التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


السبت، 19 ديسمبر 2020

المملكة شبه المتحدة " أوراق من الصراع الأيرلندي الانجليزي "

نائب رئيس وزراء أيرلندا الشمالية الأسبق وأحد قادة الجيش الجمهوري في الماضي يصافح ملكة انجلترا 

  منذ أن تألق لاعب الكرة المصري محمد صلاح نجم فريق ليفربول الانجليزي , ازداد انتباه الجماهير المصرية و العربية للدوري الانجليزي , والذي يعتبر من أشهر و أقوى بطولات الدوري على مستوى العالم , وبوجه عام فإن المنتخب الانجليزي فريق لا يستهان به , فكرة القدم الانجليزية هي بداية كرة القدم الحديثة , والمنتخب الانجليزي كان شريكاً في أول مباراة دولية ضد المنتخب الاسكتلندي وذلك عام 1872م , والمفروض أن تلك مباراة دولية بين دولتين متنافستين  إلا أن انجلترا و اسكتلندا كانتا جزءاً من دولة واحدة يحكمهما حاكم واحد, ومع ذلك تلعبان ضد بعضهما وحتى الآن ذلك الوضع مستمربالإضافة لمنافسهم الأخ اللدود المنتخب الأيرلندي , وقد البعض يتساءل عن سبب الفرقة وقد لايعبأ البعض  فالمهم عنده مشاهدة المباراة .

 

شعار منتخب انجلترا 

 

شعار منتخب اسكتلندا 


شعار منتخب ايرلندا الشمالية

 

    شعار منتخب ايرلندا 

   والبعض منكم ايضاً قد شاهد فيلم التسعينات الشهير"Braveheart"أو القلب الشجاع – انتاج 1995م - للنجم "ميل جيبسون" ووجد فيه حروباً دموية بين انجلترا واسكتلندا وفيه انضمت أيرلندا إلى صف اسكتلندا , ومنكم من شاهد أفلاماً هوليودية شهيرة مثل فيلم "براد بيت وهاريسون فورد" " The Devil's Own – انتاج "1997"م- و فيلم الجميلة" جوليا روبرتس"  "Michael Collins "- انتاج 1996م- فوجد أن  العلاقة بين بريطانيا الأم و التي تمثلها انجلترا شديدة القسوة على الجزء الايرلندي والذي كان يرد بالعنف والثورة والتفجيرات لذلك ليس مستغربا لمن طالع التاريخ أن يجد تعاطف الشعب الأيرلندي مع القضية الفلسطينية بعد أن زرعت بريطانيا الكيان الصهيوني في أراضيهم بوعد وزير الخارجية "بلفور" بوطن لليهود على أرض فلسطين عام "1920"م ,  وكانت منظمة التحرير الفلسطينية حريصة منذ بدايتها على إقامة علاقات قوية مع بلد أوروبي يسبح ضد التيارالسياسي  الغربي , فالبلدان عرفتا طعم الظلم من الغريب الذي يريد طمس الهوية واستغلال الأرض حتى وإن كان جزء من جسد هذا الوطن تحت وطأة المحتل .


فيلم Braveheart

 فيلم Michael Collins

 فيلم the devil's own     
 

 

   تضامن ايرلندا مع القضية الفلسطينية 


     ولتتضح الرؤية شيئا فشيئا فالمملكة المتحدة أو بريطانيا المكونة من أربع أجزاء رئيسية , مقسمة على جزيرتين : الجزيرة الكبرى مكونة من انجلترا المسيطرة وويلز في الغرب واسكتلندا في الشمال , والجزيرة الأصغر مقسمة إلى جزئين الجزء الشمالي هو ايرلندا الشمالية ويتبع بريطانيا والباقي هو دولة مسقلة بذاتها هو جمهورية أيرلندا , وتاريخ الصراع طويل مر بمراحل مختلفة من الاتحاد القسري أو الطوعي , فالجزر البريطانية وفد إليها المهاجرون الأوروبيون واستقروا بها , وكان نصيب ايرلندا وويلز أن سكنهما المستضعفين من المهاجرين , وشيئا فشيئا أخذت شكل الحكومات تتضح على نظام القبلية بعد أن حدث هجوم نورماندي على الجزر البريطانية في الفترة من 1169: 1171م , لتنشأ الحيازة البابوية "لوردية ايرلندا " والتي تتبع ملك انجلترا , ويبقى الحكم  الاقطاعي  حتى عام "1542"م , حيث انتهى الحكم الاقطاعي وأصبحت جزء من انجلترا تحت إمرة الملك هنري الثامن الملك الذي اعلن اتباع انجلترا المذهب البروتستاني وخرج عن البابوية الكاثوليكية في حين كانت الكاثوليكية مذهب أيرلندا ثم تأتي الظروف في غير صالح ايرلندا وذلك بعد وفاة ابنته ماري الاولى أو ماري الدموية التي جعلت الحرق من نصيب من تسول له نفسه اتباع البروتستانتية وأعادت بريطانيا لحظيرة البابوية فنالت التأييد البابوي من البابا بولس الرابع , بكونها ملكة على ايرلندا .

 

            خريطة بريطانيا 

 

           هنري الثامن ملك بريطانيا 

 

            الملكة ماري الأولى 

 

               البابا بولس الرابع

 ثم توحدت بريطانيا عام 1603 م , تحت حكم الملك جيمس السادس ملك اسكتلندا أو جيمس الأول ملك بريطانيا ليهدأ الصراع الدموي الانجليزي الاسكتلندي الذي دام قروناً بين ملوك الدولتين ويأخذ تحت عباءته ايرلندا , ومن حين لآخر كانت تظهر المقاومة في شكل حروب :

حرب الأحد عشر عام "1641 – 1653"م، والحرب الوليمية - نسبة للملك ويليام الثالث - في إيرلندا "1689 – 1691"م، واضطرابات أرما "من سبعينيات القرن الثامن عشر إلى تسعينياته",  والثورة الأيرلندية في عام" 1798"م, وقد انضمت ويلز عام "1707م" للمجموعة وظهرت بريطانيا العظمى , ثم تستبدل بريطانيا العظمى بالمملكة المتحدة وذلك بداية  من 1 يناير 1800م .

 

         الملك جيمس الأول 

 

   الملك ويليام الثالث 

    ومنذ بداية الوحدة البريطانية وحتى ظهور المملكة المتحدة حدثت تغيرات جذرية على الصعيدين العالمي والداخلي , فبريطانيا أصبحت امبراطورية تسيطر على العديد من المناطق في الشرق ولا سيما الهند , واستفادت من ثروات العالم الجديد – حتى وان استقلت عنها الولايات المتحدة - وهزمت امبراطورية منافسة لها وهي فرنسا في حرب السنوات السبع"1756م – 1763"م  , وبدأت منها الثورة الصناعية وهي الغنية بالفحم والحديد وصاحبة الأسطول الضخم عابر المحيطات , ولكن ليس كل مواطنوا بريطانيا من السعداء بهذا التقدم فأهل ايرلندا كانوا فقراء فجزيرتهم قليلة الموارد تغطيها المستنقعات والبحيرات , شبه منعزلين زراعتهم قليلة نظرً لفقر التربة وسوء الصرف وهطول الأمطار طوال العام تقريباً , فلم يجدوا نشاط سوى الرعي منعزلين عن التقدم الصناعي متمتعين باستقلال في الحضارة و المذهب الكاثوليكي و يجترون ذكريات لغتهم الأم التي تختلف عن الانجليزية ممنوعون من تملكِ الأراضي ومن التعليم ومن حق الانتخابِ ومن دخول البرلمان الأيرلندي بحجة أنهم كاثوليك -لم يدخل الايرلنديون البرلمان إلا في عام 1829م – وقد سنت الأقليةُ البروتستانتية الكثيرَ من القوانين التي أَفقرتْ الأكثرية الكاثوليكية طوال عقود طويلة ، وكان هناك قانوناً يُلزم الكاثوليك بتقسيم تركة الميت من الأرض بين الأبناء بالتساوي، وإذا ما تحول الإبن الأكبر إلى البروتستانتية يحصل على التركة كاملة. .

                                       الفقر في البيت الايرلندي 

   ثم تأتي الظروف المناخية لتزيد من فقر سكان ايرلندا حيث استمرت الأمطار في الهطول بغزارة , وأصيب محصول البطاطس بآفة انتقلت إليه عن طريق السفن القادمة من أمريكا الشمالية والذي بدوره جاء من المكسيك  , فتلف المحصول الأساسي وهو البطاطس القادمة من أمريكا و الذي كان الغذاء والمورد الاقتصادي لعامة الشعب فتسبب في مجاعة كبرى حدثت بين "1845 :1852"م سميت بمجاعة البطاطس , وزادت عليهم الأمراض المعدية كالتيفوس والحمى والحصبة والإسهال وإلتهابات الجهاز التنفسي والسعال الديكي والعديد من الطفيليات المعوية وكذلك الإنفلونزا والجدري  فمات جراء ذلك حوالي مليون مواطن وهاجر مليون معظمهم للولايات المتحدة الأمريكية والباقي لانجلترا و اسكتلندا و استراليا وكندا , فخسرت أيرلندا حوالي ربع سكانها و أصبحت فقيرة في الأيدي العاملة , في وقت كان الأيرلنديون  فيه من رعايا أغني امبراطورية على وجه الأرض , ولم يرحم البريطانيون الأيرلنديين بل طالبوهم بالضرائب ولم يجدوا المساعدة إلا من الأيرلنديين من جنود وموظفي شركة الهند الشرقية , ومن البابا بيوس التاسع ، ثم اضطرت الملكة فيكتوريا للتبرع وجمعت التبرعات من البريطانيين في انجلترا واستراليا وأمريكا , وايضا تبرعت الدولة العثمانية بثلاث سفن محملة بالغذاء فمنعتهم بريطانيا ألا أنها تمكنت من الرسو وتوزيع المعونة وارسل وجهاء ايرلندا رسالة شكر للسلطان العثماني لذلك , حتى سكان أمريكا الأصليين ممن تعاملوا مع الأيرلنديين ارسلوا بمبلغ من المال للمساعدة  .

 

                  المجاعة في ايرلندا 


        نصب يخلد المجاعة 

 

الفرار من المجاعة 

 

                        هجرة الايرلنديين من المجاعة 

وكان معظم الايرلنديون يعيشون أبشع حال فقد نالوا الأسوأ من الطعام والغطاء والمسكن  , و كان معظم رجال ايرلندا يموتون جوعا وهم يشاركون في اصلاح وتعبيد طرق لا يحتاجون إليها تربط أملاك البريطانيين على الأرض الأيرلندية من ضياع وقصور لايزورونها سوى مرة أو مرتين كل عام , و مما لاشك فيه أن تلك المجاعة لم تكن سبباً في تدهور حال الأيرلنديين بقدر ماكانت نتاجاً لسياسة البريطانيين الاقتصادية التي وضعوها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في ايرلندا وأدت إلى تدهور حالتهم الاقتصادية طوال عقود طويلة قبل المجاعة الكبرى .

  ومثلما تلاعبت بريطانيا بالسياسة الاقتصادية لأيرلندا , تلاعبت بالخريطة الاقتصادية ايضا فبينما كانت الثورة الصناعية في أوجها على الجزيرة البريطانية الكبرى الغنية بالفحم و الحديد , كانت ايرلندا جزيرة فقيرة التربة الزراعية تعاني من سوء الصرف ذات مناخ رطب ممطر معظم العام , فكانت جزيرة رعوية معزولة إلى حد كبير عن التقدم الانجليزي . ولكن تلك العزلة لم تكن تامة فالأجزاء الشمالية من ايرلندا وتحديدا منطقة "أليستر" وفد إليها عناصر بريطانية بروتستانتية تتحدث الانجليزية ذات خبرة صناعية , وكلما زاد النمو الصناعي فيها زاد وفود الانجليز إليها , وارتبطت "أليستر " بالجزيرة الكبرى وأهملت باقي جزيرة أيرلندا ,فزاد شعور السخط فيها وطالب الأيرلنديون بالحكم الذاتي .

   فقام كفاح مسلح طويل ضد بريطانيا لذلك , فأصدر البرلمان البريطاني عام "1914"م    قراراً بمنح الحكم الذاتي لإيرلندا الجنوبية , إلا أن ذلك لم ينفذ إلا عام "1921"م حيث منح الجزء الجنوبي الاستقلال , وتركت أليستر في الشمال تابعة لبريطانيا , وذلك لم يرض الوطنيين الايرلنديين , وظل هذا الحلم في ذهن الايرلنديين حتى عام "1937"م حينما نجح الحزب الجمهوري في الوصول للحكم و أعلن الاستقلال واطلق علي ايرلندا اسم" Eire" وذلك بلغتهم القديمة , ووضع دستوراً جديداً وطالب بضم "أليستر" , واتجه للتصنيع وتحسين أحوال الزراعة وتنشيط التجارة الخارجية , وكان الانشقاق الأكبر عن بريطانيا حينما أعلن قائد التحرير "دي فاليرا " أن ايرلندا لاتتقيد بسياسة بريطانيا وتعلن حيادها التام أمام الحرب العالمية الثانية , وقد سمحت ايرلندا للغواصات الألمانية بالرسو في موانيها للتموين , نكاية في بريطانيا والولايات المتحدة التي كانتا تضغطان عليها لجرها للحرب وكان نتيجة ذلك وقف اشتراك ايرلندا للانضمام للأمم المتحدة لعدة سنوات حتى تخطت ايرلندا كل هذا ثم انضمت للسوق الاوروية المشتركة وعضواً في الاتحاد الأوروبي وسبقت بريطانيا في ذلك .

 

             مايكل كولينز 

 

               دي فاليرا 

أما الجزء الشمالي أو "أليستر" فكان هو الآخر يقاوم بكل قوته للوجود البريطاني مضحياً بدماء شعبه ليحقق الاستقلال فقامت جماعات مسلحة منها  منظمة شبه عسكرية هي الجيش الجمهوري الأيرلندي لتقودالكفاح المسلح منذ العقد الثاني من القرن العشرين بقيادة "مايكل كولينز" بعمليات فدائية واغتيالات وتفجيرات لمواقع بريطانية , ففاوضتهم بريطانيا وأعطت للجزيرة استقلالها وانفردت بحكم أليستر , فقامت حرباً أهلية أيرلندية لذلك "1922- 1923" م , ضد "كولينز" الذي وافق على المعاهدة وبين "دي فاليرا" الرافض لها , وكان النصر حليف "كولينز" , فتغير موقف  دي فاليرا الذي كان عادى الجيش الجمهوري الأيرلندي رسمياً بعد أن امسك بزمام الأمور في ايرلندا المستقلة , واتخذ ضده اجراءات صارمة منها الحجز دون محاكمة بسبب تفجيرات ضد بريطانيا , بل والاعدام والسجن عندما سعى الجيش الجمهوري بطلب المساعدة من هتلر ضد بريطانيا , فأصبح الجيش الجمهوري بين شقي رحي , بين مستعمر وبين أخوة أعداء , لم يجد الدعم منهم , بل كبلوه وضيقوا الخناق عليه , فاكتفت ايرلندا بتكوين جمهورية مستقلة في الجزء الجنوبي , واستمر الجيش الجمهوري بالتفجيرات في بريطانيا من حين لآخر خلال سنوات طويلة , حتى جاء عام "1997"م حيث تم الاتفاق بين "جيري آدمز" القيادي من الجيش الجمهوري ورئيس وزراء بريطانيا "توني بلير " وكان ذلك أول لقاء بين رئيس وزراء بريطاني وقيادي من الجيش الجمهوري منذ لقاء 1921 بين "مايكل كولينز" ورئيس الوزراء البريطاني "دافيد لويد جورج" , وتمت اتفاقية بلفاست وأهم بنودها مجلس حكم مستقل ومنتخب في أيرلندا الشمالية إضافة إلى تقاسم السلطة واستفتاء على توحيد أيرلندا والذي جرى  في "1999" م وكانت النسبة "71"% نعم في ايرلندا الشمالية و"94"% نعم في جمهورية أيرلندا المستقلة. ولكن حتى الآن لم ينته الوضع بسلام فهو أشبه بالنار تحت الرماد فالجيش الجمهوري الأيرلندي لم ينته بل ظهر في السنوات الأخيرة منظمة أطلقت على نفسها الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد وقامت بريطانيا أكثر من مرة بإيقاف مجلس الحكم في ايرلندا الشمالية  بحجة الخوف من انشقاقه .

 

               الجيش الجمهوري الايرلندي 

 

      الجيش الجمهوري الايرلندي الآن  

 

                    دافيد لويد جورج ومايكل كولينز

 

                   توني  بلير  وجيري آدامز   

الجمعة، 20 نوفمبر 2020

الملك امنحتب الثالث صاحب طريق الكباش


                                الملك أمنحتب الثالث 

    كثير منا تأمل في تمثال الملكة "نفرتيتي" الشاهد على براعة الفنان المصري الذي وصل حد كبير من الإتقان , والتي  كانت زوجة للملك "أمنحتب الرابع" الذي غير اسمه إلى "اخناتون" وقاد ثورة دينية وفكرية ووحد الآلهة في إله واحد هو آتون أو قرص الشمس ونقل العاصمة من واست " طيبة " إلى "اخيتاتون " في تل العمارنة بمحافظة المنيا الحالية,ذلك المناخ الجديد لم يأت من الفراغ فقد اعتلى أمنحتب الرابع عرش مصر ووجدها تنعم بالرخاء الاقتصادي والفكري والاستقرار السياسي وكان ذلك نتاجاً لماتركه سلفه و أبوه " أمنحتب الثالث" , مماجعله يتفرغ لدينه الجديد ويقود ثورته الفكرية .

   وإذا تناولنا سيرة أبيه الملك "أمنحتب الثالث "تاسع ملوك الأسرة "18" في الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديم  , سنجده قد تميز بأشياء عديدة, منها : فترة حكمه التي تجاوزت خمس وثلاثين عاماً , والتي ساعدته على الاستقرار و الرخاء الإقتصادي والذي جعله يهتم بالعمارة والفنون وظهر ذلك جلياً في معبد "الأقصر" الذي بناه لعبادة الثالوث " آمون" وزوجته" مونت " و ابنهما "خنسو" إله القمر,  ويعد ثان معابد طيبة الكبرى , ربطه أمنحتب الثالث بمعبد الكرنك بطريق نطلق علىه اليوم بطريق " الكباش "  زين على جانبيه بتماثيل على شكل أبي الهول بلغ عددها 500 تمثال على الجانبين , لها أجسام الأسود ورؤوس الكباش حيث يرمز الأسد للقوة والشجاعة و الكبش رمز آمون حيث قوة الخصب والإنتاج . وسجل في ذلك المعبد نص الولادة الألهية لنفسه كما فعلت الملكة حتشبسوت حيث اعتبر نفسه وريثاً إلهياً لعرش مصر من أبيه آمون , وكان له 600 تمثال للإلهة سخمت – ابنة رع وربة الحرب لها جسد امرأة و رأس لبؤة – في معبد" موت " بالكرنك , وبنى في طيبة الغربية قصراً ومعبداً جنائزياً هدمه الملك " مرنبتاح " عند تشييده لمعبده ولم يبق منه سوى تمثالان على جانبي الصرح والمعروفين باسم تمثالا"ممنون". وعمت انجازات أمنحتب في العمارة الدينية مصر , حيث بدأ انشاء جبانة العجول "السيرابيوم" بسقارة , وأقام تماثيل القرد للإله تحوت في الأشمونين , كما كانت له مبان أخرى في أبيدوس والكاب و أتريب وتل بسطه , وتميزت كل انجازات أمنحتب المعمارية والفنية بتحررها من الأشكال التقليدية الصارمة , والتي ظهرت بوضوح في فكروفن آثارخلفه أمنحتب الرابع من رقة المشاعر.وقد اهتم أمنحتب الثالث بعبادة الشمس حيث كان له آثار بهليوبوليس "عين شمس " فكانت اشارة لزيادة الإهتمام بآتون أو قرص الشمس . وكانت له آثار في النوبة حيث بنى معبداً في اليفانتين , وآخر في وادي السبوع لآمون , ومعبداً في "عينبه" لعبادة "حورس" الجنوبي , وكذلك معبداً في صولب لعبادته هو وزوجته  الملكة "تي" والمعبود "آمون" .

 

طريق الكباش 



   

 

معبد الأقصر


مقبرة العجول بسقارة 

تمثال القرد بالأشمونين  

 

  أما سياسته الخارجية فقد امتد تأثيرها لما بعد وفاته , وربما كانت تلك السياسة قد كتبت في سجل قدره , فكانت البداية قبل ميلاده حيث كان والده الملك تحتمس الرابع غير مهتم بإرسال الحملات لآسيا نظراً لحالة  الاستسلام والسكون التي أظهرها جيران مصر الآسيويين , وإن كان هذا ظاهرياً فقط وبمرور الوقت سيثبت عكس هذا . على كل حال فقد أراد الملك تحتمس الرابع في توطيد العلاقة مع حاكم "ميتاني "الملك "أرتاتاما" –في شمال سوريا - واتحاده معه لدعم قوته ضد الحيثين في شمال وسط الأناضول , فتوطد هذا الاتحاد بالزواج السياسي بين تحتمس الرابع وابنة حاكم "ميتاني" الأميرة "موت إم ويا" , وكسربذلك الملك تحتمس الرابع القاعدة الشرعية التي كان ينتهجها ملوك مصر القديمة بالحرص على الاقتران بالزوجة الملكية للتأكيد على شرعية الحكم , فكان هذا اتجاهاً معاكساً لتوطيد الحكم وقد نتج عن تلك الزيجة ابنا صار فيما بعد , الملك " أمنحتب الثالث" فكان ذلك الملك يجري في عروقه دماء غير مصرية ومما لاشك فيه ذلك كان مؤثراً على سياسته الخارجية .

  وقد تزوج أمنحتب الثالث من أميرة مصرية تدعى سات آمون , كانت ابنة تحوتمس الرابع من أميرة مصرية , ولم يقم أمنحتب بحملات تأديبية لآسيا, حيث كان حكام آسيا يثبتون الولاء لمصر بإرسال الجزي والهدايا . ومثلما لجأ والده "تحتمس الرابع" للزواج السياسي لتوطيد علاقاته الخارجية فعل ابنه ايضاً بل توسع في ذلك , فقد قامت مملكة الحيثيين -الذي كان اشتباكها  وشيكاً مع مصر- بقتل ملك ميتاني حليف مصر بيد حليفها "عبدي شرتا"حاكم أمورو,  بل وقام باعلان نفسه وصياً على العرش , ولكن فشل كل ذلك وقام الملك الجديد لميتاني "توشراتا " بتزويج ابنته "تادوخيبا" لملك مصر لتوطيد علاقته به .

   وفي تلك الأثناء كانت بابل حليفة مصر, لها مطامع في آشور التابعة لميتان حليفة مصر , فكان نتاج ذلك الجو المتوتر المتشابك المعقد أن حرص الملك "كاريجالزو" ثالث ملوك الأسرة الكاشية على زواج ابنته بالملك "أمنحتب الثالث" لينال الحماية المصرية مثله مثل ملك ميتاني وملك أرزاوا . وكذلك ليحصل على عطايا مصر من الذهب والفضة والنحاس و اللازورد التي كانت تجلبها من آسيا وتهديها لحلفائها , وتلك الموارد كانت هامة في المشروعات العمرانية وخاصة الدينية . ومافعله "كاريجالزو" كرره ولده وخليفته "كادشمان-إنليل الأول " .فقد صاهر أمنحتب الثالث وزوجه ابنته ووثقت وسجلت رسائل العمارنة كافة تفاصيل الزيجة من تكاليف وتبعات وفق التقاليد العراقية القديمة .

   وقد أرسل ملك مصر مبعوثاً مصرياً لمصاحبة ابنة "كادشمان أنليل" لمصر , فتجرأ الملك "كادشمان أنليل " أن يطلب من "أمنحتب الثالث" أن يرسل له أميرة مصرية ليتزوجها فكان الرد عليه:" أنه منذ أمد بعيد لم تقترن ابنة ملك مصري من شخص أجنبي ".فعاود طلبه بأنه يريد أي مصرية ليتزوجها مدعياً أمام شعبه أنها أميرة مصرية , وذكر ملك مصر أنه وافق على طلبه لابنته , فرفض أمنحتب الثالث رفضاً قاطعاً لمخالفة ذلك الأعراف المصرية , ممايوضح النظرة الفوقية التي كان ينظرها ملك مصر لملوك بابل , وكان لإتمام تلك الزيجة الشرط الصريح بإرسال مصر للذهب , فكان الرد المصري بما اثبتته الوثائق أن العروس قد ارسل لها خمس عربات محملة بالأثاث الفاخر المطعم بالعاج والمصفح برقائق الذهب , وهذا لم يرق للملك "كادشمان أنليل " , مثلما لم يرق من قبل "توشراتا" حاكم "ميتاني" , حيث كانت مصرترى أنها أقوى من تلك البلاد ولا يجب أن ترضخ لطلباتهم حتى أن مبعوثي تلك البلاد كانت مقابلة الملك لهم تتميز بالفتور والتعالي .

   على أن الملك المصري لم يهنأ بتلك الزيجة فقد ماتت العروس البابلية بالطاعون , ومثلما فعل "كادشمان أنليل " تكرر نفس الشيء مع ابنه "بورنابوش الثاني " الذي صاهر ملك مصر , حرصا منه على التحالف المصري البابلي أو حتى التنازل ليصل إلى حد التبعية لما كان يواجه بابل من مخاطر من تنامي قوة آشور وتهديد قبائل السوتو لحدودها وطرقها التجارية . وكان نتيجة لتلك الزيجات السياسية من حكام آسيا , أن اطمئن الملك "امنمحات الثالث " لحدوده الآسيوية التي كان يصونها أصهاره ومن يدينون له بالولاء , ولم تعد هناك حاجة للحملات العسكرية .

  أما سياسة الملك الخارجية مع النوبة فقد قام في العام الخامس من حكمه بتجنيد فرقة نوبية لتأديب القبائل النوبية في أقصى الجنوب على الحدود المصرية السودانية , و بالنسبة للحدود الغربية فقد سجلت آثار الأقصر ذكر قبائل "المشوش" إحدى الجماعات الليبية , كما أن لوح أنشودة النصر في النوبة ذكرت أنه كان يسيطر على قبائل "التحنو" الليبيين المعروفين بالأقواس التسعة .

  

 

تويا حماة الملك 

 

مومياء يويا

 

مومياء يويا وتويا

 

قناعي يويا وتويا والدا الملكة تي 

الملكة تي 

 

 

الملكة تي متقدمة في السن 

 

                         تمثال نفرتيتي        

 

               تمثال اخناتون            

ومثلما تزوج "أمنحتب الثالث" من الأميرة المصرية و الأميرات الأجنبيات , كن بالنسبة له صفقات سياسية وساكنات بجناح الحريم إلا زيجة واحدة له تميزت بكونها أخذت منحى جديداً في التقاليد الأسرية الملكية بمصر القديمة , وكانت تلك الزيجة في العام الثاني من حكمه , من فتاة مصرية تدعى "تي" ابنة أحد نبلاء أخميم ومن كبار ضباط الجيش ويدعى "يويا" وزوجته  "تويا"والتي كانت من عائلة على علاقة وثيقة بالقصر الملكي . وقد أنجبت لأمنحتب الثالث ستةابناء , ذكرين أكبرهما مات في حياة أبيه والثاني صار الملك "اخناتون" , و أربع إناث حملت اثنتين منهن لقب ملكة . وكانت الملكة "تي" من قوة الشخصية وحب الملك لها , أن تركها تدير شئون مصر الداخلية والخارجية حتى أن المراسلات الخارجية الآتية من آسيا كانت تأتي أحياناً باسمها , ولقبت بلقب "الزوجة الملكية العظمى " , وشاركت الملك في الأعياد الشعائرية الكبرى مثل عيد سد – لم يحتفل به كثير من الملوك لأنه بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على العرش – كما صورت على شكل أبي الهول , وخصص لها الملك معبداً في سرنقة الواقعة بين الجندلين الثاني والثالث , وحفر لها بحيرة في الجزء المنخفض من بركة تقع جنوب معبد مدينة هابو و ألحقها بقصر في شرقه . وقد عاشت الملكة "تي" للعام الثامن من حكم ابنها "اخناتون " بنفس الشخصية القوية المؤثرة في شئون الدولة فكانت الخلافات على أشدها بينها وبين زوجة ابنها الملكة "نفرتيتي" , حيث تعودت الملكة الأم أن تكون السيدة الأولى , ولم تتقبل أن تكون لمصر ملكة غيرها .

السبت، 14 نوفمبر 2020

القادم ومعه نبتة

 


                                            محمد علي باشا 

  يتجول  البشر في جميع أنحاء العالم حاملين معهم البضائع والأفكار وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى – قد تكون منها الأمراض المعدية – يؤثرون ويتأثرون , وقد يأتي البعض منهم بنباتات من البلاد البعيدة , والتي قد تؤثر على شكل الحياة الزراعية في المكان المستوطن الجديد , منها ماحدث في مصر بلد الزراعة الخصيب , أدخل لها الوالي محمد علي باشا- حكم "1805- 1849"م - , العديد من المحاصيل الزراعية التي غيرت من شكل المواسم الزراعية ومن حياة الفلاح والتاجر بل ومن حياة المواطن المصري اقتصادياً و اجتماعياً , ونذكر منها الفاكهة المصرية الشهيرة المسماة  باليوسفي أو الأفندي أو اليوسف أفندي وهو من الحمضيات المسماة "مندرين" ، وهو اسم  مقاطعة صينية. وأطلق أيضاً الاسم على كبار الموظفين الصينيين لأنهم كانوا يلبسون قبعات عليها زر كبير يشبه المندرين. وكانت ملابسهم أيضاً بلون المندرين.

ومن المعروف أن محمد علي باشا كان مهتماً بإرسال التعليمية للخارج للعودة بالعلوم المختلفة للاستفادة منها في بناء دولته الحديثة , فقد كان من ضمن الطلاب من الذين أرسلهم لفرنسا ويدعى يوسف أفندي الأورفلي , وهو في طريق العودة , أن واجهت سفينته ريح شديدة فاضطرت أن ترسو سفينته في مالطا , وتصادف في تلك المدة أنه رست سفن حاملة أشجارا مثمرة من شرق آسيا تدعى المندرين ، فاشترى منها يوسف أفندي ثمانية براميل بها شجر مثمر من المندرين ,  وعندما وصل مصر و قابل  محمد علي باشا التمس يوسف أن يحمل معه بعضًا من هذه الفاكهة ، وعندما تناولها محمد علي باشا أعجبته وسأل عن اسم الفاكهة- وكان يوسف سأل قبل ذلك بعض الحاشية عمن يحبه محمد علي من أولاده أكثر من غيره، فأخبره أنه يحب طوسون باشا الذي توفي وكان الوالي في حزن شديد عليه -  فقال يوسف له: إن اسمها هو "طوسون"، فتبسم محمد علي وفطن لذكاء يوسف أفندي ، سأله عن اسمه ,  فأجاب : يوسف. فأمر محمد علي بتسميتها "يوسف أفندي",  وأمر بزراعتها في حديقة قصر شبرا، فعرفت منذ ذلك الحين باليوسف أفندي وكانت فاتحة خير على يوسف الأورفلي الذي عهد محمد علي له بالتجارب و الخطط الزراعية في مصر وقتها فأصبح من أصحاب النفوذ والسلطة .

 

الزعيم أحمد عرابي 

وإذا كان يوسف أفندي قد أرسله محمد علي لدراسة الزراعة فجاء بأشجار اليوسفي وبدأ زراعتها في مصر , فإن الزعيم والقائد أحمد عرابي (1841 - 1911) م , قد عاد من منفاه بسيلان أو سري لانكا ببذور و أشجار المانجو الهندي لزراعتها , وكان له صديقاً يدعى أحمد باشا المنشاوي من كبار ملاك الأراضي في محافظة الغربية ، والذي بدأ بزراعة  المانجو  بقرية القرشية مركز السنطة بالغربية فتطورت لتصبح زراعة المانجو المصرية على ماعليه الآن والتي اشتهرت بجودتها وتصديرها لبلاد العالم .

سير والتر رالي يدخن التبغ 


   والمسافر شرقاً و غرباً قد يأتي بكل جديد والذي ربما قد يصبح بعد ذلك من الأساسيات للحياة اليومية لبعض البشر , ومنها ما آتي به سير " والتر رالي " 1552- 1618" الكاتب والشاعر والفارس والجاسوس والمستكشف الإنجليزي، و كان أحد المقربين للملكة اليزابيث ابنة الملك هنري الثامن والتي اشتهرت بقوتها و تطلعها لتبوأ بلدها مكانة مرموقة , فأتاحت للسير والتر الإماكانيات ليسافر للعالم الجديد بأمريكا لينافس الأسبان أصحاب المبادرة الأولى وليأت من العالم الجديد بالبطاطس و التبغ .    


                               فرانسيسكو دي ميلو بالهيتا يزرع شتلات البن 

   وإذا كانت هناك محاصيل جاءت إلينا من العالم الجديد لتصبح محاصيل اقتصادية لاغنى عنها , فهناك محاصيل زرعت في العالم الجديد لتصبح جزءاً هاماً من اقتصاده ومنها البن , ففي بدايات القرن الثامن عشر ,  كان هناك ضابط بحري يدعى "جابرييل دي ماتيو كليو" سافر لجزر "المارتينيك" شرق الكاريبي والخاضعة للتاج الفرنسي وزرع فيها شتلات البن المهربة من جاوة الآسيوية , فانتشرت في مزارع جزر الكاريبي الفرنسية بشكل واسع واعتمدت على العبيد الأفارقة , مما جعل ملك البرتغال يرغب في زراعة البن بأملاكه على أرض البرازيل بأي ثمن , فكلف " فرانسيسكو دي ميلو بالهيتا " بمهمة الحصول على شتلات البن , وذلك عام 1727م , ولما وجد "بالهيتا" صعوبة في الحصول على الشتلات بالطرق الشرعية , لجأ لحيلة بأن أوهم زوجة حاكم "غيانا الفرنسية"  بحبه , فقدمت له عند رحيله باقة من الزهور بها شتلات البن , ليحضرها للبرازيل وتزرع على نطاق واسع , لتصبح البرازيل أكبر منتج للبن على مستوى العالم .

 وإذا كنا ذكرنا رحلة البن للعالم الجديد , فلهذا النبات رحلة في العصر الحديث داخل العالم القديم , فأول ماعرف هذا النبات على صورته البرية كان في أثيوبيا , وقد ظهرت في اليمن على يد الصوفي الإمام محمد بن سعيد الذبحاني المعروف باستيراد البضائع من إثيوبيا إلى اليمن بمنتصف القرن الخامس عشر , حيث استخدمت الصوفية في اليمن القهوة  كمساعد على التركيز ونوع من الروحانية في حلقات الذكر . وقد تمت زراعة البن بشكل واسع في اليمن , بل وأصبح ميناء مخا باليمن مركز تجارة البن في العصر الحديث – منه جاءت تسمية موكا – ثم انتشرت لأنحاء الدولة العثمانية , ونقلها التجار الإيطاليين لأوروبا .

                                     ستوكس و أسرته الهندية 

    وإذا كان هناك من ينقل النبتة الجديدة لبلده ليزرعها , هناك أيضا من ينتقل من بلده حاملا معه زرعها لينبته في أرض غريبة يتعلم منها ويفيد أهله , وهذا ماحدث مع المغامر الأمريكي صامويل ايفانز ستوكس "1882 –1946" م ,  الذي كان والده رجل أعمال غني يعمل في المصاعد , سافر برغم معارضة أهله للهند عام "1904 "م  ويتطوع لمستعمرة الجذام , أحبه أهالي شيملا الهندية لحسن معاملته ومشاركته لهم العيش البسيط , ومع الوقت أعطاه أهله المال اللازم للتبرعات , ثم تزوج فتاة هندية عام "1912" م وانجب خمسة ابناء , فكانت تلك نقلة نوعية في حياته حيث ترك حياة الفقر والزهد واستفاد بأموال أهله ليكون رب أسرة ورجل يعتمد عليه من حوله في شتى النواحي , ففي عام "1916"م  اشترى أراض ليزرعها تفاحاً أمريكياً طوره الأخوان ستارك من لويزيانا بالولايات المتحدة حيث ناسبت تلك السلالة الجديدة مناخ ولاية هيماتشال براديش الهندية وازدهرت الزراعة بشكل كبير , ونقل بذلك التفاح الأمريكي للهند لأول مرة , وصاحب غناه المادي تقاربه مع الهنود واعتماده عليهم في الزراعة , بل واعتناقه الهندوسية واطلق على نفسه اسم " ساتيانادانا "  و واقناع زوجته الهندية المسيحية باعتناق الهندوسية , وقد اصبح عضوا في الكونجرس الوطني الهندي , وتعاون مع الهنود في مقاومتهم للاستعمار البريطاني ودخل السجن لذلك , ودافع عنه المهاتما غاندي , ثم عانى من المرض لأعوام حتى توفي عام 1946 م , قبل أن يرى استقلال الهند . وقد رحل الانجليز , وبقيت مزرعة ستوكس للتفاح عامرة بأجيال من عائلة ستوكس , وأصبحت ولاية هيماتشال براديش الواقعة في أقصى الشمال من أهم محاصيلها التفاح الذي غير في شكل الحياة الاقتصادية لتلك الولاية .

 

السبت، 7 نوفمبر 2020

المسجد الجامع

 

بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليثرب , بدأ في تأسيس مجتمع جديد انهي فيه الخصومة بين قبيلتي الأوس والخزرج , وآخى فيه بين المهاجرين والأنصار , ووضع الصحيفة التي تعتبر دستور المدينة نظم فيها كل الأمور الاقتصادية و الاجتماعية لساكني يثرب , ثم شرع الجهاد ليمنح الكيان السياسي لدولة المدينة , ومعظم تلك القرارات المصيرية كانت تتخذ من مكان كان يجتمع فيه المسلمون , ألا وهو المسجد .

   وكان رسول صلى الله عليه وسلم قد ابتاع مربداً – المربد : موقف الجمال ومحبسها – من صاحبيه غلامين يتيمين يدعيا  سهيل وسهل من بني مالك بن النجار وكانا في حماية أسعد بن زرارة ثم شرع في بناء المسجد , حيث كان جداراً مبطناً غير مسقوف , وحددت القبلة على بيت المقدس , و كان أسعد بن زرارة هو من بناه وكان يصلي فيه بأصحابه , ويجتمع بهم كل جمعة وذلك قبل مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد اختير هذا المكان ليكون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, عندما بركت فيه ناقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, فدعا رسول صلى الله عليه وسلم الغلامين ليبتاع منهما المربد , فرفضا و أرادا وهبه لرسول صلى الله عليه وسلم, فأبى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وابتاعه منهما بعشرة دنانير , فعدل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون مهيئا لجمع المسلمين للصلاة وللمشاورة معهم في دينهم ودنياهم , فأمر بقطع نخيله وغرقده – الغرقد هو شجر من الفصيلة الباذنجانية ذو ثمار تؤكل وفروع شائكة – و كان في ذلك المربد قبور منذ لأيام الجاهلية , فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بنبشها , و غيبت العظام ,  و كان فى المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب -المستنجل ممشى ماء المطر-وسويت الخرب , وحفر أساس المسجد على ثلاثة أذرع , ورفعت جدرانه بالطوب اللبن – الطوب الذي لم يحرق بالنار - , واختلف الباحثون و المستشرقون في مساحته , إلا أن الباحث الأثري الأستاذ الدكتور أحمد فكري , بعد دراسات دقيقة للروايات رأى أن المسجد عرضه 63  ذراعاً , و70 ذراعاً في الطول . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل حجارته بنفسه ويعاونه أصحابه على ذلك .

فكان يقول أثناء العمل : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة .

وفي البداية كان المسجد عبارة عن ساحة فسيحة , فشكا المسلمون من تعرضهم لحرارة الشمس فيها , فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم ظلة , استخدم فيها جذوع النخل كأعمدة للقبلة المسقوفة , وأصبح للظلة ست , فكانت الأعمدة ثلاثة إلى يمين المنبر , وثلاثة إلى يساره , ثم طرحت على أعمدة النخيل , عوارض النخل والعروش والجريد , وبنى بجوار المسجد بيوتاً بالطوب اللبن , أسقفها من النخل والجريد , وأقام للسيدة عائشة بيتاً يفتح يؤدي بابه إلى  المسجد , وكان المسجد له ثلاثة أبواب : باب في مؤخره , و باب الرحمة أو باب عاتكة , وباب كان يدخل منه الرسول صلى الله عليه وسلم أمام باب عائشة , وكانت قبلة المسجد ناحية بيت المقدس , بعد أن كان يترك للمسلمين حرية اختيار قبلتهم , لأن " لله المشرق والمغرب , فأينما تولوا فثم وجه الله أن الله واسع عليم " سورة البقرة آية 115 . وكان بيوت أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لها أبواب نافذة إليه , وكانوا تسع بيوت مبية باللبن , لها حجرات من جريد مطرور بالطين , أسقفها منخفضة , مقسمة شرق المسجد وشماله , أضيفت كلها للمسجد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم, نزلت الآية الكريمة " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها , فول وجهك شطر المسجد الحرام " سورة البقرة , آية 144 . وذلك في العام الثاني من الهجرة , فعدلت القبلة من الشمال للجنوب وبالتالي أقيمت ظلة جديدة في الجانب القبلي للمسجد , فأصبح له ظلتان , وسمي بذي القبلتين . واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الظلة القديمة بيتاً لأهل الصفة وهم الفقراء من الصحابة لا منازل لهم ولا عشيرة , كانوا ينامون في المسجد , ويظلون فيه , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بعضهم للعشاء معه ,  ويوزع الآخرين على الصحابة . وكان مابين الظلتين رحبة واسعة , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب مستنداً إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي , ثم صنع مولى العباس بن عبد المطلب ويدعى "كلاباً "منبراً من درجتين ومقعد , وضع موضع القبلة . ولم يكن هناك مئذنة للمسجد , حيث كان المسلمون يذهبون للصلاة بلا نداء , وطلب بعضهم أن ينادي في المسلمين ببوقاً مثل اليهود , ونادى البعض أن ينادى في المسلمين بالجرس مثل النصارى , واستقر الأمر على أن ينادى بلال بن رباح المسلمون بالصلاة , فكان يذهب إلى دار حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج الرسول ويرتقي أعتاب فيها ويؤذن عليها " .

   وبعد بناء المسجد بسبع سنوات ضاق المسجد بالمصلين , فاشترى الرسول صلى الله عليه وسلم أرضا من الأنصار زادت من مساحة المسجد الشرقية والغربية والشمالية , فجدد سقف المسجد . وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه , جددت جذوع النخيل لتآكل القديمة , وزاد عليها الجريد , ثم تخربت في عهد عثمان بن عفان فبناها بالآجر – الطين الموضوع في قوالب والمجفف في الشمس - .

    وإذا كان أبا بكر الصديق لم يزد في المسجد شيئاً , فإن في سنة 17 هجرية زاد فيه عمر بن الخطاب , وبناه على مثل بنائه الأول  باللبن والجريد وجعل عمده خشباً , وفي سنة 29 هجرية زاد عثمان بن عفان مساحة المسجد , بل بنى جداره بالحجارة المنقوشة والجص – الجبس - , وكانت أعمدته من الحجارة المنقوشة وسقفه بالساج – خشب من شجر الساج يقاوم التآكل والمياه - , ثم كان هناك بعض التغيير في عهد مروان بن الحكم رابع حكام الدولة الأموية  الذي أمر بوجود مقصورة من الحجر المنقوش , ثم زيد في المسجد في عهد  الوليد بن عبد الملك عام 88 هجرية , وأشرف على ذلك والي المدينة وقتها عمر بن عبد العزيز , فبعث الوليد بالمال والفسيفساء و الرخام , وثمانين صانعاً من الروم والقبط من أهل الشام ومصر . وظل الحال على ذلك حتى زاد فيه الخليفة العباسي المهدي عام 162هجرية , ثم رممه الخليفة المتوكل على الله سنة 247 هجرية . ثم توالى عليه سلاطين مصر المملوكية بالتجديد والترميم فقد أحدثت ترميمات وتجديدات عام 655 هجرية عللى عهد السلطان المنصور علي , وايضا في عهد السلطان الملك الناصر  محمد بن السلطان المنصور قلاوون عام 705 هجرية وايضا في عهد السلطان قايتباي , وكذلك سلاطين الدولة العثمانية ونذكر منهم تجديدات وتوسعات السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد الاول . ليترك كل هؤلاء بصمة فنية ومعمارية تعكس ثقافاتهم وخلفياتهم الحضارية .

    و إذا تأملنا مسجد الرسول نجده يتميز بالبساطة عاكساً تعاليم الدين الاسلامي , فنظام النسب فيه يقوم على أساس انساني هو الوضع الأفقي في نظام يتسق ونظرية المساواة في المجتمع الاسلامي , بعيداً عن أي طبقية  وتقسيم فئوي . فكان هذا التخطيط الأساس لسائر العمائر الاسلامية المتأخرة كالمدارس و الخوانق والقصور و الوكالات و الفنادق . وقد أصبح المسجد أساساً للتنظيم العمراني للمدينة الاسلامية , حيث تلتف حوله بقية المراكز العمرانية , فقد كان هو النواة في دولة المدينة المنورة فكان مركزاً للصلاة ودار للندوة , وفيه كان يتشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في كل شؤونهم وعلاقاتهم بمن يحيطونهم , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل وفود العرب فيه فكان  القادمون للمدينة يعقدون رواحلهم في فنائه ويقابلون الرسول صلى الله عليه وسلم في السقيفة , وكان تعقد ألوية المسلمين للخروج سواء للاستطلاع أو الغزو . وفيه كان يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين دينهم , وهم بدورهم يعلمونه لوفود العرب , وظل للمسجد وظيفة المدرسة لوقت طويل , وكان يقيم فيه فقراء المسلمين من أهل الصفة , وفيه كان يجتمع الرسول وصحابته يتحادثون ويتناشدون الأشعار .

 

في صحيح البخاري عن  أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا"

وورد في صحيح مسلم , عن أبي هريرة رضي الله عنه , أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفيه الروضة المباركة ، حيث ورد في صحيح البخاري  , أن الرسول الله عليه وسلم قال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   رزقكم الله وإيانا بشرف زيارته .

 

  


الجمعة، 30 أكتوبر 2020

زرياب . أستاذ الموسيقى وفن الحياة



  هو أبو الحسن علي بن نافع المعروف بزرياب . وزرياب كلمة فارسية تطلق على طائر أسود اللون حسن التغريد , وكان ذلك ينطبق على زرياب , أما كونه طائراً يهجر عشه الأثير , فيطير لأماكن أخرى ناقلاً معه أي شيء يقدرعلى حمله فذلك ماحدث له بالضبط . حيث كان مغنياً وموسيقياً بارعاً يعيش في بغداد ثم هاجر للغرب  , ولابد أن نتوقف ونوضح من هي بغداد في ذلك الوقت .

   بغداد هي أغني و أرقى عواصم العالم وقتها كانت عاصمة الخلافة العباسية التي قضت على الخلافة الأموية بشكل دموي , وتم تأسيسها عام 762م  . فسكنها مختلف الأجناس من الفرس و الروم والصينيون و الهنود , ونقلوا علومهم ومظاهر حضارتهم وثقافتهم وفنونهم , كما كانت بغداد مركزاً للترجمة لما تركه الفرس والهنود والسريان والاغريق والمصريون , وكذلك ازدهرت فيها صناعة الورق ونسخ الكتب وتجليدها لتوثق تلك المعارف قديمها وحديثها , وقد بنيت بها القصور و المباني الجميلة و الشوارع النظيفة وغيرها من مظاهر الحياة الراقية , والتي نشأ فيها زرياب , وكان تلميذاً للمغني العراقي الكبير اسحاق الموصلي , وقد حدث أن غنى زرياب أمام هارون الرشيد فأعجب الخليفة بفنه , فحقد عليه اسحاق الموصلي وعمل على اقصائه , فخيره بين الرحيل عن بغداد , والبقاء فيها عرضة لإيذائه , فاختار زرياب الرحيل غرباً , فلما وصل لافريقية اتصل بصاحبها زيادة الله بن الأغلب , لكنه لم يطب له المقام , فرحل للمغرب وكتب للأمير الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس , فرحب به و أرسل له المغني منصور اليهودي ليصحبه للأندلس , وهنا لنا وقفة أخرى لنتساءل لما اختار زرياب الأمير الأندلسي الحكم ليتواصل معه ؟

  فالحكم بن هشام كان شاعراً, يحب مجالس الغناء , و كان ينظم الشعر ويقترح على جواريه غناءه , وقد هاجر إليه اثنان من مغني المشرق هما علون وزرقون , وكان في بلاط قصره أيضاً المغني منصور اليهودي , وكان له ابن يدعى المغيرة يشاركه حب الغناء . وذلك لم يكن غريباً على الأمراء الأمويين في الأندلس فقد كان جده عبد الرحمن الداخل يحب الغناء , وكان يشتري الجواري المدنيات – كانت المدينة المنورة وقتها مركزاً هاماً لتعليم الجواري الموسيقى والغناء من المشرق والمغرب على حد سواء– فكانت له جواري بلغن مكانة كبيرة من الفن ذكر التاريخ منهن فضل وكانت جارية لابنة هارون الرشيد , علم , العجفاء , قلم الأندلسية , و قد أسس لهن عبد الرحمن الداخل داراً عرفت بدار المدنيات لأن أغلبهن تعلمن هناك , فكان من الطبيعي أن يرى زرياب في  هذا المناخ المناسب له , اضافة إلى رغد العيش في الأندلس , وبعدها عن سلطة  الدولة العباسية التي قد يطوله الأذى على أراضيها من استاذه اسحق الموصلي .

  وبمجرد أن وصل زرياب للشاطئ الأندلسي حتى وصلت الأنباء بوفاة الحكم , فأراد العودة للمغرب , إلا أن المغني منصور , أراد أن يقدم للأمير الجديد عبد الرحمن الأوسط هدية يوطد بها علاقته معه , فأرسل سريعاً  لعبد الرحمن يخبره بما عزم عليه زرياب , فرد عليه الأمير سريعاً باستبقاء زرياب وطلب حضوره لقرطبة , بل وأمر عماله على مختلف  المدن في الطريق بحسن استقبال زرياب , وعندما وصل قرطبة استقبله الأمير بنفسه في احتفال , و أنزله داراً من أفضل الدور , بها كل مايحتاج إليه , وكان هذا بداية سعد على زرياب حيث استقبله الأمير عبد الرحمن بعد ثلاثة أيام في قصره , و أقر له مائتي دينار كراتباً شهرياً  , وعشرون ديناراً شهرياً لأولاده الذين أتوا معه , وكانوا أربعة " عبد الرحمن ,و جعفر , و عبيد الله , ويحي . ولكل عام له ثلاثة آلاف دينار , منها لكل عيد ألف دينار , ولكل مهرجان ونيروز خمسمائة دينار , و أن يكون له من الطعام العام ثلاثمائة ثلثاها شعير وثلثها قمح , وأعطاه من الدور والضياع مايقدر بأربعين ألف دينار .

   وإذا كان الأمير عبد الرحمن الأوسط , لم يبخل على زرياب في العطايا فقد تشبه بالخلفاء العباسيين في السخاء بالعطاء على واحد من أهل الفن , حيث أعجب بهم أيضا في ملابسهم ومظهرهم وفي احتجابهم عن الرعية لكسب الهيبة .

  وقد انطلق زرياب ليبدع في الأندلس , فقد علم الأندلسيين طرقاً جديدة في الموسيقى من حيث كيفية بداية الغناء وانهائه , واضاف مقامات موسيقية جديدة حيث أدخل السلم الخماسي المعروف لأهل النوبة , وعلمهم أن يستخدموا قوادم النسر بدلا من الخشب في الضرب على العود ليساعد على نقاء الصوت وسلامة الوتر , بل واضاف وتراً خامساً في العود في الوسط . واخترع الموشحات التي اشتهرت في الاندلس , وقد أنشأ مدرسة لتعليم أصول الغناء بدأها بابنائه  وبناته وجواريه  حيث كان ابنه عبيد الله أفضلهم يليه عبد الرحمن , وكانت بنته حمدونة أفضل بناته في الفن ,و أفضل جواريه كانت تسمى متعة وقد أهداها بعد ذلك للأمير عبد الرحمن ,  وقد تتلمذ في تلك المدرسة الكثير ممن نشروا الفن في الأندلس .

  ومثلما نقل زرياب فنون الشرق وطورها , وعلمها لأهل الأندلس , فقد نقل ايضا لهم فنون الحياة ورغد العيش , فربما كانت معيشتهم  ميسرة ولكنها لم تكن راقية كالشرق , فليس كل غنياً استطاع التمتع بكل مايملك , فغير كل هذا زرياب , وعلم أهل قرطبة , أن ليس كل ملبس غال راق , بل أن الملبس الراق الجميل هو من يناسب الوقت , والمناسبة المخصصة له . فحث الناس على تغيير الملابس لتكون مناسبة لفصول السنة المختلفة , فعلم الناس لبس الأبيض من شهر يونيه إلى أول أكتوبر , ثم يليها ثلاثة أشهر يلبسون فيها الملابس الملونة , وجعلهم يلبسون في الربيع ملابس لا بطائن لها , وفي آخر الصيف وأول الخريف يلبسون ملابس ملونة خفيفة ذات حشو وبطائن كثيفة , وإذا اشتد البرد زادوا من تحت تلك الملابس بالفراء .

   وايضا كان لزرياب الأثر الحميد في طعام وشراب أهل الأندلس  , فربما تكون المائدة عامرة بالطعام الشهي وقد يرغب عنه الناس لسوء التقديم , فعلم الناس طريقة التسلسل المنظم في تقديم الأطعمة , فالبداية تكون بأطباق الشوربة والأطعمة التي تقدم ساخنة , ثم أطباق اللحوم والطيور المتبلة بالبهارات , وأخيرا أطباق الحلوي وعلمهم نوع من الحلويات يسمى "التفايا" وهو نوع من الفطائر المصنوعة من الجوز واللوز والعسل يشبه القطائف , و أيضا المعجنات المحشوة بالفستق والبندق والمعقودة بالفواكه المعطرة وقد سميت على اسمه "زريابيه " ثم حرفت إلى زلابيه التي نعرفها الآن  , وقد أدخل على المطبخ الأندلسي بقلية الهليون التي لم تكن معروفة هناك , ولم يقتصر تأثيره على الأطباق المقدمة بل امتد للمظهر العام لمائدة الطعام , فاختار غطاء المائدة من الجلد الرقيق بدلا من الغطاء المصنوع من القطن أو الكتان لأن الجلد أسهل في التنظيف , و أشاع بين الناس استخدام أواني الزجاج الرقيق بدلاً من أواني الذهب والفضة التي كانوا يتباهون بها , دون أن يفطنوا أن الزجاج لا ضرر منه على صحتهم , وترك الذهب والفضة لأصص الأزهار – إذا أرادوا من هذا زيادة في الجمال والرفاهية ومتعة للعين _ وعلم أهل الأندلس وضع المناديل على المائدة لمختلف الأغراض فذلك لليدين وتلك للفم , وذلك للجبهة و تلك للعنق , وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا.

   وذلك الرجل الذي نقل للأندلس فن الذوق العام أو مايسمونه الآن بالاتيكيت , كان هو مثالاً على ذلك فكان أنيقاً في  ملابسه و كلامه وطعامه وشرابه . أقبل الناس على ابتكاراته في كل نواحي حياتهم , حتى أنه من أدخل الشطرنج  للأندلس ومن بعدها انتقل لأوروبا .

   وفوق كل هذا بهر أهل الأندلس بموسوعيته , فقد كان واسع الثقافة , يقرأ الآداب , وعالماً بالنجوم , وعلم الجغرافيا من تقويم البلدان ومناخها وطبائع أهلها وتشعب بحارها وتصنيف شعوبها .

  وكان منطقياً أن يثير حسد المقربين من الأمير عبد الرحمن , فعارضه بعض العلماء والوزراء , بحجة عدم الاطمئنان لتلك البدع الشرقية القادمة من العراق , ومثال لهؤلاء : العالم والأديب والشاعر تمام بن علقمة , والشاعر يحيي الغزال فاضطر الأمير عبد الرحمن للتدخل وحماية زرياب , فنهر تمام بن علقمة , ونفي يحيي الغزال وصالح بين زرياب والوزراء . وقد فعل الأمير عبد الرحمن هذا لأنه رأى  زرياباً  علامة من علامات التقدم والازدهار في عصره , وليشهد التاريخ بأنه كان راعياً لمظاهر الحضارة الراقية ولو كانت قادمة من عند العباسيين الذين فتكوا بأجداده الأمويين .

  وقد توفي زرياب في " 852 ميلادية – 238 هجريه " قبيل وفاة الأمير عبد الرحمن الأوسط .