المدرسة الصالحية من أهم مراكز التعليم في عصر المماليك |
بعد
سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656 هـ - 1258م , والذين ذبحوا وحرقوا ونهبوا أهلها ,
مما جعل الكثير من أهل العراق يفرون للشام ومصر ومنهم العلماء والتجار والصناع
والفنانين , وكانت الدولة الأيوبية في مصر تحتضر , وتولى من بعدهم المماليك الحكم
ليدخلوا في صراع مباشر مع المغول الذين اطلقوا الشرارة وهددوا وجودهم في مصر ,
فكانت موقعة عين جالوت عام 1260م , ثم تلاها اغتيال السلطان المملوكي قطز - بيد
المماليك بسبب الصراع على السلطة - قبل أن يأخذ خطوة جدية في تثبيت ملكه ,
باستضافة أحد أفراد البيت العباسي لتنصيبه خليفة اسمياً , والتحكم في أرث الخلافة
فعلياً , وقد فعلها السلطان بيبرس حيث اختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد
واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات
الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر
لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وأصبحت العراق تحت حكم المغول في ذلك الوقت
, فكانت مصر والشام – بعد ان استطاع المماليك صد هجمات المغول على الشام – مقصداً
هاماً . ومكاناً آمناً للتجار و مكان ترحيب للأطباء والعلماء و الأدباء وتعاون
الصناع العراقيون والفنانون والخطاطون مع إخوانهم المصريين ليطورا الصناعة والفن
الذي بقيت روائعه حتى الآن تزين المتاحف العالمية .
جدير بالذكر أن كثير من عائلات التجار
العراقيين أثرت في الحياة الفكري فكان منهم العلماء ومنهم من أسس المدارس الدينية
من حر ماله .
وإذا كانت مصر بوجه عام والقاهرة بوجه خاص
مقصداً لعلماء العراق أيام الدولة المملوكية , فهذا لم يكن غريباً فقد حدث نفس
الشيء أيام سابقتها الدولة الأيوبية , حيث قدم لها من علماء الفقه والحديث وعلوم
القرآن الشيخ الجلولي المقري , والشيخ البغدادي , وابن شعبان الأبلي وابن الأعلاقي
.
أما علماء العراق وقت الدولة المماليك فكان
من أشهرهم : الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن علي من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب
وكان عالماً في القراءات وعلم الأصول , وهناك عبد اللطيف بن الصيقل التاجر الحراني
وقد عملت أسرته بالتجارة , وايضاً كان منهم علماء في الدين , وكان زين الدين
الفارقي وابنه مروان الملقب ببدر الدين من الفقهاء , وايضا الشيخ علم الدين ابن
بنت اسحق العراقي وكان يدرس في مدرسة الأمام الحسين , والشيخ عز الدين المارديني
الحنفي وكان يدرس بالمدرسة الصالحية ,
وهناك شيخ الفقهاء نجم الدين أبو عبدالله الحراني الحنبلي .
وكان منهم من عملوا بالخطابة في المساجد فهناك
الشيخ ابن العوام المحوجب وقد قرأ بالقراءات السبعة , وكان زميله ووريثه في الفقه
من بعده الفقيه شمس الدين الجزري , حتى السيدات الفقيهات نزلن مصر وعلمن نساءها
منهم الفقيهة الزاهدة فاطمة بنت عباس البغدادية الملقبة بأم زينب .
وقد شاع التصوف في العراق بتشجيع من الدولة
العباسية التي كانت تلك الحركة تحت رعايتهم لصد أي حركات مثل العيارين والشطار . ولبث
الأمل في نفوس الناس بعد الحملات الصليبية على المشرق , وقد انتقلت مظاهر الصوفية
لكل بلاد الاسلام ومنها مصر , فكان قدوم المتصوفة نهجاً لما فعله أساتذتهم الذين
استقروا في مصر من قبل , وطوافاً ببلاد المسلمين الذي كان مبدأ هاماً بالنسبة لهم
, ومنهم ابن القسطلاني التوزري , والابرقوهي , والشيخ ابن البناء , والشيح العارف
بالله محمد بن أبي العشائر القرشي الباذبيني الواسطي صاحب الكرامات الخارقة ,
والشيخ عزالدين أبو اسحاق العلوي الحسيني العراقي .
وكذلك ساهم ايضا العراقيون في الأدب والشعر
والنحو وكانت تلك الأنشطة تمارس بجانب
تخصصهم الأساسي ألا وهو الفقه , ونذكر منهم الفقيه القاضي صدرالدين الجزري ,
النحوي المترجم علي بن عدلان الموصلي , الأديب أمين الدين السليماني الأربلي ,
الكمال طه بن أبي الأربلي .
أما في العلوم العقلية فكانت لهم اسهامات
بارزة , ونذكر منهم الطبيب العراقي ابن الأكفاني , وكان بارعاً في الرياضيات واهتم
بدراسات اقليدس , وكان نابغة وخاصة طب العيون وكانت له مؤلفات طبية منها "كشف
الدين في أحوال أمراض العيون " وكان يعمل ببيمارستان قلاوون بالقاهرة , كما
كان عالماً بالجواهر و الأحجار الكريمة , وكان شاعراً وأديباً . وكذلك الطبيب الشاعر
شمس الدين الموصلي .
وقد برع ايضاً العراقيون الوافدون إلى مصر في
علوم المنطق , ومنهم : عيسى بن داوود البغدادي الحنفي , وكان من تلامذته العراقيين
في مصر الذين تولوا التدريس والبحث من بعده , ابن الاكفاني , والسبكي , و الطبيب
شمس الدين الجزري المعروف بابن المحوجب . وحتى فنون الموسيقى تطورت بفضل التبادل
بين الفن المصري والعراقي وكان من أبرز الموسيقيين العراقيين محمد بن عيسى
البغدادي , ويرجع بأصوله إلى مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وكان حافظاً
للقرآن تولى في شبابه مشيخة الزاوية بجوار المشهد الحسيني , وكان طبيبا ايضا , ولم يتكسب من الموسيقى نهائياً . وقد
لوحظ أن كتاب التراجم من العراقيين في مصر
قد تأثروا بميل المصريين للنوادر والنكات فكان هذا ظاهراً في كتاباتهم , ومنهم :
محمد ابن ابراهيم الأكفاني , محمد بن دانيال الموصلي , ومسند الحديث أبو عبد الله
الحراني .
ويتضح لنا أن سقوط بغداد وتوافد العراقيون
على مصر والشام ومكوثهم على أرضها و تمازج علومهم وفنونهم بعلوم وفنون المصريين
ترك آثاراً مزدهرة في مختلف المجالات , بفضل ترحاب المصريون بهم , ورعاية سلاطين
المماليك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق