كرسي عشاء السلطان الناصر محمد بن قلاوون
سقطت بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية وعاصمة الخلافة العباسية في عام 656 هـ - 1258م في يد المغول , وقتلوا من قتلوا ونهبوا من نهبوا وحرقوا وخربوا , وأحرقت المساجد والمكتبات وقد اختلفت الروايات في عدد القتلى التي كان أقل تقدير لها هو 90 ألف وأكثر تقدير 2 مليون قتيل وصلت رائحة جيفهم للشام فأصابت الناس بالأمراض , وكان معظم القتلى من المسلمين السنة , فقد أمن المغول على حياة المسيحيين من سكانها , لأن زوجة قائدهم "هولاكو " مسيحية نسطورية , أما اليهود فلجأوا إلى دار الوزير ابن العلقمي , ولجأ أغنياء المسلمين لوضع أموالهم عند بطريرك السريان النساطرة الذي كان صاحب مكانة لدى المغول , وقد اشترك الشيعة في قتل المواطنين السنة وتوقف كل هذا بعد أربعين يوماً ليبدأ بعدها المغول باتخاذ خطوات جدية في تثبيت أقدامهم في بغداد فقتلوا الخليفة المستعصم بالله وبعض أولاده وسبوا الباقين , واداروا القتل فيمن بقي من بني العباس إلا قلة منهم .
وقد أراد
الناصر يوسف حاكم حلب ودمشق في الاستفادة من ذلك الوضع, فأراد أن يأتي بأحد ابناء البيت
العباسي ويعلنه خليفة , ويكون هو أمام المسلمين من أحيا الخلافة العباسية ، من خلال
استقطاب أحد أبناء البيت العباسي الفارِّين من المغول، فيعلنه خليفة في الشام . غير أن سيل المغول قد جرف
حلب ودمشق وحاكمها , واراد السلطان المملوكي قطز أن يحذو حذو الناصر يوسف خاصة بعد
أن ثبت أركان دولته وانتصر في معركة "عين جالوت " على المغول عام 1260م
وكان الأمل المنشود في الأمير أبا العباس أحمد ، والذي كان بدمشق ، فأمر بِإرساله
إلى مصر تمهيدًا لِإعادته إلى بغداد ولكن قطز لم
يمكث كثيرا فقد اغتيل على يد بيبرس وأعوانه بعد عين جالوت بخمسين يوماً .فأراد بيبرس اكمال نفس
الخطة في اسباغ حكم المماليك الشرعية بإعادتهم للمسلمين الخلافة والخليفة فاختار
الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م .
وقد لقب "بالمستنصر لله" , وانتقلت
شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من
شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وقد بقي الخليفة في القاهرة بعد أن
استطاب للمغول المقام فيها , وكسب
بيبرس مكانة بين المسلمين في حفظه للخلافة والخليفة وإن كانت قد عادت صورياً فقط .
وقد اكتسبت مصر مكانة الزعامة في العالم الاسلامي فكانت الحجاز تحت حكمها , وقبل
أشراف مكة ذكر السلطان المملوكي في الخطبة ونقش اسم السلطان المملوكي على السكة ,
وتكفلت مصر بحراسة قوافل الحج , وارسال كسوة الكعبة و حبست أوقافاً للحرمين
الشريفين ولفقراء مكة والمدينة , وتلقب السلطان المملوكي بلقب "خادم الحرمين
الشريفين " .
ولم يكن سقوط بغداد في يد المغول له مردود
سياسي ومكانة روحية عادت على دولة المماليك بالفائدة فقط بل كانت هناك جوانب
حضارية استفادت بها مصر ولا سيما في الصناعة فقد نزح من العراق الصناع المهرة
فارين من الغزو المغولي واستقروا بمصر , فازدهرت فيها صناعات الزخرفة و التكفيت
بالذهب والفضة وتكفيت البرونز بالنحاس , جدير بالذكر أن هؤلاء الصناع اتبعوا نفس
الأساليب المصرية القديمة ولكنهم أضافوا الدقة في التنفيذ , وقد أتى معظمهم من
الموصل , وبقيت آثارهم موجودة حتى الآن في المتحف الاسلامي منها باب خشبي من
مصراعين مصفحين من النحاس ,وصندوق خشبي مصفح بالنحاس ومكفت بالفضة مزخرف بآيات
قرآنية بالخط الكوفي المورق وخط الثلث . وللتوضيح , التكفيت , هو : أسلوب في زخرفة
التحف المعدنية تحفر فيه الرسوم ثم تملأ الشقوق التي تكون الرسوم بقطع من مادة
أغلى قيمة , أما الترصيع , فهو : ففيه طبقة الزخرفة الجديدة تلصق على السطح كله .
أما التصفيح : فهو كسوة التحف الخشبية بصفائح معدنية مثل النحاس . وبراعة الصانع
الموصلي في تلك المهن زادت على خبرة الصانع المصري , فنتج جيلاً جديداً بلغ بتلك
الصناعة روائع انتاجاته اشتهرت في كل مكان , وقد خصص لصناعة التكفيت سوقاً
بالقاهرة يسمى سوق الكفتيين يقع في الشارع الممتد من الغورية إلى الأزهر. وتذكر
لنا المصادر من اسماء أرباب الحرف البارعين الموصليين : محمد بن سنقر البغدادي
السنكري الملقب بابن المعلم , وربما يكون قد اكتسي هذا اللقب لأن والده كان ماهرا
في حرفته ولقن أولاده أسرار المهنة , وخلدت أعمال ابن سنقر ذكراه والتي حملت
توقيعه ابن المعلم ومنها كرسي معدني كان للسلطان الناصر محمد بن قلاوون ومحفوظ
بالمتحف الاسلامي بالقاهرة , وكذلك صندوق مصحف خشبي مغطى بطبقة نحاسية ومكفت
بالذهب والفضة موجود بمتحف برلين وإن كان ذلك الصندوق كان قد شارك بتطعيمه الحاج
يوسف بن الغوابي . جدير بالذكر أن ابن سنقر كانت توقيعه يشمل لقب الأستاذ دلالة
على مكانته الكبيرة وكذلك لقب السنكري دلالة على تخصصه في السنكرة أو صناعة
الصفائح ثم توسع ليشمل الصناعات المعدنية .
ونذكر ايضا أحمد بن باره الموصلي وله صندوق
مكفت بالفضة والذهب للربعة الشريفة بمكتبة الجامع الأزهر في عهد السلطان الناصر
محمد بن قلاوون , وقد اقتنى سلاطين بني رسول باليمن التحف من صنع هؤلاء الصناع
ومنهم : حسين بن أحمد بن حسين الموصلي ,وعلي بن حسين بن محمد الموصلي . ثم انتقل
تأثير هؤلاء الفنانين إلى أوروبا عن طريق التجارة مع المدن الايطالية , فنالت اعجاب
الأوروبيين و حاول صناع أوروبا تقليدها , فاستقدم حكام مدن ايطاليا من هؤلاء
الصناع المهرة من يعلمهم تلك الحرف , فنشأت بعد ذلك مدرسة في عصر النهضة عرفت
بمدرسة البندقية الشرقية , مزجت الصنعة العربية بالذوق الأوروبي .
وقد ارتبط بتلك الصناعات الخط العربي الذي
كان عنصراً زخرفياً هاما, ونجد أن ماتركه الأستاذ محمد بن سنقر البغدادي على
مقتنيات الناصر محمد بن قلاوون -ومنها "كرسي العشاء " -تميزه في الخط
الذي كان برع فيه و كان بالنسبة لصنعته عنصراً زخرفياً رئيسياً . جدير بالذكر أن
مدارس الخط العربي البارزة في العراق لم تكن القاهرة بمنأى عن تأثيرها قبل سقوط
بغداد فنجد أن المدرسة المصرية للخط قد أخذت الكثير من صنعة الخطاط "ياقوت بن
عبد الله المستعصمي البغدادي " وكان مملوكاً للخليفة العباسي , ونتيجة لذلك
انتقلت مصر في العصر الأيوبي من استعمال الخط الكوفي كخط رسمي إلى استعمال خط
النسخ فدونت به المصاحف ونقش على العمائر والمنتجات الفنية , وبعد مجئء
الخطاطين من بغداد امتزجوا مع الفنانين
المصريين فنتج فن جديد تفرع من خط النسخ هو الثلث المملوكي الذي زينت به العمائر
والمنتجات الفنية المختلفة وإن لم يختف الخط الكوفي وبقي موجوداً , لدرجة أنهما من
الممكن أن يكونا موجودين في نفس المكان على نفس الأثر الفني حيث كان الخط العربي بطل الموقف بعد أن تراجعت بشكل ملحوظ ظاهرة اختفاء الرسوم الآدمية والمناظر التصويرية خاصة على التحف المعدنية وظهرت عناصر حيوانية محورة وصغيرة الحجم كما لوكانت تشبه النباتات , وأصبح تسجيل اسم السلطان وألقابه على التحفة دليلاً على مقدرة الفنان وبراعته في الخط العربي .
ومن أشهر الخطاطين الذين انتقلوا للقاهرة :
ابن العفيف محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الكاتب , ويرجع أصله لبلاد ماوراء
النهر . ونشأ بالعراق وكان والده من تلاميذ ياقوت المستعصمي , وايضاً ابن الوحيد
شرف الدين محمد بن شريف بن يوسف المصري الكاتب , وأصوله شامية ولكنه عاش بالعراق ,
وعندما انتقل للقاهرة كان له تلاميذ أحسنوا صنعتهم , وكان على عهد السطان بيبرس
الذي لم يبخل عليه بالذهب , وكان ابن الوحيد بدوره لايبخل على صنعته بالذهب , فكان
يأخذ من تلك العطايا ويكتب بها مصاحفه . وله نموذج من المصحف الشريف محفوظ بالمتحف
البريطاني , ومصحف بدار الكتب المصرية , وله مؤلفات في صنعة الخط خلدت اسمه كذلك
منها : شرح منظمة ابن البواب ولها نسخة في خزانة بايزيد العامة باسطنبول وفي
الخزانة التيمورية بالقاهرة . وكذلك له ايضا في خزانة بايزيد باسطنبول نسخة من كتابه "لمحة المختطف في صناعة
الخط الصلف " . وايضا كان هناك ضياء الدين محمد بن محمد البغدادي الوراق , و
عمر بن علي بن ابي بكر بن محمد بن الموصلي , و لم يكتف هؤلاء ببراعتهم في صنعة
الخط فقد كان منهم العلماء , نذكر منهم : عبد الكريم بن عمر الأنصاري , علم الدين
العراقي , والذي كان خطيباً وله في العلوم الشرعية كالفقه أصوال الدين واللغة
العربية باعاً وايضا محمد بن يوسف بن عبد
الله الجزري ,الملقب بابن الحشاش , وقد عمل خطيباً بجامع القلعة , ثم جامع ابن
طولون , وله شرح في ألفية ابن مالك . وله ديوان خط , وشعر . وكذلك محمد بن ابراهيم
بن ساعد البخاري الملقب بابن الأكفاني وكان طبيباً وخبيراً بالعقاقير وله كتاب
" الحشائش " أو خصائص العقاقير لديسقوريدس نسخة منها موجودة بمكتبة "متحف طوبقابي
سراي " في اسطنبول وقد نسخها الطبيب الخطاط أبي يوسف بهنام بن موسى يوسف
والذي بدوره هو الآخر جمعه العلم والخط والأصل العراقي والهجرة لمصر ونسخ ذلك
الكتاب العمل مع ابن الأكفاني .
وكان طبيعياً في وسط ذلك الزخم الفني لفن الخط
والزخرفة , أن يحدث اهتماماً خاصاً بأدوات الكتابة و الخط , فجعلها هي الأخرى بحد
ذاتها تحفاً فنية , فكانت الدوايا أو المقلمات مصنوعة من المعدن ومكفتة بالذهب
والفضة ومنها المقلمة المحفوظة بالمتحف البريطاني والمصنوعة من النحاس والمكفتة
بالذهب والفضة , ومسجل اسم صانعها محمود بن سنقر ويحتمل أن يكون هو أخو محمد ابن
المعلم سنقر البغدادي . وارتبط بذلك ايضا صناعة الورق واتسع مفهومها لتصبح صناعة
الوراقة على من يصنعه أو يبيعه أو يقوم بالنسخ . وأصبح الوراق هو من يصنع الورق أو
يبيعه أو ينسخ الكتب .
وكانت صناعة
الورق مزدهرة من قبل في العراق والذي كانت خاماته من الألياف والقطن و والقنب
والخرق البالية , فراجت تلك الصناعة عندما انتقلت للقاهرة مع المهاجرين من العراق
. ونذكر من هؤلاء : ابن المرجل وكان يعمل بالورق وتجارة الكتب , وكان يدرس بالجامع
الحاكمي النحو واللغة والقراءات والبيان .
و كان لذلك النزوح العراقي رواج في صناعة
أخري هي النسيج , فمصر دولة عريقة في صناعة النسيج منذ القدم , واشتهر نسيجها
بالقباطي والذي كان يكسى به الكعبة وذلك قبل دخول الفتح الاسلامي لمصر. وتقدمت
صناعة النسيج بعد ذلك أكثر وأكثر فيسجل لنا المقريزي في العصر الفاطمي روعة أقمشة
مثل الديباج والحريروالقصب الملون الذي لامثيل له في أي مكان , وفي العصر الأيوبي
لم تستمر صناعة الأقمشة الغالية كما كانت حيث توجهت الدولة لتحويل معظم طاقتها
للجهاد ضد الصليبيين . وعادت تلك الصناعة بقوة مع أمراء المماليك محبي مظاهر البذخ
ومعها الصناع العراقيين فزادوا على الصناعة المصرية الممتازة الفخمة أنواعاً أخرى
جديدة مثل الحرير الموصلي "موسلين " . الذي كان يصدر لبلاد بعيدة . و
كانت العراق مركزاً هاماً للتجارة بين الشرق الغرب لموقعها فكان لها المدن
التجارية الهامة كبغداد وتكريت والموصل , وكان تجارها قد جابوا الأقطار من الصين
وبلاد الروس والروم والمغرب العربي و خليج العرب . وكان طبيعيا بعد سقوط بغداد
انتقال التجار للمكان الأكثر أمناً وهو مصر , وقد حملوا خبرتهم الطويلة فأثروا
حركة التجارة وأصبحوا أصحاب تجارة عظيمة . فكانت هناك أسراً تعمل بالتجارة مثل
أسرة التكريتي أو آل الكويك الكارميين واشتغلوا بتجارة التوابل . وكان من أفراد
هذه الأسرة من استقر بالأسكندرية وبنى داراً للحديث وعلم بها الحديث والفقه على
المذهب الشافعي وهي موجودة وقد تحولت لزاوية في شارع البلقطرية بقسم الجمرك .
وهناك عزالدين بن جماعة وكان بجانب تجارته يدرس بقبة بيبرس وكان له معجماً وفهرساً
وهناك ايضاً أسرة عبد المنعم ابن الصيقل الحراني المصري ومنها كان الفقيه عبد
العزى بن الصيقل الذي كان بجانب فقهه له روايات ومغامرات غريبة. واشتهر الكثير من
التجار العراقيين بإنشاء ووقف أموالهم على المدارس والحياة العلمية . و عمل معظمهم
بتجارة المنسوجات والتوابل والورق والكتب والأحذية , لينقلوا السلع والثقافة من الشرق
للغرب والعكس , وشجعهم على ذلك الحماية التي وجدوها تحت مظلة الدولة الناشئة القوية
ألا وهي دولة المماليك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق