التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


السبت، 14 نوفمبر 2020

القادم ومعه نبتة

 


                                            محمد علي باشا 

  يتجول  البشر في جميع أنحاء العالم حاملين معهم البضائع والأفكار وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى – قد تكون منها الأمراض المعدية – يؤثرون ويتأثرون , وقد يأتي البعض منهم بنباتات من البلاد البعيدة , والتي قد تؤثر على شكل الحياة الزراعية في المكان المستوطن الجديد , منها ماحدث في مصر بلد الزراعة الخصيب , أدخل لها الوالي محمد علي باشا- حكم "1805- 1849"م - , العديد من المحاصيل الزراعية التي غيرت من شكل المواسم الزراعية ومن حياة الفلاح والتاجر بل ومن حياة المواطن المصري اقتصادياً و اجتماعياً , ونذكر منها الفاكهة المصرية الشهيرة المسماة  باليوسفي أو الأفندي أو اليوسف أفندي وهو من الحمضيات المسماة "مندرين" ، وهو اسم  مقاطعة صينية. وأطلق أيضاً الاسم على كبار الموظفين الصينيين لأنهم كانوا يلبسون قبعات عليها زر كبير يشبه المندرين. وكانت ملابسهم أيضاً بلون المندرين.

ومن المعروف أن محمد علي باشا كان مهتماً بإرسال التعليمية للخارج للعودة بالعلوم المختلفة للاستفادة منها في بناء دولته الحديثة , فقد كان من ضمن الطلاب من الذين أرسلهم لفرنسا ويدعى يوسف أفندي الأورفلي , وهو في طريق العودة , أن واجهت سفينته ريح شديدة فاضطرت أن ترسو سفينته في مالطا , وتصادف في تلك المدة أنه رست سفن حاملة أشجارا مثمرة من شرق آسيا تدعى المندرين ، فاشترى منها يوسف أفندي ثمانية براميل بها شجر مثمر من المندرين ,  وعندما وصل مصر و قابل  محمد علي باشا التمس يوسف أن يحمل معه بعضًا من هذه الفاكهة ، وعندما تناولها محمد علي باشا أعجبته وسأل عن اسم الفاكهة- وكان يوسف سأل قبل ذلك بعض الحاشية عمن يحبه محمد علي من أولاده أكثر من غيره، فأخبره أنه يحب طوسون باشا الذي توفي وكان الوالي في حزن شديد عليه -  فقال يوسف له: إن اسمها هو "طوسون"، فتبسم محمد علي وفطن لذكاء يوسف أفندي ، سأله عن اسمه ,  فأجاب : يوسف. فأمر محمد علي بتسميتها "يوسف أفندي",  وأمر بزراعتها في حديقة قصر شبرا، فعرفت منذ ذلك الحين باليوسف أفندي وكانت فاتحة خير على يوسف الأورفلي الذي عهد محمد علي له بالتجارب و الخطط الزراعية في مصر وقتها فأصبح من أصحاب النفوذ والسلطة .

 

الزعيم أحمد عرابي 

وإذا كان يوسف أفندي قد أرسله محمد علي لدراسة الزراعة فجاء بأشجار اليوسفي وبدأ زراعتها في مصر , فإن الزعيم والقائد أحمد عرابي (1841 - 1911) م , قد عاد من منفاه بسيلان أو سري لانكا ببذور و أشجار المانجو الهندي لزراعتها , وكان له صديقاً يدعى أحمد باشا المنشاوي من كبار ملاك الأراضي في محافظة الغربية ، والذي بدأ بزراعة  المانجو  بقرية القرشية مركز السنطة بالغربية فتطورت لتصبح زراعة المانجو المصرية على ماعليه الآن والتي اشتهرت بجودتها وتصديرها لبلاد العالم .

سير والتر رالي يدخن التبغ 


   والمسافر شرقاً و غرباً قد يأتي بكل جديد والذي ربما قد يصبح بعد ذلك من الأساسيات للحياة اليومية لبعض البشر , ومنها ما آتي به سير " والتر رالي " 1552- 1618" الكاتب والشاعر والفارس والجاسوس والمستكشف الإنجليزي، و كان أحد المقربين للملكة اليزابيث ابنة الملك هنري الثامن والتي اشتهرت بقوتها و تطلعها لتبوأ بلدها مكانة مرموقة , فأتاحت للسير والتر الإماكانيات ليسافر للعالم الجديد بأمريكا لينافس الأسبان أصحاب المبادرة الأولى وليأت من العالم الجديد بالبطاطس و التبغ .    


                               فرانسيسكو دي ميلو بالهيتا يزرع شتلات البن 

   وإذا كانت هناك محاصيل جاءت إلينا من العالم الجديد لتصبح محاصيل اقتصادية لاغنى عنها , فهناك محاصيل زرعت في العالم الجديد لتصبح جزءاً هاماً من اقتصاده ومنها البن , ففي بدايات القرن الثامن عشر ,  كان هناك ضابط بحري يدعى "جابرييل دي ماتيو كليو" سافر لجزر "المارتينيك" شرق الكاريبي والخاضعة للتاج الفرنسي وزرع فيها شتلات البن المهربة من جاوة الآسيوية , فانتشرت في مزارع جزر الكاريبي الفرنسية بشكل واسع واعتمدت على العبيد الأفارقة , مما جعل ملك البرتغال يرغب في زراعة البن بأملاكه على أرض البرازيل بأي ثمن , فكلف " فرانسيسكو دي ميلو بالهيتا " بمهمة الحصول على شتلات البن , وذلك عام 1727م , ولما وجد "بالهيتا" صعوبة في الحصول على الشتلات بالطرق الشرعية , لجأ لحيلة بأن أوهم زوجة حاكم "غيانا الفرنسية"  بحبه , فقدمت له عند رحيله باقة من الزهور بها شتلات البن , ليحضرها للبرازيل وتزرع على نطاق واسع , لتصبح البرازيل أكبر منتج للبن على مستوى العالم .

 وإذا كنا ذكرنا رحلة البن للعالم الجديد , فلهذا النبات رحلة في العصر الحديث داخل العالم القديم , فأول ماعرف هذا النبات على صورته البرية كان في أثيوبيا , وقد ظهرت في اليمن على يد الصوفي الإمام محمد بن سعيد الذبحاني المعروف باستيراد البضائع من إثيوبيا إلى اليمن بمنتصف القرن الخامس عشر , حيث استخدمت الصوفية في اليمن القهوة  كمساعد على التركيز ونوع من الروحانية في حلقات الذكر . وقد تمت زراعة البن بشكل واسع في اليمن , بل وأصبح ميناء مخا باليمن مركز تجارة البن في العصر الحديث – منه جاءت تسمية موكا – ثم انتشرت لأنحاء الدولة العثمانية , ونقلها التجار الإيطاليين لأوروبا .

                                     ستوكس و أسرته الهندية 

    وإذا كان هناك من ينقل النبتة الجديدة لبلده ليزرعها , هناك أيضا من ينتقل من بلده حاملا معه زرعها لينبته في أرض غريبة يتعلم منها ويفيد أهله , وهذا ماحدث مع المغامر الأمريكي صامويل ايفانز ستوكس "1882 –1946" م ,  الذي كان والده رجل أعمال غني يعمل في المصاعد , سافر برغم معارضة أهله للهند عام "1904 "م  ويتطوع لمستعمرة الجذام , أحبه أهالي شيملا الهندية لحسن معاملته ومشاركته لهم العيش البسيط , ومع الوقت أعطاه أهله المال اللازم للتبرعات , ثم تزوج فتاة هندية عام "1912" م وانجب خمسة ابناء , فكانت تلك نقلة نوعية في حياته حيث ترك حياة الفقر والزهد واستفاد بأموال أهله ليكون رب أسرة ورجل يعتمد عليه من حوله في شتى النواحي , ففي عام "1916"م  اشترى أراض ليزرعها تفاحاً أمريكياً طوره الأخوان ستارك من لويزيانا بالولايات المتحدة حيث ناسبت تلك السلالة الجديدة مناخ ولاية هيماتشال براديش الهندية وازدهرت الزراعة بشكل كبير , ونقل بذلك التفاح الأمريكي للهند لأول مرة , وصاحب غناه المادي تقاربه مع الهنود واعتماده عليهم في الزراعة , بل واعتناقه الهندوسية واطلق على نفسه اسم " ساتيانادانا "  و واقناع زوجته الهندية المسيحية باعتناق الهندوسية , وقد اصبح عضوا في الكونجرس الوطني الهندي , وتعاون مع الهنود في مقاومتهم للاستعمار البريطاني ودخل السجن لذلك , ودافع عنه المهاتما غاندي , ثم عانى من المرض لأعوام حتى توفي عام 1946 م , قبل أن يرى استقلال الهند . وقد رحل الانجليز , وبقيت مزرعة ستوكس للتفاح عامرة بأجيال من عائلة ستوكس , وأصبحت ولاية هيماتشال براديش الواقعة في أقصى الشمال من أهم محاصيلها التفاح الذي غير في شكل الحياة الاقتصادية لتلك الولاية .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق