صقر قريش والأندلس
يروي التاريخ أن الخليفة العباسي أبي جعفر
المنصور , سأل رجاله ذات مرة عمن هو صقر قريش فظنوا أنه يقصد نفسه فقالوا : أمير
المؤمنين الذي رد الملك , وسكن الزلازل وحسم الأدواء . قال : ماصنعتم شيئا . قالوا
فمعاوية : قال ولا هذا . قالوا فعبد الملك بن مروان . قال : لا , قالوا : فمن ؟
قال : صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلص بكيده عن سنن الأسنة وظباة السيوف
, يعبر القفر ويركب البحر , حتى دخل بلداً أعجمياً منفرداً بحسن تدبيره وشدة
شكيمته . وسواء كانت تلك الرواية صحيحة أم لا , فقد صدقت لأن ماحدث لعبد الرحمن بن
معاوية أشبه بروايات المغامرات والأساطير فتارة يعبر نهر الفرات ويصارع مياهه
بينما ينتظر أعداؤه بالسيوف استسلامه والعودة إليهم , وتارة يجوب الصحاري ويظل
مطارداً لسنوات , وتارة تخبئه امرأة من أعوانه تحت ملابسها , وكان على شفا الهلاك
أكثر من مرة لوشاية أناس وضع ثقته فيهم , و غيرها من المغامرات التي كتب له أن
ينقذ منها , ثم يعبر البحر لتكتب له
الإمارة في الأندلس , وربما لو ظلت الأندلس تحت ظل الخلافة العباسية , ماكتب لها
الإزدهار الذي تحدث عنه التاريخ , حيث انكب عبد الرحمن ومن أتى بعده على نهضة
الأندلس على أسس مشرقية دمشقية حاضرة خلافتهم الأموية الزائلة , بعد أن نقل بنو
العباس عاصمة الخلافة شرقاً لبغداد لتكون أقرب لأنصارهم الفرس ولربما استغل
الفرنجة الفرصة واستولوا عليها لبعدها عن مقر الخلافة , وأجلت الحكومة المركزية في
الأندلس حدثاً مأساويا ً تم بعد مئات الأعوام .
وصقر قريش أو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن
عبد الملك ولد سنة 113 هجريه – 731 م , في قرية دير حنين من أعمال قنسرين
بالشام وقد توفي والده شاباً , وكان في
الخامسة من عمره , فكفله وأخوته جده هشام .
وشهد عبد الرحمن في شبابه سقوط الخلافة
الأموية وهزيمة مروان بن محمد , والذي هزم من العباسيين وظل مطارداً من الموصل
وحتى مصر وقتل في قرية بوصير بمحافظة بني سويف سنة 132هجريه – 750 م , و أرسل رأسه
إلى الخليفة أبي العباس السفاح .
ووقعت بعدها رقاب أمراء بنو أمية تحت سيوف
العباسيين , وأقيمت المذابح التي سجلها التاريخ وقام بها أعمام الخليفة أبو العباس
و أبرزهم عبد الله بن علي و منها دعوته لمئات من الأمويين لوليمة كبيرة قتلوا فيها
جميعا عند نهر أبي فطرس بين فلسطين و الأردن وفرش على جثثهم بساطاً وتناول طعامه
فوقه , ثم نبش قبور بني أمية ولم ينج سوى قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز , أما
داوود بن علي فقتل عدد كبير من بني أمية في مكة والمدينة , وكذلك سليمان بن علي
قتل جماعة منهم في البصرة .
أما الأمير عبد الرحمن والذي تخلف عن وليمة
نهر أبي فطرس , لأنه كان في رحلة صيد , فلما أعلمه خدمه بالمذبحة تسلل لبيته ليلا ,
وأعلم أختيه أم الأصبغ و أمة الرحمن , بقصده لبيت له في قرية دانية من الفرات
ليختبىء به , وبالفعل ذهبت إليه أختاه ومعهما ابنه سليمان ذو الأربع سنوات , وأخ
يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً , واستقر في القرية مختبئاً لم يخرج من منزله بعد
أن أصيب بالرمد , وذات مرة دخل عليه ابنه فزعاً حيث داهم القرية جند بني العباس
براياتهم السوداء , وكان قد قتلوا عمه يحيي من قبل أمام عينيه في بيت أبيه قبيل
مذبحة أبي فطرس , وتمكن عبد الرحمن و أخوه من الهرب إلى الأحراش وصحبهم مولى له ومعهم
بعض المال , ثم اتصل بأحد معارفه ليدبر له المؤونة والدواب , غير أن وشاية من خادم
ذلك الرجل جعلت العباسيين يطاردونه حتى
نهر الفرات , الذي اضطر لعبوره سباحة , ولم يقو على ذلك أخوه , فوعد بالأمان فاضطر
للعودة إلى الضفة التي جاء منها , وقد شاهده عبد الرحمن وجند العباسيين يقطعون رأسه
, ثم أكمل طريقه لفلسطين ووصل إليه مولاه ومولى أخته أم الأصبغ بالمال والجواهر ,
ليعبروا مصر ويستقروا في افريقيه .
وكان واليها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة
بن عقبة بن نافع الفهري قد واجه اضطرابات ضد الحكومة المركزية من أقاليم ومدن
افريقيه عندما لمسوا ضعف الخلافة الأموية , وبعد أربع سنوات أخمد عبد الرحمن
الفهري تلك الثورات , فرضخ الخليفة مروان بن محمد
لطلب عبد الرحمن الفهري , وأقر بولايته على افريقيه والمغرب والأندلس .
وبعد نكبة الأمويين , اعترف عبد الرحمن الفهري
بالخلافة الجديدة , فأقروا بولايته, غير أن الحال تغير بعد استتباب أمورهم ,
فقرروا كسر شوكة عبد الرحمن الذي ظن أنه الحاكم الوحيد لولايته كما استقبل عدداً
من امراء البيت الأموي وتزوج و أخوته من نسائهم ليقيم تحالفاً قوياً معهم , فقاموا
بتجهيز حملة برية بحرية ضده , غير أن
الحملات لم تواجه عبد الرحمن , نظراً لوفاة الخليفة أبي العباس .
ولم يدم التحالف بين عبد الرحمن الفهري وأمراء
بني أمية كثيراً فقد تآمروا عليه , لأنهم رأوا أنهم أولى منه بالحكم وأعلى نسباً
وشرفاً , فقام بقتل أمراء بني أمية الذين كانوا يفدون عليه , وخشي منهم أن يقضوا
عليه ويستأثروا بحكم البلاد لأنفسهم .
وبذلك كان قدوم عبد الرحمن بن معاوية
لافريقيه يتزامن مع فترة عصيبة , حيث أصبح
حلفاء الأمس أعداء اليوم , ويقال أن قبيل قدومه أن وفد على عبد الرحمن
الفهري رجلاً يهودياً درس العلوم الغيبية , وتنبأ بأن سوف يحكم الأندلس رجل من
ابناء الملوك واسمه عبد الرحمن وله ضفيرتان , وكانت تلك الصفات المطابقة لعبد
الرحمن بن معاوية والتي أراد لذلك قتله عبد الرحمن الفهري , و أياً كانت صحة تلك
النبؤة فإنها قد وجدت هوى في نفس عبد الرحمن الفهري الذي أراد التخلص من كل من
يزعزع حكمه في البلاد التي ملكها , وكذلك في نفس عبد الرحمن بن معاوية الذى نما
داخله الأمل في حكم افريقيه و الأندلس بعد أن كان ينشد فقط النجاة بحياته , ولكن
ذلك لم يكن سهلا فبعد أن كان العباسيون من يطاردونه فقط , أصبح عبد الرحمن الفهري
و أعوانه أيضاً , فتنقل متخفياً بين القبائل , ينشد الملجأ , فمن برقة لبني رستم
في تاهرت , إلى قبيلة مكناسة , ثم قبيلة مغيلة و قد لاحقه هناك عبد الرحمن الفهري
فأخفته زوجة شيخ القبيلة تحت ثيابها , فنجا من القتل , و قد أكرم شيخ قبيلة مغيلة
وزوجته بعد أن حكم الأندلس , حيث عاشا هناك تحت رعايته .
ثم انتهى المقام بعبد الرحمن في قبيلة نفزة
وكانت أمه من سبيهم . وقد طال به المقام في الترحال لخمس سنوات قاسية , فقرر أن
يعبر البحر تاركاً العباسيين , وعبد الرحمن الفهري .
أما الاندلس فكانت تعاني من الاضطرابات الداخلية
بسبب العصبيتين اليمنية والقيسية , حتى استتب الأمر بالاتفاق للزعيم القيسي يوسف
بن عبد الرحمن الفهري , وقد ارسل عبد الرحمن بن معاوية مولاه للاندلس ليدرس
أحوالها ويطلب العون من زعماء موالي بني أمية ويوعدهم بأرفع المناصب .
ولبوا بدورهم النداء لابن أصحاب الفضل عليهم
من بني أمية , فهم من وهبوهم حريتهم و أعطوهم السلطة , كما أنهم لم يحسوا بالأمان
مع يوسف الفهري زعيم القيسية في حين أن أغلب عرب الأندلس من اليمنية , فوحدوا
صفوفهم و قامت الحروب بينهم وبين زعماء القيسية وحاولوا استمالة زعماء القيسية
الذين تخلى عنهم يوسف الفهري ولكنهم فشلوا وحاولوا الصلح معهم بالمصاهرة بين معاوية
وابنة يوسف الفهري , وفشل هذا أيضاً , فلجأوا لليمينية ضد القيسية , الذين رحبوا
بالأمير الجديد وأرسلوا له سفينة , فكانت آخر لحظات عبد الرحمن على الشاطيء
الافريقي مغامرة أخرى حيث حال بين ركوبه السفينة مجموعة من البربر أرادوا المال ,
لأنهم كانوا يعرفونه ويعرفون مقصده , وبالفعل وزع عليهم أحد أنصار عبد الرحمن
المال , ليركب السفينة وتستقبله أرض الأندلس , ليرحب به اليمنية وجند الأندلس القرشية
, مماجعل موقف يوسف الفهري وزعماء القيسية محرجاً وعلى رأسهم الصميل بن حاتم ,
خاصة بعد دخول عبد الرحمن بن معاوية لأرشذونة ودعي له على منبرها وكانت صلاة عيد
الفطر عام 138هجرية – 756 م , ثم كان له المحتوم من الصدام مع يوسف الفهري ولم يكن
ذلك بالأمر السهل , فهو الغريب عن الأندلس ومع ذلك اضطر لعبور المسالك الضيقة
شديدة الانحدار وفيضان نهر الوادي الكبير و الأمطار الغزيرة , و كان النصر من نصيب
عبد الرحمن بن معاوية و اليمنيين وقتل ابن يوسف الفهري و ابن الصميل بن حاتم ,
وغنم اليمنيين معسكر القيسية , بل تدافعوا لقصر يوسف الفهري في قرطبة منتهكين
حرمته , ولم يقدر عليهم عبد الرحمن وقد استجارت زوجة يوسف الفهري وابنتاه بعبد
الرحمن فاستأمنهم ورد إليهم ماتمكن من استخلاصه ممن نهبوهم , فأهدته إحدى ابنتي
يوسف الفهري جارية أسبانية تدعى حلل التي ولدت له بعد ذلك خليفته هشام .
و سرعان ما انقلب اليمنية على عبد الرحمن لمنعهم من نهب قصر يوسف الفهري وحمايته لنسائه وأرادوا تدبير مؤامرة ضده و أن يكونوا حكام الأندلس بعد التخلص من القيسية و الأمويين , ولكن الانقسامات الداخلية بين زعمائهم جعلت عبد الرحمن يأخذ حذره , فعدلوا عن موقفهم , وآثروا السلم ودخل عبد الرحمن المسجد الجامع وصلى بالناس وخطب فيهم يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 138هجرية , الرابع عشر من مايو 756م , لتكون بذلك بداية الدولة الأموية في الاندلس ونهاية لست سنوات صعبة ترك فيها سلطان قومه إلى بلاد حكمها وواجه الكثير من المصاعب على أرضها ليمسك بزمام أمرها لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً و يتوفي في سنة 172هجرية – 787 م , وكان يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً وقد ترك وراءه دولة قوية وغنية قامت بها نهضة ثقافية وعلمية أثرت في تاريخ الحضارة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق