العقل زينة , الشرط نور , الصراحة راحة وغيرها الكثير من الحكم التي انتقلت لنا من جيل لآخر تحمل لنا خبرة وتجارب سنوات في جمل موجزة , لتعظ الناس وترشدهم , وقد وصلت إلينا شفاهية أو مسجلة في كتب التراث , وإذا انتقلنا لمرحلة أبعد أو مصر في العصور القديمة ذات الحضارة التي علمت العالم , نجد أن تعاليم الحكماء قد انتقلت إلينا عبر البرديات أو نقشت على جدران مقابرهم , لتكون ذكرى خالدة لهم بالخير والفضيلة .
وفي مصر القديمة كان الموظف الكفء هو من يلم
بنصائح وحكم المعلمين , فهو بذلك كمن يحمل شهادة علمية و فصاحة في الكلام وخبرة في فلسفة الحياة, وكان من عادة الكاتب المصري عندما ينال من العلم والخبرة الكثير
ويحس بدنو أجله أن يعهد لشخص قريب منه بتدوين تعاليمه ليحفظها ويعمل بها وتورث من
بعده .
وأقدم التعاليم التي وصلتنا من مصر القديمة
حفظت في المكتبة الأهلية بباريس مسجلة في بردية تسمى بردية "بريس " نسبة
للعالم الفرنسي "بريس " الذى اشتراها من أحد فلاحي الأقصر وأهداها
للمكتبة عام "1847م" وتحتوي على تعاليم الوزير والمعلم "كاجمني " وسجلت في نهاية عصر الملك
"حوني " آخر ملوك الأسرة الثالثة , ومنها مايتناول آداب الحديث , فيقول
: "المتواضع الحذق يحالفه النجاح ويظل سليماً معافي" , "من يتخذ
الاستقامة أساسا ً لعمله يمتدحه الناس" , وايضا تناول آداب المائدة , فقال:
"إذا جلست مع أشخاص كثيرين فاصطنع كراهية الطعام , حتى ولو كنت شديد الرغبة
فيه , إن قدحاً من الماء يروي الظمأ , وطبقاً بسيطاً يكفيك , فالقليل يغني عن
الكثير" ,"إذا جلست مع شخص شره فلا تأكل إلا بعد أن يفرغ من وجبته
".
وقد ورد في حكم "بتاح حتب " لابنه
وكان وزيراً في عهد الملك "جد كا رع –
إسيسي " في
عهد الأسرة الخامسة , نصائح عدة منها
ماورد عن تكوين أسرة صالحة , فقال له : " وإذا أصبحت رشيداً فأسس لنفسك بيتاً
واتخذ لنفسك زوجة وأحبب زوجتك في حدود العرف , أو عاملها بماتستحق " .
ومن
عصر الانتقال الأول جاءت إلينا تعاليم ملك اهناسيا إلى ابنه الملك "مري كارع
" في بردية سجلت في عهد الملك "تحتمس الثالث" وعرفت باسم
بردية" لينجراد " , ليلقن ابنه خبرة سنوات من الحكم وتجارب الحياة , فقال
له : "مجد العظماء , واعمل على سعادة شعبك فكم هو جميل أن يعمل المرء من أجل
المستقبل . ولكن افتح عينيك , فقد يمتليء المرء بالثقة , ثم يتكشف الأمر عن حسرة
لثقة جاءت في غير موضعها " . "أقم الحق طوال حياتك على وجه الأرض .
وواسي الحزين , ولاتظلم الأرملة ولاتطرد رجلاً مماكان يمتلكه أبوه , ولاتلحق ضرراً
بالقضاة فيما يتصل بمناصبهم وكن مدققاً حذراً حتى لاتظلم أحداً " . "
ارفع من شأن الجيل الجديد , إن مجتمعك ملئ بالشباب الذين هم في سن العشرين , فزد
من عدد أتباعك منه وزودهم بالثروة والحقول والماشية " .
وفي عصر الدولة الوسطى ترك الملك أمنمحات
الأول نصائحه لابنه سنوسرت الأول حيث تعرض لمؤامرة من أعوانه , فقال له : "
احذر اتباعك , لاتقربهم و أنت بمفردك ,
ولا تملأ قلبك بأخ , ولا تصاحب صديقاً , ولاتثق بأحد من الأتباع وتقربه إليك ,
فهذه أمور لاجدوى منها " .
وفي المتحف المصري توجد بردية الحكيم "آني" موجهة لابنه "جنس
حتب " في أمور الحياة اليومية من آداب الزيارة وحب العمل والبر بالوالدين
والتبكير بالزواج المبكر , وحسن اختيار الأصدقاء , وفضل الأم وحسن معاملة الزوجة
ومعاملة الرؤساء .
وفي المتحف البريطاني توجد بردية نصائح
"آمون أم أوبت " لابنه "حور ما خر " وترجع للدولة الحديثة وقد
كتبت بأسلوب شعري , وتحض على الأخلاق والصبر والتواضع وسلوك وواجبات الموظف في
عمله .
وفي العصور المتأخرة توجد
تعاليم "عنخ شاشنقي" الموجهة لابنه و يرجح أنها في القرن الخامس أو
الرابع قبل الميلاد . وتبين التعاليم أن "عنخ شاشنقي" هو كاهن للإله
"رع" بمدينة "أون " وقد سجن لإتهامه بقتل الفرعون , وقد تميزت
بالطابع العملي البعيد عن الفلسفة وتوضح لنا أنه رجل فلاح عاش حياة الريف في مجتمع
في فترة صعبة جعلت احياناً المصلحة الشخصية في المرتبة الأولى , وتميزت كذلك بحس
الدعابة , فقال لابنه : "إذا وهبوك جزاء الغباء , فاجعل التعليم إذن خصيمك " , ونبه لقوة الإله
بقوله " عندما يكون رع غاضباً على الأرض , فإن حاكمها يهمل القانون " ,
وقال :" وقر إلهك فهو القادر على حمايتك , ولاتقصر في خدمته " . ومن
النصائح الأخلاقية : "اعمل على تعليم ولدك أن يكتب وأن يحرث وأن يصيد وأن
يستخدم الشص على مدار العام , فأنه بذلك سوف يجني الفائدة بما يعمله " .
"لاتقل الآن هو صيفاً , فهناك شتاء قادم , فمن لم يجمع حطباً في الصيف أعوذه
الدفء في الشتاء " , "لو أنك عملت , فالأرض لن تبخل عليك " ,
" إن ثروة قليلة مع الاحترام تساوي نهر النيل في زمن الفيضان " , "
عندما تعطي شيئاً تملكه إلى أي شخص , فاجعله مصحوباً بالكلمة الطيبة , عندئذ يصبح
هبتين وليس هبة واحدة " . "لا تتشاجر مع أحد في أمر أنت مخطئ فيه "
, " لاتقل , لقد أديت معروفاً لهذا الشخص ولم يشكرني عليه" , "
لاتقترض مالاً لكي تعيش ميسوراً منه , واقترض مالاً فقط للضرورة كاتخاذ زوجة أو
شراء أرض زراعية " , "احذر أن تتخير لنفسك إمرأة سيئة الطبع , حتى
لاتورث ابنائك تربية فاسقة " , لاتهجر امرأة في دارك لأنها عقيم " ,
" لاتنتهك حرمة امرأة متزوجة " , " تحر عن كل أمر تعرفه " ,
" لاتشاور عالماً في أمر تافه إذا وجد أمر جليل , ولا تشاور جاهلاً في أمر
جلل إذا وجد عالم تستطيع أن تشاوره " ., " لاتكن حذراً في موقف سيء
يحتاج المواجهة " , " لو وصلت للقمة وكسبت ممتلكات عدة , فاجعل أخوتك
عظماء معك " , " لاتبع منزلك ومصدر دخلك يوماً ما لغرض أو مصلحة , ثم
تصبح فقيراً للأبد , ولاترسل أحداً للمدينة متى توقعت متاعب فيها, ولاتتسرع في
الذهاب إلى القاضي ثم بعد ذلك تنسحب من أمامه , ولا تكن مثبط الهمة في كل أمر
مايمكن أن تسأل فيه النصيحة , ولاتقل انتهى مرضي , فلن آخذ الدواء " .
وبذلك كانت السمة العامة لنصائح أجدادنا في
مصر القديمة هي غرس الأخلاق الصالحة وترسيخ
القيم الأسرية و البعد عن العنف والصبر على الشدائد والحكمة في التصرف فما ترك بين
سطور البرديات لايختلف كثيراً عمايتردد الآن على ألسنتنا في الحض على التمسك
بالأخلاق الكريمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق