التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

ابن فرناس الحكيم الشاعر

 

                              تمثال عباس ابن فرناس بمطار بغداد 

     هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس من بربر "تاكرنا "كان من أعلام عصره , والذي كانت فيه الأندلس واحدة من مراكزالحضارة والعلم على مستوى العالم , وعاصر حكم الأمير الحكم بن هشام المعروف بالربضي  وابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط وحفيده الأمير محمد بن عبد الرحمن .  ولد في أواخر القرن الثاني الهجري – أواخر القرن الثامن الميلادي – وعاش في قرطبة العاصمة . ودرس الشعر والأدب و الموسيقى والفلسفة وتفوق في دراستهم ولبراعته في تلك المجالات كان من البارزين في بلاط الأمير الحكم بن هشام , ونتيجة احتكاكه بصفوة العقول في مجال العلوم انكب على دراسة الكيمياء و الطبيعة والفلك , وقام بنفسه بتجاربه العلمية بعد أن كان معظم أسلافه يكتفون بالدراسات النظرية , فخرجت تجاربه باكتشافات عظيمة منها : صنع الزجاج من الرمل والحجارة , واخترع النظارات الطبية , وصنع أول قلم حبر وكانت عبارة عن أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة. واختراع آلات فلكية دقيقة منها : الميقاتة وهي آلة لتعريف الوقت. وكان مهندساً طبق العلوم التي برع فيها على مقر الأمير بقرطبة فكان القصر و الحديقة من التحف المعمارية الهندسية الطريفة .

   كما حوت داره والتي كانت هي ايضا معمله غرفة كنموذج يحاكي السماء، يرى فيها الزائر النجوم والسحاب والصواعق والبرق .

    وكان ابن فرناس من البارزين في بلاط الأمير "محمد بن عبد الرحمن الأوسط " لبراعته في الموسيقى , فقدم أبرع الألحان والأغاني التي كانت أشعارها من نظمه , فكان شاعراً كبيراً في عصره , ثالث ثلاثة من كبار الشعراء وقتها , هو و مؤمن بن سعيد , و أبي عمر بن عبد ربه صاحب كتاب " العقد الفريد " .

    وكان ايضا عالماً باللغة العربية , فكان في قصر الأمير عبد الرحمن الأوسط كتاب العروض للخليل بن أحمد , وعندما قرأه بن فرناس لاحظ مالم يلاحظه أحداً في البلاط , فقد كان الكتاب ناقصاً في بدايته , فأرسل الأمير إلى المشرق يطلب بدايته , فأخذ عنه علم العروض بالأندلس , وكانت مكافأته لذلك ثلاثمائة دينار وكسوة فاخرة " . 

وقد اشتهر بمحاولته للطيران على مشهد من أهل قرطبة , فكسى نفسه بالريش وصنع جناحين بتصميم معين يساعده على الطيران وقفز من ربوة عالية وحلق لمسافة بعيدة سقط بعدها , في مشهد ظل في ذاكرة الأندلسيين وتغنى به الشعراء .

  وكان لتفوقه في كثير من المجالات عرضة لهجمات شرسة من العامة الجهلاء والخاصة الحاقدين , فاتهموه بممارسة السحر ورموه بالكفر والزندقة , فاعتقل وعقدت محكمته بالمسجد الجامع بقرطبة , في محاكمة شهدت الحشد الكثير,  وكان قاضيه القاضي المستنير سليمان بن أسود الغافقي والذي برأه من تلك التهم . وقد توفي عباس بن فرناس عام 274هجريه / 887 ميلاديه . 

   وظلت سيرة ابن فرناس يتوارثها الأجيال ففي وقتنا الحالي سميت باسمه فوهة قمرية لابداعاته في الفلك , ولتجربته في الطيران صنع له تمثالاً ووضع أمام مطار بغداد , كتب عليه   "أول طيار عربي ولد في الأندلس ", وسمي باسمه مطار آخر شمال بغداد ,وأصدرت ليبيا طابعاً بريدياً باسمه، وأطلق اسمه على فندق مطار طرابلس . 

                                                                   فوهة قمرية باسم ابن فرناس 
                                    

 أما مسقط رأسه الأندلس وتحديدا قرطبه فقد افتتح جسراً عام "2011"م , باسمه على نهر الوادي الكبير، وتوسط الجسر  تمثالاً له مثبّتاً فيه جناحين يمتدان إلى نهايتي الجسر، كما افتتح مركزاً فلكياً يحمل اسمه في بلدة رندة جنوب الأندلس .

                                    

                           جسر ابن فرناس بقرطبه 

 

الجمعة، 20 أغسطس 2021

نهاية جنة قراصنة الكاريبي

 


              كثير من هواة الرحلات البحرية - حتى ممن لا يبارحون أماكنهم ويكتفون بالمشاهدة على الانترنت أو الأفلام الوثائقية - ينبهرون بجمال جزر البحر الكاريبي ذات المياه الزرقاء الصافية والجبال الخضراء و الغابات والشلالات وزد عليهم الاستعداد لاستقبال السياح بالاطعمة الخاصة ودفء الاستقبال والموسيقى والثقافة و المنتجات الوطنية .

     

 


 


                                                     بورت رويال الآن 

   

   وتبرز من بين تلك الجزر "جاميكا " التي وصفها "كريستوفر كولمبس" بأنها الأجمل من بين مااكتشفه من الجزر , وعند تفقد الأماكن السياحية التي ينصح بمشاهدتها قرية هادئة للصيادين تدعى "بورت رويال " أو الميناء الملكي , يتميز أهلها بالود والطيبة  ويذكر الدليل السياحي أسماء المرشدين من صندوق التراث الوطني الجامايكي  , وعددهم  لايزيد على أصابع اليد الواحدة  وعلى استعداد لاصطحابك في جولة في "بورت رويال " لمعرفتهم التامة بتاريخها البائد والذي يتمثل في متحف صغير آخر ماتبقى من حصن "فورت تشارلز " و كان مخزناً للأسلحة عام "1888"م - وقد تعرض لزلزال قوي عام "1907"م فأصبح جزءا من يسمى "جيدي هاوس " من المعالم بسبب ميله الغريب - ويحوي القليل  من الآثار المنتشلة من تحت الماء .

                                                   جيدي هاوس 

 

    وقد زاد من هدوء المكان انقطاع الرحلات السياحية البحرية إليه منذ أربعين عاماً- لظروف سياسية - حتى بدأت السفن السياحية تتدفق إليها خاصة أن الحكومة قد زودت الميناء برصيف عائم كانت بداية عمله استقبال 2000 زائر , في يناير 2020م , قادمين على السفينة "ماريا ديسكفري 2 " .


                           عودة الرحلات البحرية لبورت رويال

     وبالطبع السائح عندما تطء قدمه تلك البقعة سيروى له تاريخ حافل , ربما لن يستطع البعض الربط بينه وبين مايراه الآن من هدوء وزوال لتلك الآثار .

    فبعد اكتشاف كريستوفر كولمبوس للعالم الجديد , توسع المكتشفين من بعده في الغزو , ونهب ثروات العالم الجديد برعاية أسبانيا والبرتغال , فطمعت بريطانيا في أن يكون لها موطئ قدم فبدأت بانشاء المستعمرات في أمريكا الشمالية و حاولت الاتجاه جنوباً لجزر الكاريبي ففشلت في الاستحواذ على هسبانيولا " هاييتي و جمهورية الدومينكان الآن " فاتجهت إلى "جامايكا " وحصلت عليها في "1655 "م , واستعانت انجلترا بقوات غير نظامية , لم تدربها أو تدفع لها راتبا , وتدين لها بالولاء وكانت شوكة في ظهر القوات البحرية الأسبانية , وكانت تلك القوة هي القراصنة , التي كانت تتقاسم معهم الغنائم , وظهر منهم "هنري مورجان " من ويلز , وكان من الطبيعي لسفن القراصنة بعد أن تنتهي من رحلتها الدموية أن ترسو على شاطئ للتزود بالمؤن والاستمتاع بالغنائم , وبديهياً لن يكون ذلك على جزر العدو الأسبانية أو العودة للوطن فيما وراء المحيط وهم رسمياً خارجين على القانون , فوقع الاختيار على استراحة ومدينة سميت "بورت رويال" التي كانت مركزاً للقراصنة والجنس وتجار العبيد ووصفت بأنها المدينة الأكثر شراً في العالم , وكان ذلك بمباركة انجلترا .

       

                                                          القرصان هنري مورجان 

     ثم عينت القرصان "هنري مورجان " نائباً لحاكم جامايكا عام 1675م  وقبلها بعامان أعطته لقب سير تقديراً لجهوده , وقد انتهى عهده في القرصنة بعد أن تصالح الانجليز مع الأسبان , وظهر للعلن أن الانجليز ومعهم القرصان السابق مورجان في حرب ضد القرصنة , ربما لأن ذلك سوف يضر السفن الانجليزية مثلما كانت الاسبانية من قبل , وقد مات مورجان عام " 1688م " في مقبرة "باليسادوس "  , ولكن الزائر للجزيرة لن يجد تلك المقبرة , فقد حدث عام 1692 م زلزالاً هائلاً قدرت قوته بمقدار 7.5 ريختر دمر ثلثي مباني الجزيرة – بما فيها أربعة من خمسة حصون للمدينة وبقي حصن فورت تشارلز - والتي كانت مبنية على الرمال ثم اعقبها موجات تسونامي لتغرق مابقي منها , فغرق ثلاثة وثلاثين فداناً من المدينة , وكانت منها مقبرة "هنري مورجان" وطفت الجثث بكل مكان , حيث قدر عدد الضحايا بحوالي ألفي قتيل .

        وبما أنها مدينة الشر فمن بقي من ساكني المدينة عاث فيها فساداً لينهب الثروات التي قتل أصحابها ويسرق ويقتل كل من ظهر عليه الضعف . وتناقلت الأخبار بسرعة عن الجزاء الإلهي الذي أنزله الله بالقراصنة وتجار الجنس والعبيد و الأثرياء من الانجليز الذين جمعوا الثروات غير الشرعية .
    إلا أن ذلك لم ينه تاريخ المدينة الأسود فبقيت مقصداً للقراصنة في الكاريبي لنصف قرن بعدها ومن أشهرهم  القرصان الانجليزي " كاليجو جاك " أو جاك راكهام التي كانت نهايته على الجزيرة حيث حكم عليه الانجليز بالشنق هو وأفراد طاقمه عام "1720م" , والغريب في الأمر أنه لم يتم القبض عليه بواسطة الأسطول الانجليزي , بل أوعز الانجليز صائد القراصنة "جوناثان بارنت " و "جان بونادفس " القرصان الفرنسي السابق بتلك المهمة والذي كان هو وسفنه خاضعين لخدمتهم , أي أن الانجليز لم تنقطع صلاتهم بالقراصنة الذين يخدمون مصالحهم والذين يكتفون بالاغارة على سفن الأسبان دون الانجليز , وتكررت تلك الاستعانة مرات عديدة منها الاستعانة بالقرصان الانجليزي "بينجامين هورنجولد "الذي كان له يد ايضا في تقويض قوة "جاك راكهام " بل أن "هورنجولد " قد سلم الانجليز القرصان "ادوارد تيتش " أو ذو اللحية السوداء الذي كان معلمه وحليفه السابق .

 

القرصان جاك راكهام 

 

القرصان ادوارد تيتش 




وقد يظن البعض أن البحر الكاريبي جنة للسفن الأسبانية والبريطانية و القراصنة حيث الملاحة الآمنة , وهذا غيرصحيح  فالسفن كانت تتعرض للأخطار الطبيعية وتميزت تلك المناطق بالصخور والمياه الضحلة التي قد تهدد السفن بالغرق والتحطم , ولتجنب ذلك كان هناك ملاحاً انجليزياً يدعى "جوزيف سميث " كانت له خبرة طويلة في الابحار في أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي فقد أعد "كتاب ربان الهند الغربية" وفي عام "1766" م ,  و به 13خريطة وإرشادات ملاحية مفصلة للمرور بين الموانئ في منطقة البحر الكاريبي , ثم أضاف عليها ثم نشر طبعة موسعة تحتوي على 26 خريطة في "1771" م . لتجنب مخاطر الابحار والرسو في تلك المناطق . 


                خريطة قديمة لجامايكا وجزر بحر الكاريبي من عام 1778م 

   وإذا عدنا لمدينتنا "بورت رويال" سنجد أنها ابتليت بالعديد من النكبات منها حريق مدمرعام"1710"م , إلتهم أغلب مبانيها , وزلزال شديد عام  "1907" م , ثم أغلق الانجليز ميناء بورت رويال لأن المدينة نفسها لم تعد آمنة من الكوارث , وكان آخر كارثة أصابت المدينة اعصاراً قوياً دمر مابقي منها عام "1951" م , وبالطبع كانت تلك الكوارث يأتي في ذيلها الأمراض والأوبئة . وقد بقي القليل من آثار المدينة الغنية , والتي تحولت لقرية صغيرة لايزيد عدد سكانها عن 2000 نسمة .

 


 


                         تحصينات بورت رويال المباقية حتى الآن  

      وبورت رويال في الحقيقة لاتختلف كثيراً عن مانقرأه من قصص وأفلام عن المغامرات واكتشاف الكنوز وبقايا السفن , فالمياه المحيطة بها شهدت منذ النصف الثاني من القرن العشرين - والذي شهد تطور آلات الغطس والتنقيب تحت الماء – رحلات كثيرة للأثريين و صيادي الكنوز ومحبي المغامرات , فتحت المياه المحيطة ببورت رويال يستقر مجد المدينة من كنوز غمرتها مياه البحر , ويقدر تلك المسافة بأربعين قدماً تحت الماء , وشهد النصف الثاني من القرن العشرين مغامرات الغواصين تحت الماء وتسجيلها , وكان من أطرف مااكتشف ساعة للجيب بتاريخ 1686م توقفت في تمام الساعة 11:43, وقد اكتشفت عام 1969م , وقد أنشأت حكومة جامايكا صندوق للتراث الوطني به شعبة للآثار مركزها ميناء كينجستون العاصمة , وبالاستعانة بالسونار اكتشفت سفينة غارقة للقراصنة بميناء كينجستون , وقد تعاون صندوق التراث الوطني مع برنامج الآثار البحرية بجامعة تكساس إيه أند ام للكشف عن المدينة الغارقة ,وقد انتهى ثمرة تعاونهم عام 1990م , وبعد فهرسة تلك الآثار أصبحت بورت رويال من المواقع الأثرية الرسمية  بجامايكا  وذلك عام 1999م . ووضعت حكومة جامايكا نصب عينيها هدف واضح في تجميع أكبر قدر من الآثار المنتشلة لتكوين متحف كبير يليق بتاريخ المدينة الحافل .

 

                                اجزاء من المدينة الغارقة 
اجزاء من المدينة تحت الماء  

الاثنين، 17 مايو 2021

صنع في فلسطين

 


منذ قديم الزمان عندما كان التاريخ البشري يسطر حروفه ليشهد بميلاد الأمم وانتقال البشرية من البدائية إلى العيش في مجتمعات منظمة . شهدت منطقة الشرق الأوسط ميلاد حضارات سبقت شعوب العالم وتفاوتت في درجات التقدم    فيمابينها , وبرزت الحضارة الأعظم في مصر القديمة , وقد استفادت تلك الحضارة من كل امكانيات بيئتها , وأدركت ماتفتقده . ولكونها حضارة سلام , فقد تبادلت التجارة مع جارتها فلسطين لتغطي العجز من احتياجاتها . وكان لهذا التبادل عظيم الأثر على مدن فلسطين  .

   وقد توافر في البيئة الفلسطينية الزيت والقار والنبيذ وعسل النحل , وقد وثقت لنا الحفريات على عملية التبادل التجاري , وذلك منذ عصر ماقبل الأسرات وعصر الأسرتين الأولى والثانية . فعثر على تلك المنتجات في مصر في أواني فخارية كبيرة تحمل الطابع الفلسطيني التي يتميز بالأيدي المموجه .  وكانت التجارة وقتها تتخذ الطرق البرية فمدن فلسطين البحرية لم تظهر على الساحة في ذلك الوقت .

   أما على الجانب الآخر فقد عثر في منطقة "تل جاث " بوسط جنوب فلسطين على أواني فخارية مصرية منها قطعة فخارية تحمل اسم الملك "نعرمر " ترجع لنهاية الألف الرابعة قبل الميلاد , وكذلك قطعة فخارية مكسورة عند تجميعها وجد الاسم الهيروغليفي "نعر" أو الجزء الأول للملك "نعرمر" وذلك في موقع "أراد " بمنطقة النقب .

   أما موقع "عين بيصور " بشمال النقب . فقد عثر على كتل غير منتظمة تحمل طبعات أختام ترجع للأسرة الأولى خاصة بموظفين وكهنة مصريين , ممايعني أن هؤلاء كانت لهم مهام على أرض فلسطين , أي أنها كانت قواعد ملكية مثل "تل جاث " و "أراد" للإشراف على التجارة المتبادلة , وكذلك وجدت الأختام المصرية والخرز المصري المصنوع من الذهب والأواني الفخارية في مواقع فلسطينية أخرى  مثل : "تل مالحاتا " و " تل حلف " و "تل ماعاحاز " و "تل عيراني " و "افريدار" .

   وقد عثر في "كفر موناش " بفلسطين على آثار مصرية عبارة عن أدوات ولوحات نحاسية وخرز ترجع لبداية الأسرة الأولى , ويرجح أنها خاصة بقاطعي الأخشاب ويبدو أن المصريين كانوا يأخذون الأخشاب من تلك المنطقة , بل ويبدو أن العمال المصريين كانوا يشاركون في العمل حيث عثر في جبانة "أزور " على بعض الهياكل المصرية .

   وقد عثر في مقبرة الملك "بر ايب سن " من الأسرة الثانية بأبيدوس على طبعة ختم كتب عليه "منتجات آسيا " أو ما يساوي الآن "صنع في فلسطين " وذلك يشير إلى الأشياء الملحقة بالبطاقة أنها أحضرت من آسيا .  

   ونسوق تلك الآثار التاريخية لإثبات قدم العلاقة بين المصريين والفلسطينيين  أصحاب الأرض , وتلك الأدلة التاريخية لم تذكر من قريب أو بعيد على ملكية اليهود لتلك الأرض . حيث صورت لهم الأوهام أنهم ساكنوا تلك البقاع منذ القدم , ولا يوجد دليل لوجودهم , بينما الفلسطيني عاش وصنع وتاجرو ابدع على تلك الأرض .


السبت، 15 مايو 2021

أورشليم عربية

 



   انتهكت الأرض , قتل الأبرياء العزل , دنست المقدسات , تاريخ طويل ينضح بالمآسي  , وجرح لا يندمل , يذكرنا دائما بحال الأرض الطاهرة , التي عليها  ولد و عاش الأنبياء سلام الله عليهم .

   فلسطين وعاصمتها القدس ثالث الحرمين الشريفين , وقبلة المسلمين الأولى , وستظل تلك أرضنا المقدسة مهما كان مستعمرها فتارة أوروبيون جاءوا من وراء البحار , وتارة يهود الشتات . وفي كل مرة يحاول المستعمر أن يزور التاريخ ويطمس الهوية ليثبت أن تلك أرضه , ولن ينل من ذلك – بإذن الله - سوى خداع نفسه فقط .

    والقدس تلك المدينة التي تبعد 14 ميلا عن البحر الميت , و 33 ميلا عن البحر المتوسط , ظلت منذ الاف الأعوام تتوالى عليها الأحداث الجسام وتتراكم فيها الآثار , ظلت محفورة في أذهاننا ولكن – للأسف – اختلط علينا الأمر في اسمها الثاني صاحب الشهرة "أورشليم " بأنه اسم عبري يتداوله المستعمر الصهيوني , وربما تصور البعض أنه توراتي , غير أنه هذا ما أراده المستعمر بالضبط فالقدس عاصمة فلسطين لها أكثر من اسم .

   فلها من الأسماء  العربية "بيت المقدس , و المقدس , و القدس الشريف ,  وكذلك القدس "   , أما الأسماء التي ذكرت في التوراة أو العهد القديم , فكانت : "أريئيل " وذلك في سفر أشعياء اصحاح 29 الآية 1 , "ومدينة العدل " في نفس السفر اصحاح 26 الآية 1 , و " جبل القدس " في نفس السفر ايضا اصحاح 27 الآية 13 , واسمها " المدينة " في سفر المزامير اصحاح 72 الآية 16 , وايضا "مدينة الله " في نفس السفر اصحاح 48 الآية 1 , و سميت كذلك " مدينة الحق " في سفر زكريا اصحاح 8 الآية 3 , و "مدينة القدس " في سفر نحميا اصحاح 11 الآية 1 , و " المدينة المقدسة " في سفر متى اصحاح 4 الآية 5 , وكذلك مدينة داود .

   معنى هذا أن اسم أورشليم ليس عبرياً كما نظن , بل إنه اسم قديم , ورد من قبل التوراة , وأقدم نقش باسم " أورشليم " عثر عليه في أخريات القرن التاسع عشر قبل الميلاد , وربما في عهد الملك سنوسرت الثالث , وذكر اسم المدينة " أورساليموم" , وذكر ايضاً في رسائل العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد , في رسالة للملك اخناتون "1376- 1350" ق.م من تابعه أمير القدس "عبد خبيا " و تحت اسم "أورسالم " .

   ثم ضعفت الامبراطورية المصرية واستقل اليبوسيون بها واسموها "يبوس " , ثم انتصر عليهم "داود عليه السلام " واصبحت عاصمة دولته , وسميت "مدينة داود " , فكانت مركزاً للحكم و عاصمة دينية يهودية , وكان الاسم " أورسالم "غريباً على اليهود فحرفوا الاسم بعد ذلك إلى "أورشالم " أو " يورشالايم " .

     أما في المصادر المعاصرة , فكانت النقوش الاشورية تذكرها "أورساليمو " , والنقوش اليونانية تذكرها "هيروسوليما " والمؤرخ اليوناني "هيرودوت " ذكر بأنها كانت مدينة كبيرة وسماها "قديتس " وذلك مرتين في الجزء الثاني والثالث من تاريخه . ويذكر في هذا أن المستشرق اليهودي "سالمون مونك " في كتابه فلسطين , أن القدس اسم محرف عن النطق الآرامي "قديشتا " .

    وقد اختلفت الآراء حول معنى "أورشليم " , وإن كان أقربهم للمنطق هو أنها كلمة مركبة من "أور " بمعنى مدينة أو مكان , و "شالم " وهو معبود وثني و إله السلام  لأهل فلسطين الأصليين وكانت تلك المدينة مركزاً لعبادته , وبذلك يكون معناها مدينة الرب سالم  .

  ولم تفت تلك التسمية بدون أن يضيف أحبار اليهود من لمساتهم الخاصة عليها , فقد ادعوا أن من سماها "شالم " أو السلام هو " سام بن نوح " , وأن النبي ابراهيم عليه السلام سماها "يرأة " أو الخوف , فقرر الله أن يسميها " يرأة – شالم " أو "أورشليم " ومعناه الخوف والسلام , ليظهر في عقيدتهم في أكثر من موضع عن  السلام المتولد من الخوف  .

  وإذا كان أهل فلسطين الأصليين قد ربطوها بالسلام , وربطها أحبار اليهود بالرعب والخوف فقد عاشوا على أرضها مئات السنوات في حذر و احاطوا أنفسهم به وشاركوا في تدبير الدسائس والمؤامرات ليعطوا أنفسهم احساساً زائفاً بالسلام والطمأنينة ولا سيما المؤامرة الكبرى التي حاكوها للسيد المسيح الذي رأوا فيه تهديداً لنفوذهم فأنقذه الله ورفعه للسماء , ولم يغيروا من سياساتهم , فكانت مؤامرات اليهود تظهر من حين لآخر فظهرت في عهد نيرون ضد المسيحيين الأوائل , وكان للامبراطور الروماني "تيتوس " 79-80م عشيقة يهودية تدعى "برنيكي" وكانت شقيقة "جوليوس اجريبا " الثاني ملك مملكة يهوذا , إلا أن ذلك لم يمنع "تيتوس " من هدم معبد سليمان وأمر ببناء معبد للمعبود جوبيتر فوق اطلاله , ثم قامت ثورة اليهود الكبرى عام 115م وتمكن من قمعها الامبراطور "تراجانوس " , ثم قام الامبراطور "هدريان " 117- 138م , عام 135م بقمع ثورة في ذلك العام ودمر أورشليم تماماً وهجر سكانها من اليهود بالكامل ليتفرقوا في كل مكان , وغير الرومان اسم " أورشليم " إلى " ايليا كابيتولينا " أو " ايليا" وظلت تلك المدينة خالية من اليهود حتى القرن السابع الميلادي , وجاءت الفتوحات الاسلامية ليدخل أمير المؤمنين المدينة عام 16 هجرية وتسلمها من البطريرك "صفرنيوس" وأمن أهلها على دينهم و أموالهم وكنائسهم , واشترط صفرنيوس ألا يسكن المدينة أحدا من اليهود وفي هذا اشارة واضحة لما فعله اليهود من عبث و مؤامرات طالت سلام المدينة , إلا أن عمراً قد سمح لليهود بدخول المدينة وممارسة شعائرهم دون الدخول لمقدسات و مناطق المسيحيين بعد أن حرموا من دخولها طيلة خمسة قرون لأن الدين الاسلامي قد حدد لليهود مالهم وماعليهم .

   ومنذ ذلك التاريخ سميت المدينة بالقدس , ونسب اسم "أورشليم " بالخطأ لليهود آخر من أطلق عليها هذا الاسم . وقد ساهم اليهود في الترويج لذلك  كعادتهم المتأصلة في تزييف الحقائق .

  

  

     

الاثنين، 1 مارس 2021

غارات الفايكنج على بلاد الاسلام

 

 

مثلما شهد القرن التاسع الميلادي نشاطاً ملحوظاً لشعوب الشمال الاسكندنافية في غزو غرب أوروبا المسيحي , والتوسع بعمليات القرصنة والسلب والنهب , طمعت تلك الشعوب في مد هجومها إلى الجنوب ونقصد بهذا الشاطيء الاندلسي والمغربي .

   وكانت القبائل التي كانت تسكن المنطقة التي عرفت فيما بعد بالدانمارك , هي تحديداً التي قامت بالهجمات , وقد شكلوا خطراً لم يعرفه المسلمون من قبل , وقد ذكروا في المراجع العربية باسم "الاردامنيين " و " المجوس" – ظن العرب أنهم كانوا يعبدون النار لإشعالهم النار في كل مكان يذهبون إليه , وكما أنهم كانوا يحرقون جثث زعمائهم بسفنهم – وأسموهم الفايكنج أو ساكن الخليج لكثرة الخلجان في بلادهم .

    وكان أول هجوم لهم في غرة ذي الحجة 229هجرية – 20أغسطس 844 ميلادية , وكان ذلك أمام سواحل لشبونة , واستمر الاشتباك بينهم وبين أهل المدينة ثلاثة عشر يوماً ثم عادوا لسفنهم وكان أسطولهم مكون من أربع وخمسون مركباً ومثلها من القوارب , ثم تنقلوا من بين الموانئ الأندلسية مشعلين النار والخراب في كل مكان ينتقلون إليه, ثم يفرون لسفنهم وينتقلون للميناء الذي يليه , حتى وصلوا لأشبيليه التي انسحب أهلها فعاث فيها الفايكنج فساداً سبعة أيام ثم عادوا لمراكبهم ,  ثم  وصلت الامدادات التي أمر بها الأمير عبد الرحمن الأوسط هو "عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل " وكان على رأسها كبار قادته وانتصروا عليهم ففروا كعادتهم لسفنهم , ثم عززت الامدادات بقائد الدولة "محمد بن سعيد بن رستم " الذي دخل اشبيلية فعاد إليه الفايكنج واشتبكوا معه مما اضطره للانسحاب , وعاد لمهاجمتهم فانسحبوا لطيطلة , واستمات طرفي المعركة في القتال , حتى أن محمد بن سعيد نصب المجانيق , وارسل ايضا الأمير عبد الرحمن الأوسط امدادات جديدة بقيادة قائده نصر الفتى  ومالت الكفة للفايكنج ولم يهزموا إلا بعد أن حال المسلمون بينهم وبين سفنهم -وسيلة هربهم المعهودة- وأحرقوها وقاتلوهم وانتصروا عليهم . ومن بقي منهم تسللوا للنهر لمنطقة الشرف حيث سبوا عددا من المسلمين ثم عادوا إلى قبطيل فنزل عليهم المسلمون من جانبي النهر فاضطر الفايكنج للهروب إلى شذونة , فتتبعهم المسلمون , وظلوا من مدينة لمدينة يتعقبوهم حتى عادوا إلى بلادهم .

       خريطة لغارات الفايكنج 

    وكانت تلك المعارك البحرية البرية ناقوس خطر لمسلمي الأندلس علامة على طمع الفايكنج في خيرات بلادهم , فاتخذ الأمير عبد الرحمن الأوسط احتياطات لمواجهة الخطر الاسكندنافي , فأحاط أشبيلية بسور جديد , وأمر ببناء داراً لصناعة السفن فيها وزودها بالبحارة المدربين , وانشأت الرباطات على طول الساحل الغربي للأندلس على المحيط الاطلنطي .

     وبعد خروج الفايكنج من بلاد الاندلس تبادل الأمير عبدالرحمن الأوسط مع ملكهم "هوريك"  السفارات كنوع من أنواع الهدنة وذلك بداية من عام 230هجرية – 845 ميلادية , ولكن  بعد وفاة  عبد الرحمن الأوسط عام 238هجرية – 852ميلادية ثم وفاة "هوريك" عام 239هجرية – 854ميلادية , توقع الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط أن ينكث الفايكنج الهدنة , وقد كان ماتوقعه  حيث  جمع الفايكنج قواهم طمعاً في العودة من جديد , وكان ذلك في سنة 245هجرية -859ميلادية أي بعد خمس عشر عاماً على الهجوم الأول  . واستعد الفايكنج بقوة مقدارها اثنين وستين مركباً , تقدمت منهم مركبان فواجهتها مراكب المسلمون بالقرب من باجة  وانتصرت عليهما وغنمت مافيهما , واتجهت بقية المراكب إلى الجنوب فوصلت لمصب نهر الوادي الكبير ثم نزلت الجزيرة الخضراء ودخلوا المدينة وخربوها وأحرقوا مسجدها الجامع . ولما وجد الفايكنج مقاومة شديدة من مسلمي الأندلس , عبروا إلى العدوة المغربية , وعاثوا في أرياف المغرب فساداً , ثم دخلوا مدينة "نكور " على البحر المتوسط شرقي مدينة  طنجة وسلبوا ونهبوا وسبوا كثير من أهلها .

   ثم عاد الفايكنج للإغارة على السواحل الشرقية للأندلس , وكان ذلك مفاجأة لأهل الأندلس فنهبوا إقليم "تدمير " ثم عادوا لسفنهم واتجهوا شمالا إلى السواحل الجنوبية لفرنسا , وقضوا هناك الشتاء , وكانت تلك هدنة لهم بعد أن فقدوا أربعين مركباً , ولما أتى الصيف واستعادوا نشاطهم أغاروا على السواحل الشرقية للأندلس وجزر البليار , وكانت القوات البحرية المسلمة  قد جاءت من الشاطئ الغربي للأندلس بقيادة "سبش بن كشوح " و "خشخاش البحري " فحاربوهم عند شذونة وكان النصر للمسلمين ففر الفايكنج شمالا إلى مدينة "بنبلونة " خارج الأندلس وأسروا حاكمها المسيحي "جارسيا بن ونقة " فافتدى نفسه بسبعين ألف دينار ارتهنوا في بعضها أولاده وخلوا عنه , وقد أسروا كذلك عدداً من قادة المسلمين استطاع بعضهم أن يفدي نفسه .

   ولم تكون تلك النهاية فقد أغاروا عام 247هجرية – 861ميلادية , عطبت لهم في تلك الغارة أربعة عشر مركباً بالقرب من الجزيرة الخضراء وفرت باقي السفن إلى بلادهم .

   وظلت عمليات السلب والنهب والفرار مستمرة لاتتوقف وتذكر لنا المصادر أنهم عاودوا في عصر الخليفة المستنصر في غاراتهم في أول رجب 355هجرية – يونيو 966ميلادية و أنهم هاجموا في ثمانية وعشرين مركباً منطقة "قصر أبي دانس" وخربوها ونهبوها ثم أشبونة التي فعلوا بها نفس الشيء ولكن المسملمين حاربوهم وانتصروا عليهم وعندما فر الفايكنج بسفنهم خرج أسطول أشبيليه من نهر الوادي الكبير بقيادة "عبد الرحمن بن رماحس " يتبعهم فدمر معظم سفنهم عند مصب وادي شلب وأنقذ أسرى المسلمين منهم .

      ولم ييأس الفايكنج وعادوا في أوائل رمضان سنة 360 هجرية – يونيو 971ميلادية فحشد لهم الأسطول بقيادة ابن رماحس وترأس القوات البرية والبحرية القائد غالب الناصري , ولما رأى الفايكنج الحشد الاسلامي فروا بسفنهم لديارهم.

   ويبدو أن الفايكنج خفت غاراتهم على الاندلس والمغرب بعد ذلك لتغير حالهم من القرصنة والسلب والنهب إلى الاستقرار خاصة بعد دخولهم المسيحية ولمحاولتهم في حكم أجزاء من غرب أوروبا .


الخميس، 18 فبراير 2021

غزاة الشمال



هم سكان شمال أوروبا أو مايسمى شبه جزيرة "اسكندنافيا" وبحر البلطيق , عاشوا في فقر وتأخر في النواحي الحضارية وامتهنوا الزراعة وصيد الأسماك  . أخذوا الحروف اليونانية ليسجلوا بها نصوص السحر التي كانت من طقوسهم الدينية الوثنية , وكانوا بحارة بارعين ففقر مواردهم دفعهم للمجازفة وركوب البحر , وقد عثر على سفنهم في المستنقعات الدانمركية , والتي تميزت بطولها وضيقها واستعمل فيها المجاديف أو الصاري لتكون مهيئة للرسو في البحار أو الانهار .

                         سفن الفايكنج التي عثر عليها سليمة 

   وهم شعوب "أنجلو سكسونية" , وقد اسمتهم باقي الشعوب الأنجلو سكسونية "الدانيون "Danes تمييزاً عنهم , وكذلك اسموهم "الشعوب الشمالية " أو Northmen . وقد انقسموا قسمين : قسم اتجه شرقاً متجهاً من السويد إلى نهر الفولجا وبحر قزيون وامتهنوا التجارة في تلك المناطق بل واستقروا واسسوا مستعمرات تجارية , فكانوا طبقة غنية سيطرت على سكان البلاد في تلك الجهات وجنحوا للعيشة المتحضرة وتأثروا بالحضارة البيزنطية , ووصلوا للقسطنينية العاصمة وكان منهم حرس امبراطور بيزنطة .

   أما القسم الثاني الغربي فكان من الدانيين والنرويجيين وعرفوا باسم "فايكنج" أو Viking وقد اتجهوا لانجلترا وفرنسا و جزيرتي ايسلندا وجرينلاند و أسسوا محطات لهم هناك .

                                    دير لينديسفرن 
  

ومع نهاية القرن الثامن الميلادي استطاعوا ادخال  تعديلات على سفنهم ليخرجوا للمحيط الواسع وقد شهد هذا القرن تحسن في الأحوال المناخية فحملوا أسلحتهم التي صنعوها من الحديد ممتهنين مهنة القرصنة بعد أن ضاقت أرضهم بمواردها المحدودة  ولم تف بحاجة السكان الذين كانوا في ازدياد . وقد خدمتهم الظروف حيث قضى الفرنجة - قبائل سكنت ألمانيا وشمال فرنسا – على قوة الفريزيين - قبيلة جرمانية سكنت ساحل بحر الشمال في هولندا وألمانيا - وكانوا سيشكلون عائقاً أمام تقدمهم .

   وقد سجل التاريخ أول هجوم لهم على دير بجزيرة "لينديسفارن" أو الجزيرة المقدسة , وهي جزيرة صغيرة على بعد خمسة كيلو مترات من ساحل نورثمبرلاند الانجليزي , وبعد نجاح الهجوم استساغ غزاة الشمال الأمر فكانوا يشكلون جماعات صغيرة تنزل للقرى للسلب والنهب والحرق والقتل ثم تفر بسفنهم  قبل أن يتخذ السكان أي وضع للدفاع وقد ظهر من الملوك الشماليين ماقاد تلك الهجمات مثل الملك "هارولد الأشقر " فاتجهوا إلى جزر شتلاند وأوركني .

   إلا أن الأمر تغير فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي , كان الشماليين يأتون بإعداد أكبر بهدف الاستقرار , لمدة أطول فشهد شتاء عام 851م , على استقرار الشماليين على سواحل جنوب شرق انجلترا . كما اقاموا نقاط حصينة في شتلاند وأوركني لتسجيل عمليات خاطفة على قرى أيرلندا ونهبها والتي دخلوها في عام 868م , ثم استقروا في ايسلندا منذ عام 870م , ثم اتجهوا بعد ذلك للاستقرار ببعض الأماكن في جرينلاند. وساعدهم في التجول بحرية موت امبراطور أوروبي قوي كانت له سيطرة على أوروبا هو "شارلمان " .

                           الامبراطور شارلمان 

   وقد أعجبهم الحال في انجلترا فطمعوا فيما هو أكبر , فقادهم ملكهم "هنجوار "لمهاجمة ممالك انجلترا ونهب ثرواتها , ولم تصمد أمام الهجوم سوى مملكة "وسكس" بقيادة الملك "ألفريد بن أثيلوف" (871-899)م , والتي كانت المعارك بينه وبين الشماليين سجال , ولجأ "ألفريد " لخطة ذكية بدأت بعقد هدنة معهم عام 872م لأربع سنوات , ليعد فيها جيشه الاعداد الكافي, وكان الشماليين بدورهم مشغولين بغزو مملكة "مرسيا " , فوصلت الأخبار للشماليين الذين خرقوا المعاهدة وقرروا الهجوم سنة 878م , فكان ذلك مفاجأة صادمة لألفريد هزم فيها واضطر للفرار ومعه فلول جيشه وخدمته الظروف عندما أعاق تقدم الشماليين المناطق الموحلة في فصل الشتاء , وفطن ألفريد أن القوة وحدها لاتكفِ بل يحتاجها استخدام نفس سلاح الشماليين بتجهيز اعداد كبيرة من القوارب السريعة ذات المجاديف الكثيرة فاشتبك معهم عام 879م وانتصر عليهم , وقد اضطر زعيمهم "جوتروم" لعقد صلح "ودمور" عام 886م , وكان من شروط الصلح اعتناق الشماليين للمسيحية , ووضع حداً لنفوذ الشماليين في انجلترا فكانت نفوذهم شرق الطريق الروماني أو "والتنج " ومناطق نفوذ ألفريد غربه .

الملك ألفريد 


   غير أن الحرب عادت بعد تسع سنوات عام 892م , انتصر عليهم ملك وسكس و توغل داخل مناطق نفوذهم في انجلترا وقد عادت مدينة "لندن" لحكم الانجليز . ووحدت بذلك جنوب غرب انجلترا وكان ذلك تمهيدا لوحدة انجلترا ذات الممالك المتعددة . وجعلت ألفريد يبني القلاع والحصون ذات الحاميات العسكرية حول المدن الكبرى , واهتم بالاسطول الذي استعان فيه بأصحاب الخبرة من الفريزيان , واعاد ترتيب الجيش  فقسمه لثلاثة أقسام تستحق الخدمة لكل قسم لمدة شهر ثم يعود لعمله في الزراعة , حتى لايتأثر اقتصاد المملكة , وإذا كان ألفريد لمس من اعدائه الدانيين التخلف في النواحي الحضارية فأراد لبلده النهوض لمواجهتها من كل النواحي فطور من التعليم ونشر المدارس بعد أن كان مقتصراً في بلاده على رجال الدين وأنشأ مدرسة بالقصر لأبنائه وابناء الحاشية واستقطب العلماء والمفكرين والأدباء واسس جامعة "اكسفورد " ,ونشر القوانين واختار الصفوة لمهمة القضاء , واهتم بترجمة الكتب اللاتينية المشهورة مثل "تاريخ العالم , وسلوى الفلسفة " , وسجل بنفسه تاريخ بلاده في" حولية الأنجلوساكسون "باللغة الانجليزية المحلية ,  كما دون سيرته الذاتية الراهب "آسر الغالي " الذي كان مقرباً منه ومعلمه للغة اللاتينية , وايضا بنى الكنائس بغرض التبشير , ورمم كل الكنائس والأديرة التي دمرها الدانيون . ولتلك الاصلاحات لقب بألفريد العظيم , واستمر ابنه من بعده في صد الدانيين وزيادة وحدة انجلترا بالمصاهرة مع مملكة "مرسيا" الانجليزية واسترد بعض الأماكن التي خضعت للدانيين من قبل , وتوالى من بعده الملوك الانجليز الأقوياء الذين هادنوا الدانيين وكانت انجلترا القوية مركزها "وسكس", ولكن بعد وفاة الملك "ادجار "عام 975م قامت الحروب الأهلية , وزاد الصراع على العرش , واعتلى الحكم ملوك صغار السن ضعفاء , فاستهان النبلاء بهم , وشجع هذا الدانيون للهجوم عام 980م , ووحدوا قوتهم مع النرويجيين بقيادة ملوك حقيقيين بدلا من زعماء القبائل , ففرض الملك الانجليزي "اثلرد " على شعبه الضرائب وحاول دفعها للشماليين ليثنيهم عن غزوهم , إلا أنهم استمروا في مهاجمة الأراضي الانجليزية ولم يستطع الشعب المنهك من الضرائب على صدهم , وأصبح الملك الداني "سوبين " ملكاً على انجلترا عام 1013م , " وخلفه من بعده ابنه في العام التالي "كانوت " الذي عاد للحرب معه "اثلرد " الذي قد فر إلى نورمانديا  , ولكنه مات عام 1016م و تولى ابنه "ادموند" الذي انتصر على الدانيين , وأخذ الجزء الجنوبي من انجلترا , وبقي الجزء الشمالي في حوزة "كانوت " حتى توفي "ادموند" وعادت انجلترا لحكم الدانيين  , ولقد وعي "كانوت " الداني الدرس جيداً -إذا ما أراد تثبيت ملكه- فكان مسيحياً يحترم بابا روما , وساوى بين الانجليز والدانيين في الحقوق والواجبات, ونظم الضرائب , واستعان بمستشارين انجليز , وتقرب من  مجلس الوفاق الذي كان رافضاً لحكمه من قبل , واستعان بأهل الثقة ليكونوا نوابه في المقاطعات , واطلق عليهم اسم "ايرل " , وقسم المقاطعات ليديرها النبلاء ويرأس كل نبيل "ايرل ".

 

الملك كانوت 

وانتعش الاقتصاد وقتها حيث عقدت الاتفاقيات مع التجار الأوروبيين لكون "كانوت "يسيطر على منطقة واسعة تمتد من انجلترا وحتى الدانمرك والسويد والنرويج . ولكن بعد موته عام 1035  م , تفككت الامبراطورية واختارت النرويج الانفصال , واختار مجلس الوفاق "ادوارد بن ادموند" لحكم انجلترا عام 1042م , و حمل ادوارد المعترف – لقب بذلك نظراً لورعه , والذي امضى حياته في نورمانديا الفرنسية-  مظاهر الثقافة الفرنسية التي ظهرت في بلاط القصر , واصبح النورمان هم المستشارين والحكام , وعند وفاته في عام 1066م لم يكن له وريث , فعادت الفوضى للبلاد , فدخلها الحكم النورماني منهياً بذلك آخر صفحة في حكم الشماليين على انجلترا .

    ومما لا شك فيه بعيداً عن سلب ونهب الشماليين والكنوز التي أخذوها لبلادهم , فقد حدثت تأثيرات جسيمة للشماليين لم تجعلهم كما كانوا قبل الخروج للغزو فقد لمسوا من الحضارة في نواحي كثيرة لم يألفوها من قبل لاسيما اعتناقهم المسيحية.

   أما تأثيرهم على انجلترا فقد محوا عادة كانت  معروفة عند الانجليز وأبطلوها في الجزء الشرقي الذي استقروا فيه حيث لم يكن فيه نظام العبيد والذي لم يعرف في بلادهم , وعلموا الانجليز احتراف ركوب البحر فازدهرت الحياة في انجلترا المعزولة وفتحوا لها المجال للخروج للبحر الواسع , وكذلك ظهر أثرهم في ترك الأسماء الدانية التي تنتهي بحروف by, Thorpe , و نقلت كثير من الكلمات الاسكندنافية للانجليزية مثل sky, window  take.