التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الخميس، 2 يونيو 2022

الفرار من بغداد للقاهرة "2"

 

المدرسة الصالحية من أهم مراكز التعليم في عصر المماليك 


بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656 هـ  - 1258م , والذين ذبحوا وحرقوا ونهبوا أهلها , مما جعل الكثير من أهل العراق يفرون للشام ومصر ومنهم العلماء والتجار والصناع والفنانين , وكانت الدولة الأيوبية في مصر تحتضر , وتولى من بعدهم المماليك الحكم ليدخلوا في صراع مباشر مع المغول الذين اطلقوا الشرارة وهددوا وجودهم في مصر , فكانت موقعة عين جالوت عام 1260م , ثم تلاها اغتيال السلطان المملوكي قطز - بيد المماليك بسبب الصراع على السلطة - قبل أن يأخذ خطوة جدية في تثبيت ملكه , باستضافة أحد أفراد البيت العباسي لتنصيبه خليفة اسمياً , والتحكم في أرث الخلافة فعلياً , وقد فعلها السلطان بيبرس حيث اختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب  "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وأصبحت العراق تحت حكم المغول في ذلك الوقت , فكانت مصر والشام – بعد ان استطاع المماليك صد هجمات المغول على الشام – مقصداً هاماً . ومكاناً آمناً للتجار و مكان ترحيب للأطباء والعلماء و الأدباء وتعاون الصناع العراقيون والفنانون والخطاطون مع إخوانهم المصريين ليطورا الصناعة والفن الذي بقيت روائعه حتى الآن تزين المتاحف العالمية .

   جدير بالذكر أن كثير من عائلات التجار العراقيين أثرت في الحياة الفكري فكان منهم العلماء ومنهم من أسس المدارس الدينية من حر ماله .

    وإذا كانت مصر بوجه عام والقاهرة بوجه خاص مقصداً لعلماء العراق أيام الدولة المملوكية , فهذا لم يكن غريباً فقد حدث نفس الشيء أيام سابقتها الدولة الأيوبية , حيث قدم لها من علماء الفقه والحديث وعلوم القرآن الشيخ الجلولي المقري , والشيخ البغدادي , وابن شعبان الأبلي وابن الأعلاقي .

     أما علماء العراق وقت الدولة المماليك فكان من أشهرهم : الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن علي من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب وكان عالماً في القراءات وعلم الأصول , وهناك عبد اللطيف بن الصيقل التاجر الحراني وقد عملت أسرته بالتجارة , وايضاً كان منهم علماء في الدين , وكان زين الدين الفارقي وابنه مروان الملقب ببدر الدين من الفقهاء , وايضا الشيخ علم الدين ابن بنت اسحق العراقي وكان يدرس في مدرسة الأمام الحسين , والشيخ عز الدين المارديني الحنفي وكان يدرس بالمدرسة الصالحية  , وهناك شيخ الفقهاء نجم الدين أبو عبدالله الحراني الحنبلي .

   وكان منهم من عملوا بالخطابة في المساجد فهناك الشيخ ابن العوام المحوجب وقد قرأ بالقراءات السبعة , وكان زميله ووريثه في الفقه من بعده الفقيه شمس الدين الجزري , حتى السيدات الفقيهات نزلن مصر وعلمن نساءها منهم الفقيهة الزاهدة فاطمة بنت عباس البغدادية الملقبة بأم زينب .

    وقد شاع التصوف في العراق بتشجيع من الدولة العباسية التي كانت تلك الحركة تحت رعايتهم لصد أي حركات مثل العيارين والشطار . ولبث الأمل في نفوس الناس بعد الحملات الصليبية على المشرق , وقد انتقلت مظاهر الصوفية لكل بلاد الاسلام ومنها مصر , فكان قدوم المتصوفة نهجاً لما فعله أساتذتهم الذين استقروا في مصر من قبل , وطوافاً ببلاد المسلمين الذي كان مبدأ هاماً بالنسبة لهم , ومنهم ابن القسطلاني التوزري , والابرقوهي , والشيخ ابن البناء , والشيح العارف بالله محمد بن أبي العشائر القرشي الباذبيني الواسطي صاحب الكرامات الخارقة , والشيخ عزالدين أبو اسحاق العلوي الحسيني العراقي .

  وكذلك ساهم ايضا العراقيون في الأدب والشعر والنحو  وكانت تلك الأنشطة تمارس بجانب تخصصهم الأساسي ألا وهو الفقه , ونذكر منهم الفقيه القاضي صدرالدين الجزري , النحوي المترجم علي بن عدلان الموصلي , الأديب أمين الدين السليماني الأربلي , الكمال طه بن أبي الأربلي .

   أما في العلوم العقلية فكانت لهم اسهامات بارزة , ونذكر منهم الطبيب العراقي ابن الأكفاني , وكان بارعاً في الرياضيات واهتم بدراسات اقليدس , وكان نابغة وخاصة طب العيون وكانت له مؤلفات طبية منها "كشف الدين في أحوال أمراض العيون " وكان يعمل ببيمارستان قلاوون بالقاهرة , كما كان عالماً بالجواهر و الأحجار الكريمة , وكان شاعراً وأديباً . وكذلك الطبيب الشاعر شمس الدين الموصلي .

   وقد برع ايضاً العراقيون الوافدون إلى مصر في علوم المنطق , ومنهم : عيسى بن داوود البغدادي الحنفي , وكان من تلامذته العراقيين في مصر الذين تولوا التدريس والبحث من بعده , ابن الاكفاني , والسبكي , و الطبيب شمس الدين الجزري المعروف بابن المحوجب . وحتى فنون الموسيقى تطورت بفضل التبادل بين الفن المصري والعراقي وكان من أبرز الموسيقيين العراقيين محمد بن عيسى البغدادي , ويرجع بأصوله إلى مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وكان حافظاً للقرآن تولى في شبابه مشيخة الزاوية بجوار المشهد الحسيني , وكان طبيبا ايضا , ولم يتكسب من الموسيقى نهائياً . وقد لوحظ أن  كتاب التراجم من العراقيين في مصر قد تأثروا بميل المصريين للنوادر والنكات فكان هذا ظاهراً في كتاباتهم , ومنهم : محمد ابن ابراهيم الأكفاني , محمد بن دانيال الموصلي , ومسند الحديث أبو عبد الله الحراني .

     ويتضح لنا أن سقوط بغداد وتوافد العراقيون على مصر والشام ومكوثهم على أرضها و تمازج علومهم وفنونهم بعلوم وفنون المصريين ترك آثاراً مزدهرة في مختلف المجالات , بفضل ترحاب المصريون بهم , ورعاية سلاطين المماليك .

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق