفاقية في 6 مارس 1898م , أخذت بها امتيازات في التعدين و السكك الحديدية في إقليم " شانتونج " واستأجرت الأراضي المحيطة لخليج " كياو تشاو " كقاعدة بحرية , أما الولايات المتحدة  فأرادت غنيمتها هي الأخرى من الصين   ،فهي  بالرغم من أنها وقعت معاهدة بالحياد أثناء الحرب ألا أن السفينة " يو إس إس سان جاسينتو "اشتركت قي  قصف حصون تاكو في عام 1859م .  ثم أخذت ما أرادته من الصين بتطبيق سياسة " الباب المفتوح  " عام 1899م , وتتلخص في اعتراف كل دولة أجنبية بمناطق نفوذ الدول الأخرى في الصين , و أن تفتح كل دولة مناطق نفوذها أمام  التجارة الحرة للدول الأخرى , وبذلك تتمكن من الوصول لأماكن النفوذ الأخرى دون التصادم مع تلك القوى , ولم تتفق معها في البداية إلا بريطانيا التي وافقت تلك السياسة ميولها , ثم مالبثت أن اتفقت الدول الست على التعاون فيمابينهم  ووضع الصين موضع الفريسة التي لا تقدر على المقاومة , فنتج عن ذلك افلاس خزانة الصين واقتراضها من كل تلك الدول بضمانات مثل : تحصيل الضرائب و ضريبة الملح و النقل الداخلي , وفرض الضرائب على الشعب الذي قاوم بكل قوته وزادت ثورته على المستعمر وعلى الحكومة التي كانت حكومة ضعيفة منذ البداية لم تستطع أن تحمي شعبها وأرضها من بلاء الأفيون , فتسلل للجسد والعقل الصيني ينخر قوته ويسلمه فريسة سهلة لمستغليه .

 

سياسة الباب المفتوح الأمريكية 

 

    الدول الأوروبية تتقاسم الصين فيمابينها