بعد هجرة
الرسول صلى الله عليه وسلم ليثرب , بدأ في تأسيس مجتمع جديد انهي فيه الخصومة بين
قبيلتي الأوس والخزرج , وآخى فيه بين المهاجرين والأنصار , ووضع الصحيفة التي
تعتبر دستور المدينة نظم فيها كل الأمور الاقتصادية و الاجتماعية لساكني يثرب , ثم
شرع الجهاد ليمنح الكيان السياسي لدولة المدينة , ومعظم تلك القرارات المصيرية كانت
تتخذ من مكان كان يجتمع فيه المسلمون , ألا وهو المسجد .
وكان رسول صلى الله عليه وسلم قد ابتاع مربداً –
المربد : موقف الجمال ومحبسها – من صاحبيه غلامين يتيمين يدعيا سهيل وسهل من بني مالك بن النجار وكانا في حماية
أسعد بن زرارة ثم شرع في بناء المسجد , حيث كان جداراً مبطناً غير مسقوف , وحددت
القبلة على بيت المقدس , و كان أسعد بن زرارة هو من بناه وكان يصلي فيه بأصحابه ,
ويجتمع بهم كل جمعة وذلك قبل مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد اختير هذا
المكان ليكون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, عندما بركت فيه ناقة الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم, فدعا رسول صلى الله عليه وسلم الغلامين ليبتاع منهما المربد ,
فرفضا و أرادا وهبه لرسول صلى الله عليه وسلم, فأبى الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم وابتاعه منهما بعشرة دنانير , فعدل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون
مهيئا لجمع المسلمين للصلاة وللمشاورة معهم في دينهم ودنياهم , فأمر بقطع نخيله
وغرقده – الغرقد هو شجر من الفصيلة الباذنجانية ذو ثمار تؤكل وفروع شائكة – و كان
في ذلك المربد قبور منذ لأيام الجاهلية , فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بنبشها ,
و غيبت العظام , و كان فى المربد ماء
مستنجل فسيروه حتى ذهب -المستنجل ممشى ماء المطر-وسويت الخرب , وحفر أساس المسجد على
ثلاثة أذرع , ورفعت جدرانه بالطوب اللبن – الطوب الذي لم يحرق بالنار - , واختلف
الباحثون و المستشرقون في مساحته , إلا أن الباحث الأثري الأستاذ الدكتور أحمد
فكري , بعد دراسات دقيقة للروايات رأى أن المسجد عرضه 63 ذراعاً , و70 ذراعاً في الطول . وكان الرسول صلى
الله عليه وسلم ينقل حجارته بنفسه ويعاونه أصحابه على ذلك .
فكان يقول أثناء العمل : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار
والمهاجرة .
وفي البداية كان المسجد عبارة عن ساحة فسيحة , فشكا
المسلمون من تعرضهم لحرارة الشمس فيها , فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم ظلة , استخدم فيها جذوع النخل كأعمدة للقبلة
المسقوفة , وأصبح للظلة ست , فكانت الأعمدة ثلاثة إلى يمين المنبر , وثلاثة إلى
يساره , ثم طرحت على أعمدة النخيل , عوارض النخل والعروش والجريد , وبنى بجوار
المسجد بيوتاً بالطوب اللبن , أسقفها من النخل والجريد , وأقام للسيدة عائشة بيتاً
يفتح يؤدي بابه إلى المسجد , وكان المسجد
له ثلاثة أبواب : باب في مؤخره , و باب الرحمة أو باب عاتكة , وباب كان يدخل منه
الرسول صلى الله عليه وسلم أمام باب عائشة ,
وكانت قبلة المسجد ناحية بيت المقدس , بعد أن كان يترك للمسلمين حرية اختيار
قبلتهم , لأن " لله المشرق والمغرب , فأينما تولوا فثم وجه الله أن الله واسع
عليم " سورة البقرة آية 115 . وكان بيوت أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لها أبواب نافذة إليه , وكانوا تسع بيوت مبية
باللبن , لها حجرات من جريد مطرور بالطين , أسقفها منخفضة , مقسمة شرق المسجد
وشماله , أضيفت كلها للمسجد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم, نزلت الآية الكريمة " قد نرى تقلب وجهك في
السماء فلنولينك قبلة ترضاها , فول وجهك شطر المسجد الحرام " سورة البقرة ,
آية 144 . وذلك في العام الثاني من الهجرة , فعدلت القبلة من الشمال للجنوب
وبالتالي أقيمت ظلة جديدة في الجانب القبلي للمسجد , فأصبح له ظلتان , وسمي بذي
القبلتين . واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الظلة القديمة
بيتاً لأهل الصفة وهم الفقراء من الصحابة لا منازل لهم ولا عشيرة , كانوا ينامون في
المسجد , ويظلون فيه , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بعضهم للعشاء
معه , ويوزع الآخرين على الصحابة . وكان
مابين الظلتين رحبة واسعة , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب مستنداً إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي ,
ثم صنع مولى العباس بن عبد المطلب ويدعى "كلاباً "منبراً من درجتين
ومقعد , وضع موضع القبلة . ولم يكن هناك مئذنة للمسجد , حيث كان المسلمون يذهبون
للصلاة بلا نداء , وطلب بعضهم أن ينادي في المسلمين ببوقاً مثل اليهود , ونادى
البعض أن ينادى في المسلمين بالجرس مثل النصارى , واستقر الأمر على أن ينادى بلال
بن رباح المسلمون بالصلاة , فكان يذهب إلى دار حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج الرسول
ويرتقي أعتاب فيها ويؤذن عليها " .
وبعد
بناء المسجد بسبع سنوات ضاق المسجد بالمصلين , فاشترى الرسول صلى الله عليه وسلم أرضا من الأنصار زادت من مساحة المسجد الشرقية
والغربية والشمالية , فجدد سقف المسجد . وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه , جددت
جذوع النخيل لتآكل القديمة , وزاد عليها الجريد , ثم تخربت في عهد عثمان بن عفان
فبناها بالآجر – الطين الموضوع في قوالب والمجفف في الشمس - .
وإذا
كان أبا بكر الصديق لم يزد في المسجد شيئاً , فإن في سنة 17 هجرية زاد فيه عمر بن
الخطاب , وبناه على مثل بنائه الأول باللبن
والجريد وجعل عمده خشباً , وفي سنة 29 هجرية زاد عثمان بن عفان مساحة المسجد , بل
بنى جداره بالحجارة المنقوشة والجص – الجبس - , وكانت أعمدته من الحجارة المنقوشة
وسقفه بالساج – خشب من شجر الساج يقاوم التآكل والمياه - , ثم كان هناك بعض
التغيير في عهد مروان بن الحكم رابع حكام الدولة الأموية الذي أمر بوجود مقصورة من الحجر المنقوش , ثم
زيد في المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك عام 88 هجرية , وأشرف على ذلك والي المدينة وقتها عمر
بن عبد العزيز , فبعث الوليد بالمال والفسيفساء و الرخام , وثمانين صانعاً من
الروم والقبط من أهل الشام ومصر . وظل الحال على ذلك حتى زاد فيه الخليفة العباسي
المهدي عام 162هجرية , ثم رممه الخليفة المتوكل على الله سنة 247 هجرية . ثم توالى
عليه سلاطين مصر المملوكية بالتجديد والترميم فقد أحدثت ترميمات وتجديدات عام 655
هجرية عللى عهد السلطان المنصور علي , وايضا في عهد السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان المنصور قلاوون عام 705 هجرية
وايضا في عهد السلطان قايتباي , وكذلك سلاطين الدولة العثمانية ونذكر منهم تجديدات
وتوسعات السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد الاول . ليترك كل هؤلاء
بصمة فنية ومعمارية تعكس ثقافاتهم وخلفياتهم الحضارية .
و إذا
تأملنا مسجد الرسول نجده يتميز بالبساطة عاكساً تعاليم الدين الاسلامي , فنظام
النسب فيه يقوم على أساس انساني هو الوضع الأفقي في نظام يتسق ونظرية المساواة في
المجتمع الاسلامي , بعيداً عن أي طبقية وتقسيم
فئوي . فكان هذا التخطيط الأساس لسائر العمائر الاسلامية المتأخرة كالمدارس و
الخوانق والقصور و الوكالات و الفنادق . وقد أصبح المسجد أساساً للتنظيم العمراني
للمدينة الاسلامية , حيث تلتف حوله بقية المراكز العمرانية , فقد كان هو النواة في
دولة المدينة المنورة فكان مركزاً للصلاة ودار للندوة , وفيه كان يتشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في كل شؤونهم وعلاقاتهم بمن يحيطونهم ,
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل وفود العرب
فيه فكان القادمون للمدينة يعقدون رواحلهم
في فنائه ويقابلون الرسول صلى الله عليه وسلم في السقيفة , وكان
تعقد ألوية المسلمين للخروج سواء للاستطلاع أو الغزو . وفيه كان يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين دينهم , وهم بدورهم يعلمونه لوفود العرب ,
وظل للمسجد وظيفة المدرسة لوقت طويل , وكان يقيم فيه فقراء المسلمين من أهل الصفة
, وفيه كان يجتمع الرسول وصحابته يتحادثون ويتناشدون الأشعار .
في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن الرسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام،
ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا"
وورد في صحيح مسلم , عن
أبي هريرة رضي الله عنه , أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي
هذا، خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفيه الروضة المباركة ،
حيث ورد في صحيح البخاري , أن الرسول الله
عليه وسلم قال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رزقكم الله وإيانا بشرف زيارته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق