التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الأحد، 31 يوليو 2022

لعنة تيتانيك

   

السفينة أر إم إس تيتانيك 

 عندما جاء العقد الثاني من القرن العشرين كانت شركة "وايت ستار لاين " التي تتبع المملكة المتحدة من أكبر شركات الملاحة العالمية وكانت تملك السفن عابرة المحيطات لاسيما الجوهرة النفيسة " أر إم إس تيتانيك " أكبر سفينة وقتها "الوزن52,310 طن - الطول   269.1 متر – العرض 28متر -عمق الماء10.5 متر-الارتفاع    53.3 متر"  والتي غرقت يوم 14 أبريل 1912م بعد رحلة دامت أربعة أيام ونجا منها 706 شخص من أصل 2223 شخص . 

    و كانت شركة " وايت ستار لاين  " قد صنعت من قبل أكبر سفينة في العالم حتى جاءت "تيتانيك" وانتزعت منها اللقب وكانت تسمى "أر إم إس أوليمبيك " الوزن 52.310 طن  - الطول      269.00متر- العرض 28.1متر  - الارتفاع    53.3 متر" والتي صنعت عام 1911م وكانت كبيرة الشبه بتيتانيك حتى كانت تسمى توأمها , وفي 20 سبتمبر 1911م كانت "أوليمبيك " تسير بسرعة بجوار الطراد البريطاني " إتش إم إس هوك " عبر مضيق "سولنت " الانجليزي , فاتجهت "أوليميبك " ناحية اليمين فجأة متخذة نصف قطر واسع ولم يقدر "هوك " على مفاداتها , حيث كان تصميم قوس "هوك " كطراد يعطي لها ميزة إغراق السفن عن طريق صدمها , فاصطدمت بجانب "أوليمبيك "الأيمن بالقرب من المؤخرة , فأدى ذلك لفيضان داخل "أوليمبيك" فوق وتحت خط الماء , وفيضان في اثنين من  مقصوراتها المانعة لتسرب الماء, ولكن "أوليمبيك " صمدت وعادت لميناء "ساوثهامبتون " الانجليزي . دون أي خسارة في الأرواح أو اصابات بجروح جسيمة , أما "هوك" فتعرض قوسها لأضرار جسيمة وكادت أن تنقلب .  وبعد  اصلاحها ,عادت للعمل ثم أغرقتها الغواصة الألمانية "إس أم يو 9"  في أكتوبر" 1914"م  .

تيتانيك تحت الانشاء على اليمين بجانب أوليمبيك على اليسار 


  وكان قائد "أوليمبيك " القبطان "إداوارد سميث " قائد "تيتانيك " بعد ذلك وكان ينوي التقاعد بعد انتهاء رحلة تايتانيك الأولى ولكنه غرق معها . وكان هناك ايضاً اثنان من أفراد الطاقم وبالتبعية يعملا في شركة "وايت ستار لاين " وهما الممرضة "فيوليت جيسوب " والوقاد "آرثر جون بريست " وقد خرجا أحياء من حادث "أوليميبك " لينتقلا إلى "تيتانيك " وينقذا مرة أخرى منها ثم إلى "بريتانيك " ليخرجا منها بسلام .


 

الكابتن ادوارد سميث 

 

         الممرضة فيوليت جيسوب

 

         آرثر جون بريست 

 



وبعد غرق "تيتانيك " رجعت "أوليمبيك " للقبها السابق كأكبر سفينة في العالم حتى عام 1913م , ثم استخدمتها بريطانيا كسفينة حربية خلال الحرب العالمية الأولى "1914-1918"م , ثم عادت كسفينة مدنية حتى لم تعد مكاسبها كما كانت وقت الكساد العظيم والذي بدأ عام "1929"م ثم  انتهى الأمر ببيعها كخردة عام "1935" م . بل أن شركة "وايت ستار لاين " نفسها قد تم تصفيتها عام "1934 "م . وقد اشترطت بريطانيا تقديم المساعدة لها وكذلك لمنافستها "كونارد لاين " إذا مااندمجوا ككيان واحد , وبالفعل تم هذا , حتى عام 1949م , حتى اشترت "كونارد لاين " " وايت ستار لاين " واختفى اسم الأخيرة تدريجياً تماماً من على جميع السفن .

كونارد وايت ستار لاين 


   وتعد شركة " وايت ستار لاين "  مزيج من التصميم والاصرار وسوء الحظ فبعد غرق "تيتانيك " أرادت صنع سفينة كبيرة كعادتها فكانت ثالث أكبر سفينة للشركة وهي "إتش إم إتش إس بريتانيك" "الطول269.06 متر  - العرض    28.65 متر -الارتفاع   18.4 متر"  لتبدأ الخدمة عام "1914" م . إلا أن البحرية البريطانية صادرتها في الحرب العالمية الأولى وحولتها إلى مستشفى عائم. وفي "21 نوفمبر 1916" م غرقت السفينة في أقل من ساعة، و لم يحدد سبب غرقها ، ثم تم الكشف بعد ذلك أن الألغام الألمانية قد زرعت في قناة "كيا" ببحر إيجه على سواحل اليونان , وقد بلغ عدد الوفيات 30 شخصا ومن ضمنهم لواء في الجيش الألماني حيث استطاع معظم من كانوا على السفينة الهروب على متن 35 قارب نجاة .


              السفينة بريتانيك 

 

               حطام بريتانيك 

  

     وإذا عدنا بالأحداث لغرق "تيتانيك " نجد أنه لم يكن مفاجئاً فقد كانت هناك سفينة بريطانية تدعى "إس إس كاليفورنيان " تبعد عن "تيتانيك " ببضعة أميال , وقد حذرتها عن طريق الراديو من كتل الجليد , وارسلوا هذا لعامل اللاسلكي " جاك فيليبس " والذي نهرهم بحجة أنه يرسل رسائل الركاب , وفي الوقت نفسه توقفت "إس إس كاليفورنيان " في الليل , لحماية نفسها , حيث علقت في حقل جليدي , إلا أنها تلقت اشارات الاستغاثة من "تيتانيك " متأخراً , ثم لاحظت اختفاء الأضواء التي كانت تنبعث منها  , وفي الفجر أرسل الرئيس التنفيذي للشركة , رسالة لاسلكية بغرق "تيتانيك " , فاتجهت "كاليفورنيان "  إلى "تيتانيك " لمساعدتها , لتجد أن سفينة "كارباثيا " قد انتشلت جميع الناجين . وقد ألقى اللوم على سفينة " إس إس كاليفورنيان " في عدم نجدة "تيتانيك " من البداية ولكن لم يكن ذلك بشكل رسمي , ولكن يبدو أن لعنة تيتانيك قد أدركت تلك السفينة فكان عمرها قصيرا فإذا كانت  أولى رحلاتها عام 1901م , فقد أدركت نفس مصير "تيتانيك " و  غرقت بواسطة  الغواصات الألمانية " SM  U-34  " و "U-35 " ، في شرق البحر الأبيض المتوسط بالقرب من سواحل اليونان في9 نوفمبر 1915م ​​خلال الحرب العالمية الأولى .

.

 

          ضابط اللاسلكي جاك فيليبس 

 

                       السفينة كاليفورنيان 

 

  و في ليلة 14 أبريل وبعد ساعتين من غرق تيتانيك , أرسلت العناية الإلهية لمن كان في البحر من ركابها سفينة" آر إم إس كارباثيا" والتي كانت ملكاً لشركة "كونارد لاين " و قبطانها "آرثر هنري روسترون " حيث أخذ قرار شجاع فبعد تلقيه نداءات الاستغاثة من "تيتانيك " غير مساره وتوجه إلى احداثياتها وجعل محركات السفينة تعمل بأقصى طاقتها وأمر الطباخين بإعداد وجبات غذائية ساخنة لتقديمها للناجين , وقد مر بمساحات كبيرة من الحقول الجليدية الخطرة  , وقد تمكنت السفينة من انقاذ 706 ناجياً ممن كانوا على قوارب النجاة . وتسلم قبطانها جائزة في مايو 1912 م بسبب مساعدته لركاب "تيتانيك " . ولتلك السفينة تاريخ قصير حافل فكانت أول رحلاتها عام "1903" م من ليفربول لبوسطن وانتهت مسيرتها غرقاً – وكأن مصير تيتانيك قد قفز إليها - وتوفي خمسة من طاقمها , بطوربيد من الغواصة الألمانية " إس إم يو-55 " في يوليو "1918" م . وذلك قبالة السواحل الأيرلندية حيث كان الألمان يحيطون بحار المملكة المتحدة بغواصاتهم .

 

                  السفينة كارباثيا 

 

            حطام كارباثيا

   ويبدو أن غرق تيتانيك قد خلد في ذاكرة التاريخ وغطي عما سواها حتى لو كانت تلك السفينة قد غرقت بعدها بثلاث سنوات فقط وكانت ايضاً تابعة للمملكة المتحدة وكانت كذلك خط سيرها من المملكة المتحدة للولايات المتحدة "ليفربول – نيويورك " . وكانت أعداد قتلاها قد قارب تيتانيك وكان منهم العديد من الأطفال بل أن تلك الحادثة قد أججت لهب الحرب العالمية الأولى , وجذبت أطراف جديدة للمعركة , وكانت تلك السفينة هي "آر إم إس لوسيتانيا" وقد غرقت يوم الجمعة "7 مايو 1915"م , وكانت مثل تيتانيك دولتها المملكة المتحدة – تيتانيك انجليزية ولوسيتانيا ايرلندية – وكانت ملكاً لشركة "كونارد لاين " التي يبدو أن لعنة تيتانيك قد أصابتها , بل أن شركة "وايت ستار لاين قد صنعت "تيتانيك " لتنافس شركة "كونارد لاين في أفضل سفنها " آر إم إس لوسيتانيا " و "آر إم إس موريتانيا" ولم يقف بجانب شركة " وايت ستار لاين " في انقاذ الفارين من "تيتانيك " غير شركة " كونارد لاين " .

 

السفينة لوسيتانيا 


 صورة تخيلية لغرق لوسيتانيا 



   و يبدو أن "لوسيتانيا "  كانت بيدقاً في حرب المملكة المتحدة ضد ألمانيا , فمنذ البداية دفعت الحكومة البريطانية تكاليف بناء وتشغيل السفينة لمالكتها شركة "كونارد لاين "لجعلها سفينة سفينة تجارية حربية إذا دعت الحاجة حيث بدأ تشغيلها عام 1906م , لذلك كانت هدفاً للغواصة الألمانية يو- بوت يو- 20 التي دافعت عن بلادها ضد الحصار البحري الذي نفذته المملكة المتحدة , ولم تكن  "آر إم إس لوسيتانيا " الهدف الوحيد للغواصات الألمانية , ولكنها كانت الغنيمة الأكبر , وعلى الرغم من أنها لم تكن مجهزة لدخول المعارك إلا أنها كانت تحمل أكثر من أربعة مليون طلقة ذخيرة للأسلحة الصغيرة  , و حوالي خمسة مليون طن من قذائف شظايا و الكثير من الفتائل النحاسية المفرقعة ونزد عليهم 1266 راكب و696 من أفراد الطاقم بالإضافة لطاقم سفينة "إس إس كاميرونيا " التي تم الاستيلاء عليها بوقت قصير قبل موعد الانطلاق,  كل ذلك استهدف من الغواصة الألمانية وغرق في 18 دقيقة , على بعد 11 ميلا أمام "أولد هيد أوف كنسل " بأيرلندا , ونتج عن ذلك مقتل 1198 شخص ونجاة 761 شخص , وقد أنكرت المملكة المتحدة حمولة السفينة من الأسلحة , كما بررت ألمانيا مشروعية استهداف السفينة بإعتبارها سفينة حربية – كان لألمانيا أربع جواسيس على متن السفينة من بينهم بريطاني عميل للألمان للتأكد من حمولة السفينة – وذلك في رحلة الذهاب وقد تم القبض عليهم بداخل السفينة ثم نزلوا من منها , الطريف أن السفارة الألمانية نشرت إعلانات تحذير للركاب في 50 صيحفة أمريكية ومنها بالطبع صحف نيويورك من السفر على "لوسيتانيا " لأنه يعرضون أنفسهم لخطر الغواصات الألمانية التي تستهدف سفن الحلفاء التي تقترب من البحار المحيطة للمملكة المتحدة . وبرغم أن الجدل مستمر حتى يومنا هذه في ملابسات ماحدث , ولايزال حتى الآن ينتشل من السفينة الذخيرة البريطانية ,  إلا أن المملكة المتحدة نجحت في استثماره وقلب الرأي العام في العديد من الدول , بل أن الولايات المتحدة دخلت الحرب بجانبها , لإيقاف الوحش الألماني الذي لايفرق بين الأهداف المدنية والعسكرية .

التحذير الرسمي الصادر عن السفارة الألمانية بشأن السفر على لوسيتينيا.


  جدير بالذكر أن الشركة المنكوبة "كونارد لاين " قد عوضت خسارتها واستطاعت أن تعود كما كانت فهي صاحبة تاريخ عريق فهي لها أول رحلات عبور منتظمة للمحيط الاطلنطي بسفينتها  "أر إم إس بريطانيا" عام " 1840" م , وكان لها أول سفينة ركاب بها اضاءة إلكترونية إلكترونية "اس اس سارفيا" عام  "1881"م  , وأول مركز صحي وجمنازيوم على متن سفينة "أر إم إس فرنكونيا "1911" م , وفي عام 1907م كانت صاحبةأكبر سفينة ركاب حتى 1911م , ثم استعادت ذلك في عام  1940م بسفينة "أر إم إس كوين اليزابيث " أكبر سفينة ركاب حتى "1969" م , وفي عام 2004 م كان صاحبة أكبر  سفينة  ركاب "أر إم إس كوين ماري 2 " حتى عام 2006م ولاتزال تلك السفينة من أشهر السفن السياحية في العالم .


إم إس كوين ماري 2

   وعودة إلى "تيتانيك " تحديداً ليلة غرقها في في الساعة 11:40 مساءً (بتوقيت السفينة) ، اكتشف المراقب "فريدريك فليت" جبلًا جليديًا على الفور فنبه المسئولين . وأمر الضابط الأول ويليام مردوخ بتوجيه السفينة حول الجبل الجليدي وعكس المحركات ،  ولكن بعد فوات الأوان , فغرق " ميردوخ " واستطاع "فليت " من أن يستقل قارباً ومعه عدد من الركاب , وقد مر "فليت " بتحقيقات طويلة من الجانبين البريطاني والاميركي كغيره ممن نجوا من طاقم "تيتانيك " , وقد انتقل للعمل بتوأم "تيتانيك " " أوليمبيك " حتى أغسطس 1912م . وقد تركها لأنه لم يلق معاملة جيدة من شركة "وايت ستار " هو وكل من نجوا من طاقم "تيتانيك " , وانتقل بين الشركات التجارية , حتى ترك البحر قبل الحرب العالمية الثانية وعمل بحوض السفن بساوثهامبتون مع شقيق زوجته , وخدم في الحرب العالمية الثانية , تم تأزم مادياً وعمل بائعا للجرائد ,  واستطاعت أن تحفر حادثة "تيتانيك " جرحاً في نفس فليت , حتى وإن عاش بعدها بسنوات طوال وحضر أحداثاً كثيرة وانتهت حياته بالانتحار شنقاً , في حديقة صهره حيث طرده من المنزل , بعد وفاة زوجته بأيام , وكان يبلغ من العمر 77 عاماً وذلك عام 1964م , ودفن بقبر بسيط بدون علامات , حتى تم إقامة نصب للقبر عليه نقش "تيتانيك " على  نفقة جمعية تيتانيك التاريخية عام "1993"م .

فردريك فليت وقبره 

وهناك أسئلة وتكهنات حول السفينة  "تيتانيك " لم تجد تفسيرا حتى الآن , منها أن "تيتانيك " خرجت في رحلتها في وقت كان فيه إضراباً وكانت كميات الفحم قليلة فما كان من شركة "وايت ستار " إلا أن تلغي رحلتي السفينتين " أوشانك " و أدرياتك " وتحويل الفحم إلى "تيتانيك " ومعهم ركاب السفينتين , وبرغم هذه الظروف الصعبة التي كانت تمر بها شركات السفن بشكل عام ألا أن السفينة "كاليفورنيا" قد حصلت على حصتها كاملة من الفحم ثم أبحرت بدون أي ركاب ,  ومنطقياً أن هذه خسارة كبيرة , بل كانت حمولتها البطانيات والملابس الدافئة , وكأن "كاليفورنيان " تستعد لاستقبال ناجين من البحر .

 وأن "أليكساندر كارلايل" ، المخطط الأول لحوض هارلاند آند وولف لبناء السفن والمدير العام له و المسؤول عن البنية الفوقية للسفن الثلاثة، ترك المشروع في عام "1910" م ,  قبل إطلاق السفن.

    وأن هناك شخصيات بارزة ألغت رحلتها على متن " تيتانيك " بدون أسباب معروفة وفي آخر لحظة و منهم "جون بيربونت مورجان " ممول تيتانيك ورجل الأعمال الأميركي ,  متعللاً بسوء حالته الصحية , وايضاً هنري كلاي رجل الصناعة الأميركي , و ثيودور دريزر الكاتب الاميركي , وكذلك" ميلتون إس هيرشي "(المؤسس لشركة هيرشي للشوكلاتة المشهورة متعللاً أن زوجته كانت مريضة في ذلك الوقت. كما اعتذر عن الرحلة لورد "ويليام بيري"  رئيس شركة هارلاند آند ولف لبناء السفن في بلفاست والذي قام ببناء وتصميم السفينة تيتانيك لكنه تخلف عن الرحلة لظروف مرضية مفاجئة وحلّ محله في الرحلة المدير الإداري لشركة " "وايت ستار لاين " و المدير التنفيذي للشركة "توماس أندروز " لمراقبة أي مشاكل وتقييم الأداء العام للسفينة الجديدة.

 

 

              ميلتون إس هيرشي

 

             ثيودور دريزر

 

  ويليام بيري 

 

               توماس أندروز 

 

    وبعد وفاة " أندروز " في "تيتانيك " وكان يبلغ من العمر 39 عاماً ,  وقد وصفه الجميع بالبطولة حيث كان ينقذ الركاب بكل ما أوتي من قوة , وكان يرمي بالكراسي في الماء حتى يستطيع الركاب في التعلق بها , وقد فضل انقاذ الركاب على نفسه , الغريب أن كثيرين من الصفوة ممن ألغوا رحلتهم في آخر لحظة لأسباب مرضية قد نفذوا خططهم في الاستمتاع مع أسرهم برحلات ترفيهية بعد ابحار تيتانيك , والمفروض أن يكون المرض قد جعلهم ملازمين الفراش .

   ونجد أن توأم "تيتانيك " السفينة "أوليمبيك " بعد أن خرجت من الخدمة وتم تفكيكها عام " 1935"م , ذكر العمال أنه كان هناك رقم "401" على الاطار وفي الحقيقة أنه رقم "تيتانيك " ورقم "أوليمبيك " هو "400" .

والمدقق لصور "تيتانيك " اثناء الصناعة يجد أنه في المكان المكتوب عليه "تيتانيك " موجود "14" فتحة على السطح , واثناء ابحارها نجد أن اسمها موجود والسفينة تمتلك "16" فتحة على السطح .


                                   الفرق بين نوافذ تيتانيك و أوليمبيك 
              

والصور المأخوذة من الحطام نجد عدة أحرف "تيتانيك " قد سقطت , وظهرت أحرف "P, M" ويظن أنها من كلمة "Olympic"

                                           النوافذ في حطام تيتانيك تتطابق مع أوليمبيك 

وكل الأمور السابق جعلت نظرية تظهر للوجود ربطت بين "تيتانيك" وتوأمها " أوليمبيك " حيث عندما حدث اصطدام "أوليمبيك " مع السفينة الحربية "هوك" في سبتمبر "1911"م , اضطرت شركة "وايت ستار لاين " لإجراء تصليحات عليها , مما سيكلفها كثيرا في وقت تستعد فيه لإطلاق أكبر سفينة ركاب في العالم "تيتانيك " , فتم تأجل الاطلاق من مارس إلى أبريل , ولكن تكاليف اصلاح "أوليمبيك " كانت كبيرة , فأرادوا إخراج "أوليمبيك" من الخدمة  , ولكنهم لن يستطيعوا الحصول على تعويض من شركة التأمين , فقررت ابدال السفينتين , ثم اغراق "أوليمبيك " وابقاء "تيتانيك " , وأبدلت اللوحات على السفينتين , وغطوا أرضية "أوليمبيك " بالسجاد السميك لإخفاء آثار أقدام آلاف المسافرين , وجعلها كأنها جديدة . وبعد سنوات عديدة ذكر العاملون بالشركة أن الشركة هددتهم بالاستغناء عن خدماتهم إذا ذكروا ماحدث .

كما أن "تيتانيك " جمعت النقيضين , فهي السفينة التي لاتقهر ولاتغرق , عدد ركابها 2201 وعدد قوارب النجاة تكفي فقط لنقل 1100 راكباً .

     وإذا كانت سيناريوهات الغرق موضوعة مسبقاً فمن وضعها ؟

    هناك آراء تتجه إلى رواية ألفها الكاتب الأميركي" مورغان روبرتسون " عام "1898" م اسمها "العبث " , رواية خيالية تدور الرواية حول ضابط في البحرية الأميركية جون رولاند والذي تم فصله من الخدمة العسكرية بعد إدمانه على الكحول ، فيعمل كمساعد على السفينة "تيتان"، وهي عابرة محيطات منتظمة تصطدم في ليلة من ليالي أبريل بجبل جليدي ، فتغرق نتيجة لذلك  ينجو رولاند وينجح في إنقاذ فتاة صغيرة تتّهمه والدتها لاحقاً بخطفها فيتم القبض عليه. لكن القاضي يتعاطف معه ويوبّخ الوالدة لتآمرها على منقذ إبنتها. وبعدها يضطر للعمل كصياد ثم ينتقل  لوظيفة مكتبية، ثم بعد عامين من اجتيازه امتحان الخدمة المدنية ينتقل إلى منصب حكومي مريح، قبل أن يتلقّى في الختام رسالة من الأمّ تهنئه فيها وتناشده زيارتها وابنتها. قد تبدو رواية عادية من روايات "روبرتسون " الذي اهتم بعالم البحار حيث كان والده قبطاناً وعمل معه في البحر .

مورغان روبرتسون
                     

   إلا أن رواية "العبث " تتناول عابرة محيطات ضخمة تشبه في فخامتها "تيتانيك " وحتى اسمها " تيتان " وركابها من صفوة أغنياء العالم , وقد اصطدمت بجبل جليدي في ليلة من ليالي أبريل , على بعد 400كم من جزيرة "نيوفاوندلاند " وغرق كثير من ركابها بسبب قلة قوارب النجاة , وبعد غرق "تيتانيك " صدرت طبعة جديدة من الرواية تحمل اسم "حطام السفينة تيتان" وجعلت حمولة الحجم والسرعة والسعة تتطابق مع "تيتانيك" وطبعاً ضمن هذا زيادة في المبيعات , وقد توفي هذا الكاتب عام " 1915" م , في حجرة بفندق بنيوجيرسي , وكان يبلغ من العمر 53 عاماً , إثر تناول جرعة زائدة من دواء الصرع الذي كان يعاني منه , فهناك من رأى أنه انتحر لاضطلاعه في جريمة غرق "تيتانيك " , ومنهم من رأى أنه قتل حتى لايفضح أصحاب المخطط .

                                 غلاف رواية حطام التيتان     

    ولكن هل من الممكن أن تزهق كل تلك الأرواح من أجل الحصول على مبلغ التعويض من شركة التأمين  و أن تجعل لورد "ويليام بيري"  رئيس شركة هارلاند آند ولف لبناء السفن في بلفاست والذي قام ببناء وتصميم السفينة تيتانيك يزج للموت  المدير الإداري لشركة " "وايت ستار لاين " و المدير التنفيذي للشركة "توماس أندروز " . ليس هذا فقط فهناك رأي آخر يوضح أن المؤامرة كان ممول الرحلة "جون بيربونت مورجان" الملقب بنابليون وول ستريت طرفاً في المؤامرة فنجد أنه غرق في تيتانيك أغني أغنياء العالم وعلى رأسهم الكولونيل "جون جاكوب آستور" و ايضاً "ازيدور ستروس " وزوجته وكان يملك أكبر مجمع تجاري في العالم (ميكيز) , وبنيامين غوغنهايم , وهؤلاء الأمريكيين الثلاثة كانوا معارضين لإنشاء بنك أمريكي مركزي "البنك الاحتياطي الفيدرالي" , بينما كان "مورجان " من المشجعين لذلك البنك , فنجد أنه وبكل بساطة ينسحب في آخر لحظة متعللا بسوء حالته الصحية ويذهب لمنتجع "إيكس ليه باين" الفرنسي , غير عابئاً بالرحلة التي تحدث عنها العالم قبل وبعد ابحارها , بل أنه يتعافى من صدمة غرق أكبر سفينة ورحلة بحرية في العالم ليشارك في انشاء البنك الاحتياطي الفيدرالي عام "1913" م , والذي كان له صدى كبير في رسم الخريطة الاقتصادية للعالم في القرن العشرين .  وسواء كان ذلك صحيحاً أم مجرد مبالغة في الشك , فلربما يؤكد على هذا أو ينفيه مايستجد ما يعثر عليه من وثائق حفظت لدى الشركة أو أخفاها أحدهم أوحتى بقايا منتشلة من السفينة الغارقة , أو ربما يطويها الماضي إلى الأبد . 

 

بنيامين جاجنهايم 

ايزادور استروس 
 

 

             جون جاكوب آستور

 

              جون بيربونت مورجان 

الجمعة، 1 يوليو 2022

من رموز مصر الرياضية

اسحق حلمي 


 سجلت آثار مصر القديمة اهتمام المصريين بالرياضة , وتنظيم المسابقات الرياضية , والتي  انتشرت بين أبناء جميع الطبقات وشجعها الملوك لأهميتها في تهذيب الروح و تقوية الجسد  .

    ثم مرت القرون تلو القرون وبقي اهتمام المصري بالرياضة , فظلت وسيلة ترفيه , وطريقة فعالة لتقوية الأجسام , حتى جاء القرن العشرين الذي برز فيه شكل البطولات العالمية للرياضة – وإن بدأ بعضها منذ نهايات القرن التاسع عشر – وأصبحت موضع اهتمام الدول الغربية الكبرى التي أسستها , وكانت مصر في القرن العشرين دول رائدة على المستوى العربي والافريقي , فكان من ابنائها من اشترك في تلك البطولات ليكون له قصب السبق على المستوى العربي والافريقي , ومنهم من سجل ارقاماً قياسية اتجهت لها أعين الجميع من العالم كله وجعلت مطمح الرياضيين هو تحطيمها , وكانوا مصدراً للفخر لبلدهم .

    ونبدأ بالبطل المصري " اسحق حلمي " (1901- 1980) م , صاحب ألقاب "فرعون النيل" و " عميد السباحين المصريين " و " رائد السباحة المصرية الطويلة " , والده "عبد القادر حلمي " باشا , أحد قادة الجيش المصري , توفي والده وهو طفل , فنشأ في بيئة من الأعيان وكبار الملاك , وكان محباً لكرة القدم والفروسية و السباحة , وكعادة الطبقة الغنية كان مصيف رأس البر مقصداً لهم , وقد حدث في جلسة صيف 1920م , كانت تضم بطلنا "اسحق حلمي " و الملاكم "سيد البشلاوي " و "نجاتي بك أباظة " و "فيليب أوفارل " رئيس تحرير جريدة " اجيبشيان ميل " دار حواراً عن امكانية السباحة من دمياط لرأس البر بمسافة 15 كم تقريباً , فتحمس اسحق حلمي وعبر المسافة في ثلاثة عشر ساعة , وأقيم له احتفالاً شعبياً لاستقباله , فاعتبر حلمي ذلك بداية طيبة , فاراد زيادة المسافة ليسبح من حلوان حتى القاهرة بطول مسافة ٢٥ كم، فحقق ماتمناه , وأصبح حديث الوسط الرياضي , ووصف بالبطل السباح سليل الأسرة العريقة , وقد وصلته رغبة الملك فؤاد الأول بعبور بحر المانش , وكان يملك من الامكانيات المادية مايمكنه من التفرغ للتدريب , فكان في البداية يتدرب في الشواطىء المصرية , ثم سافر على نفقته الخاصة لفرنسا عام 1924م , وقابل السباح برجسون ثاني سباح في العالم يعبر المانش , فتولى اعداد حلمي , فقام بمحاولتين فاشلتين عامي 1924 , 1925م بسبب الأمواج العالية و البرودة الشديدة للمياه , ثم حاول مرة ثالثة عام 1926 م واستطاع الصمود لسبع ساعات ثم خرج من الماء , ليفحصه الأطباء ويكتشفوا اصابته بالبلهارسيا , فيتم علاجه هناك ليشفى منها و يعاود المحاولة للمرة الرابعة عام 1928 م , ويكتب له الفوز  بعد 23 ساعة و 40 دقيقة , فكان بذلك أول مصري وعربي عبر المانش , فأطلق عليه الانجليز لقب "فرعون النيل" , وقد نال نوط الجدارة من الملك فؤاد الأول , وقد ترأس بعثة مصر في سباق كابري عام 1966 م , ونال وسام الاستحقاق من الرئيس محمد أنور السادات , وقد توفي عام 1980 م , بعد أن أصبح ملهماً لغيره من الأبطال في عبور المانش , نذكر منهم حسن عبد الرحيم الذي عبر المانش ثلاث مرات على التوالي "1948, 1949, 1950" م , وفي العام الأخير سجل رقماً قياسياً هو عشر ساعات و 53 دقيقة , وكان يبلغ من العمر 42 عاماً ويعتبر أكبر سباح للمانش وقتها , وكذلك البطل مرعي حسن حماد  والذي عبر المانش عامي 1949, 1951م . وايضاً البطل عبد اللطيف أبو هيف عام 1951م , والأبطال عبد المنعم عبده، ومحمد بكر، وسيد العربي عام 1952م .

جمال عبد الناصر و عبد اللطيف ابو هيف 


   كذلك لدينا بطلاً آخراً وهو سباح القرن "عبد اللطيف أبو هيف " (1929 - 2008) م  الرياضي الشهير , ابن حي" بحري " بالاسكندرية , ويعتبر الأكثر حظاً اعلامياً , حيث كان يظهر في العديد من اللقاءات التليفزيونية يحكي عن تجربته وتاريخه الرياضي , كما تم ذكره في أحد الأفلام الأمريكية للممثلة استير ويليامز عام 1953م , والذي كان يتناول سباق المانش , وكان مجرد مرور البطل المصري بجوار أبطال الفيلم  مبعث للرعب من منافس لا يمكن الفوز في وجوده . وأبو هيف الذي تعلم السباحة منذ طفولته , كان بطلاً على المستوى السكندري والمحلي , وكان البطل اسحق حلمي قدوته , فخاض التجربة وفاز عام 1951م , وقابله الملك "فاروق" الأول عام 1952م , واراد تكريمه مع "حسن عبد الرحيم" و"مرعي حماد " الذين سبقوه في الأعوام السابقة , وطلب منهم تمني مايشاءون وسوف يحقق طلبهم فوراً فطلب "عبد الرحيم و حماد" امتلاك عمارة , والسفر للحج , أما أبو هيف فقد طلب أن يدرس في أكبر أكاديمية عسكرية " بعد حصوله على الثانوية العامة , وخلال أيام سجل باسم بطلينا , عمارتين في فم الخليج , ثم ذهب أبو هيف للدراسة بكلية "سانت هيرست"  العسكرية بلندن , ليزامل في الكلية الملك "حسين " ملك الأردن و الأمير "زيد بن شاكر" قائد القوات الأردنية والأمير دوق كينت ابن عم ملكة إنجلترا وكانت الدراسة لمدة عامين وقبلها ثلاثة أشهر تمهيدي .وقد تخرج منها عام 1956م .

   وعودة لبطولاته الرياضية فقد  حصل على المركز الأول في سباق نهر السين بفرنسا عام 1952م , وقد تبرع بجائزته للبطل الفرنسي "جورج فاليري" بطل العالم في سباق الظهر عقب إصابته بشلل الأطفال , وفي عام 1953م تمكن من عبور المانش مرتين محطماً الرقم القياسي , في عام 1955م حقق المركز الأول في عبور المانش , وتبرع بالجائزة المالية  للسباح الإنجليزي "ماتيوس ويب" الذي غرق في بحر المانش أثناء عبوره له بمفرده دون مركب مرافق , والغريب أن الصحف الانجليزية لم ترحم ذكراه , وأنما اتهمته بعدم المسئولية لأنه ترك أسرته دون عائل . وفاز بالمركز الأول في أطول سباق للسباحة الطويلة حول العالم في عام 1963م، و الذي أستمر لمدة 36ساعة في بحيرة ميتشجان بالولايات المتحدة الأمريكية بمسافة قدرها 135 كيلومتر , وفي استفتاء أجري عام 1963م , فاز بأفضل رياضي في العالم لهذا العام . 

وكان صاحب المركز الأول في العديد من السباقات التي نظمت في الأرجنتين والتي وصل إحداها إلى مسافة 250 كيلومتر بمقدار 60 ساعة سباحة من روساريو إلي بوينوس آيرس . وكذلك الفائز بسباق كابري - نابولي بإيطاليا عام "1966م " . 

    وفي عام 1965 م , بأحد أشهر سباقات التتابع , وهو سباق "مونتريال " - سباق التتابع فيه يتناوب سباحين السباحة كل ساعة – ولكن رفيق " أبو هيف " الايطالي مرض بسبب البرودة الشديدة وأضطر لمغادرة السباق مبكراً فأصر أبو هيف على الاستمرار بالسباحة بمفرده لمدة 29 ساعة ونصف وحصل على المركز الأول، وتقاسم الجائزة المالية مع زميله الايطالي . 

وكان صاحب المركز الأول في العديد من السباقات التي نظمت في الأرجنتين والتي وصل إحداها إلى مسافة 250 كيلومتر بمقدار 60 ساعة سباحة من روساريو إلي بوينوس آيرس . وكذلك الفائز بسباق كابري - نابولي بإيطاليا عام "1966م " , وقد اعتزل السباحة عام 1973م , وعمره خمسة وأربعون عاماً . 

   وفي احدى اللقاءات التليفزيونية كان يحكي بأنه قد تعود على التمرين اليومي لثمان ساعات لسنوات طويلة دون كلل . وقد حصل على لقب سباح القرن العشرين في مايو 2001 وذلك بناء على اختيار الاتحاد الدولي لسباحة المسافات الطويلة له تقديراً لإنجازاته، كما قام الاتحاد الدولي لمحترفي السباحة الطويلة بمنحه لقب أعظم سباح في التاريخ . وقد استاء أبو هيف من عدم اختياره من أفضل رياضي للقرن العشرين واختيار بيليه لذلك اللقب . وقد حصل على وسام الجمهورية وسمي شاطيء شهير على اسمه بالأسكندرية وكذلك شارعاً . وقد أصيب بتليف الكبد وسرطان الجلد وتضخم في الطحال، وأجرى العديد من العمليات الجراحية وقد رفض السفر إلي الخارج للعلاج علي نفقة الدولة وفضل العلاج داخل مصر وأن يموت في بلده عندما يحين أجله , وقد توفي عام 2008م عن 79 عاماً .

   

  وإذا كنا قد بدأنا "باسحاق حلمي " الذي طرق باب العالمية بمحاولات لعبور المانش بداية من عام 1924 م , فإن من فتح الباب على مصراعيه للهمم المصرية , كان بطلنا " السيد نصير " (1905-1979) م .  الذي كان أسطورة أخرى من أساطير الرياضة المصرية .

                                              

السيد نصير 

   و"السيد نصير " هو رباع شهير , من مواليد قرية شوبر مركز طنطا , التحق بمدرسة طنطا ثم مدرسة طنطا الثانوية حيث بدأ ممارسة رياضة رفع الأثقال , فقد شاهد في  مولد "السيد البدوي "ألعاب البطل المصري القديم "عبد الحليم المصري "-صاحب الفضل في نشر لعبة رفع الأثقال في مصر- ، فبدأ عشقه لرياضة رفع الأثقال وكون فريقاً لرفع الأثقال في مدرسته . ثم اشترك عام 1925م في بطولة القطر المصري في وزني الخفيف والثقيل , وفاز بها وظل محتفظاً بهذه البطولة حتى عام 1928م.

   وكان ذلك حافزاً له للاشتراك في دورة الألعاب الأولمبية بأمستردام عام 1928م ، واسند تدريبه للمدرب "محمد بسيوني " .

ففاز بذهبية وزن خفيف الثقيل بمجموعة 355.5 كجم (ضغط 100 كجم - خطف 110 كجم - نطر 147.5 كجم) ليصبح أول مصري وعربي يفوز بميدالية ذهبية في الدورات الأوليمبية.

  وكان ذلك فوزاً على عدة أصعدة مصر حيث لفت نظرالدولة إلى تشجيع هذه الرياضة وتوفير الأندية لممارستها ، وأصبحت رياضة رفع الأثقال رياضة معروفة في مصر. حيث اقنع المدرب "محمد بسيوني " بطلنا "نصير " بالانضمام للنادي الأهلي الذي سيوفر له كل الامكانيات , وكذلك سيكون قدوة لغيره من الشباب لممارسة تلك الرياضة - جدير بالذكر أن ثاني ميدالية ذهبية حصلت عليها مصر في نفس تلك الدورة كان صاحبها المصارع "إبراهيم مصطفى" السكندري (1904 -1968)م وفاز بميدالية ذهبية المصارعة الرومانية وتولى تدريب منتخب مصر القومي للمصارعة, وتوفى وهو يقود منتخب مصر القومي للمصارعة في دورة الألعاب الأوليمبية بالمكسيك عام 1968م , وكان تقليده الذهب في دورة هلسنكي يسبق تقليد "نصير " .

ولم تقف النجاحات عند ذلك حيث  فاز " نصير" ببطولة العالم في رفع الأثقال للوزن الثقيل في ميونخ العام 1930 , وعام 1931م في لوكسمبورج  . وكان "نصير " ملهماً لأمي الشعراء "أحمد شوقي" حيث كان الرياضي الوحيد الذي نظم في مدحه قصيده , وكان مطلعها :

 شرفا نصير ارفع جابينك عاليا     وتلق من أوطـانك الأكـليـلا

 وقد حصل " نصير" على وسام النيل في الأربعينات .

وقد ظل رقم النطر باليدين مسجلا باسمه لمدة 15 عاما وهو 167 كجم ولم يتمكن من انتزاعه منه إلا مواطنه  البطل المصري محمد جعيصه حيث سجل 170.5 كجم عام 1945م .

وتم تعيينه  وكيل وزارة الشباب , وكان مسئولا عن مجموعات الكشافة والمرشدات في تطهير مدينة بورسعيد ابان العدوان الثلاثى 1956م . وحصل على وسام الرياضة من الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1965م.

  وقد توفي "السيد نصير" عام 1974م عن عمر يناهز 69 عاما ، و سميت بطولة دولية تقام في الإسكندرية باسمه وبدأت منذ عام 1977م . 

خضر التوني 

     ومن الأبطال البارزين لدينا الأسطورة "خضر التوني " (1916- 1956)م , ابن القاهرة , من أسرة بسيطة ولكنه كان عاشقاً للرياضة , مارس رياضة رفع الأثقال بنادي شبرا الرياضي , ولتفوقه أعفي من رسم الاشتراك , شارك بمسابقة "كأس الشواربي " عام 1934م بنادي شبرا وفاز ببطولة وزن المتوسط بمجموعة 235كجم , وكان الفارق بينه وبين صاحب المركز الثاني بمجموعة 25 كجم , فشجعه ذلك للمشاركة خضر في نفس العام ببطولة مصر بصالة البلدية بالإسكندرية وسجل مجموعة 245 كجم .

فكان ذلك دفعه له للأمام ففي عام 1935م حطم الرقم العالمي في رفعة الضغط 106.5 كجم للمصري عنتر عرفه وسجل 107.5 كجم.

ثم كانت الخطوة الأكبر والتي سجلت اسمه في التاريخ الرياضي حينما شارك في دورة برلين الأوليمبية عام1936م  وكان عمره 19 عاماً فقط و  وقد فاز على بطل ألمانيا  وحصل على الميدالية الذهبية في وزن المتوسط بعد أن حطّم الرقم القياسي الأوليمبي ثلاث مرات، وبلغ مجموع رفعاته في هذه الدورة 387.5 كجم. في وقت كان الاتجاه لإثبات تفوق الجنس الآري قد بلغ ذروته , ومع ذلك قدر هتلر بطولة "التوني " وصافحه بحرارة .

و قد تم تسجيل إنجاز" التوني "في الكتاب الرسمي للدورة الموجود في العديد من المكتبات  والذي يحمل توقيع كل من حصل على ميدالية ذهبية ومن ضمنهم التوني .

ومن الطريف أن الاتحاد الدولي لرفع الأثقال لم يعترف بأرقام التوني التي حققها (قبل دورة 1936) ظنا منه أن هناك خطأ في البيانات التي أرسلت إليه ,  فلم يصدقوا أن هناك رباع في وزن المتوسط قد رفع هذه الأثقال.

   وبعد قيام الحرب العالمية الثانية توقفت الدورات الأوليمبية , ثم عادت بعد انتهاءها ,  ولم تقف بطولات "التوني" عند هذا الحد , فقد شارك "التوني" في دورة لندن الأوليمبية  عام 1948م  وكان يريد الفوز بالميدالية الذهبية , ولكنه أُصيب بالتهاب في الزائدة الدودية  ، فأمرمحمد طاهر باشا  رئيس البعثة المصرية في الأولمبياد بإدخاله المستشفى فورا لإجراء جراحة، لأن أي وزن زائد سوف يؤدي لانفجار الزائدة ووفاته , ولكن البطل التوني قلب الموازين  , حيث وجدوه على ميزان الوزن مصمماً على  رفع الأثقال ، حتى أنه حصل على المركز الرابع وسط دهشة الحاضرين.

ثم  فاز "التوني " عام 1949م  ببطولة العالم ، ثم بطولة العالم في الوزن المتوسط في العام 1950م  .  

   وقد ذاعت شهرة التوني في العالم كله ولقبته  الصحف العالمية  ببطل أبطال رفع الأثقال ,  وأقوى رجل في العالم , والبطل الذي لا يقهر.

    وقد توفي "التوني " شاباً عام "1956" م , صعقا بالكهرباء نتيجة حدوث ماس كهربائي وهو يحاول إصلاح الإضاءة في غرفة أبنائه ليواصلوا مراجعة دروسهم .

  وقد أُطلق اسم خضر التوني على أحد شوارع القرية الأوليمبية في ميونخ تكريما له , عام 1972 م ,  وقد جاء هذا التكريم بعد 36 عاما من انتهاء دورة برلين، كما أُطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية في الإسكندرية و مدينة نصر ,  وعلى أحد ميادين حلوان .  

   رحم الله أبطال مصر , ووهبها المزيد والمزيد من الأبطال . 

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

قديسات على أرض مصر

  

    

القديسة كاترين 


برزت على أرض مصر نساء عظيمات كتب لهم التاريخ خلود سيرتهم التي دلت على عظم مكانتهم وسمو قدرهم , فكانت في الأساطير مثل ايزيس , وكانت على أرض الواقع مثل اياح حتب "أم الملك أحمس " , و حتشبسوت .

   لذلك عندما مرت القرون وأتى عصر المسيحية وانتقلت إلى مصر واقبل عليها أهلها .  برزت نساء أخريات على أرضها , آمن بها ودافعن عنها مهما تحملوا من العذاب . فكان "اوريجين " أحد أبرز معلمي الكنيسة , لسيدة مصرية فضل عظيم عليه , ففي أواخر القرن الثاني الميلادي و أوائل القرن الثالث , عندما كان اوريجين صغيرا استشهد والده في محاولات الرومان محو المسيحية من مصر وتم مصادرة أملاكه , فرعته تلك السيدة هو وأخوته الستة , وانفقت على تعليمه .

   ولم يقتصر تعليم أوريجين على الرجال , فكان له أيضا تلميذات استشهدن , ومنهم "بوتامينا " الأمة الجميلة التي قاومت اغراء سيدها لها فشكاها للوالي لأنها مسيحية وقدم له رشوة لاقناعها بالخضوع لسيدها , وقد تم تعذيبها حتى استشهدت وكذلك حرقت أمها "مارسللا" ايضاً.  وكان من تلميذات "أوريجين "أيضا , سبع شابات أوكل لهم مهمة عظيمة وهي نسخ الكتاب المقدس في صيغته النهائية .

   وعلى أرض مصر كانت النساء المضحيات بحياتهن , وذكر لنا التاريخ "دميانة " القديسة الشهيدة , ابنة "مرقص" والي البرلس الوحيدة , فعندما بلغت سن الزواج , عزفت عنه وأرادت التفرغ للعبادة , وطلبت من والدها العزلة . فبنى لها والدها قصراً قرب الزعفرانة وجعل في خدمتها أربعين عذراء , وكان ذلك في عهد الامبراطور دقلديانوس مضطهد المسيحيين "284-305" م , وذات مرة طلب من الولاة ومنهم  " مرقص " والد "دميانة " الذهاب معه للمعبد وتقديم القرابين للآلهة , ولما علمت بذلك "دميانة " قابلت والدها حزينة لما فعله , فتأثر والدها وقابل الامبراطور وأعلن عن ندمه لما فعل واعلن مسيحيته , فقطعت رأسه فوراً , وقبض على دميانة والفتيات الأربعين وتم تعذيبهم ثم قتلهم . وقد بنت الامبراطورة هيلانة أم الامبراطور قنسطنين "306-337"م كنيسة في بلقاس , فوق المكان الذي ضم قبور دميانة وصاحباتها .

   ومن منا لا يعرف أحد أهم معالم مصر وسيناء الأثرية "دير سانت كاترين " , وكانت البداية عندما ولدت "كاترين " بالأسكندرية لأبويين وثنيين ارستقراطيين , تعلمت الفلسفة والخطابة والموسيقى والرياضيات والطبيعة والفلك والطب ,  وعندما بلغت ثمانية عشر عاماً رفضت الزواج واعتنقت المسيحية , حتى أنها غيرت اسمها من "زورثيا" إلى "كاترين " أو الطاهرة أو كثيرة الأكاليل , وقدرت على الوقوف في وجه "مكسيميان " امبراطور الغرب , الي انبهر بجمالها وقوة شخصيتها , وقد طلبت منه أن يحضر إليها علماء الوثنية لتجادلهم , فجاء إليها بخمسين عالماً , اعتنق بعضهم المسيحية بعد أن اقنعتهم بالبراهين بفضل المسيحية على عبادة الأوثان .

   فكان ذلك سبباً لغضب الوثنيين فحرضوا الامبراطور ضدها هي والعلماء الذين آمنوا بالمسيحية , فطلب منهم الامبراطور العودة للمسيحية ولما رفضوا قتلهم , أما "كاترين" فقد سجنت وطلب منها الامبراطور الزواج والعودة لعبادة الأوثان فرفضت , برغم تعدد الرسل لترغيبها واقناعها , فكان أن أنزل بها العذاب , وكان منها دواليب مركبة بسيوف بارزة , وقطع رأسها في النهاية , وعندما انتهى عصر الشهداء نقل الرهبان جسدها إلى سيناء إلى جبل سمي باسمها .  

    ونذكر ايضا من الشهيدات "للونيا" السكندرية التي وقفت أمام والي اسكندرية وأخذت تبشر بالمسيحية فأعجب بشجاعتها الكثير, وامنوا بالمسيحية , فقبض عليها وعذبت وبترت أعضائها وكسرت أسنانها , وظلت على ايمانها , فأمر الوالي بإلقائها في حفرة من النار.

   وكما كانت الشجاعة والاستشهاد مصدر تأثير على المصريين فاعتنقوا المسيحية , وازداد عددهم , كانت ايضا الشجاعة والتفاني في خدمة الناس ايضاً مصدراً للتأثير في اعتناق المسيحية , وتساوى في ذلك الرجال والنساء ونذكر من أمثلة النساء اللاتي افنين حياتهن في خدمة المسيحية و مساعدة الناس , الناسكة "بي آمون " التي كانت تعول نفسها وأمها من صناعة الغزل و النسج , و كانت في خدمة الناس فقامت ذات مرة ومنعت معركة كبيرة بين قريتين بسبب تقسيم مياه الري . 

    وهناك ايضاً القديسة "فيرينا " من "كراكوز" بمركز قوص محافظة قنا , كانت ممرضة صاحبت كتيبة مصرية في عهد الامبراطور دقلديانوس , إلى الحدود البلجيكية الفرنسية السويسرية , كمساعدة لامبراطور الغرب " ماكسيميان " لاخماد ثورة شعبية هناك , وقد تم لهم النصر , قتلهم "ماكسيميان " بعد أن رفضوا تقديم فروض الطاعة لمذبح الأوثان , لأنهم كانوا مسيحيون , وسرحت الممرضات , فاتجهن الى سولوتورن بشمال سويسرا , على الحدود بين سويسرا وألمانيا وعاشت هي وزميلاتها على حياكة الملابس و تطريزها وساعدتهم في بيعها سيدة عجوز من أهل البلاد وكانت تشتري لهم الطعام ومستلزماتهم اليومية , ثم عرفهم أهل المنطقة , وتعلمت لغتهم . تقرب إليها أهل البلاد بعد أن عرفوا عنها شفائها للأمراض فكانت على دراية بالتمريض وطب الأعشاب وعلمتهم النظافة والاغتسال بالماء , والصلاة من أجل الشفاء فطلب منها السكان الوثنيون معرفة دينها , فنشرت بينهم هي وزميلاتها  تعاليم المسيحية . وعندما علم حاكم المنطقة بأمرها , سجنها هي وزميلاتها , إلا أن الحمي التي أصابته , وقدرتها على شفائه منها جعلته يطلق سراحها هي وزميلاتها . وبعد انتهاء عصر "دقلديانوس "و"ماكسيميان "عام 305 م , ومجيء عصر قنسطنطين الذي أقر المسيحية ديانة رسمية للامبراطورية , انطلقت فيرونيا تنشر المسيحية حتى استقرت بمدينة تسورتساخ بسويسرا , ثم اعتكفت 11 عاما في كهفها تخدم المحتاجين . ثم توفيت في الأول من سبتمبر عام 344 م , عن 64 عاما . وبني فوق مكان دفنها كنيسة , ونحت لها تمثال تحمل فيه جرة ماء وتمسك باليد الأخرى مشط شهادة منهم على عدم معرفتهم بأبسط قواعد النظافة ": غسل الوجه ونظافة الشعر "  الا بفضلها , وأقيمت بسويسرا 70 كنيسة تحمل اسمها , 30 بألمانيا .

   ولا شك أن أرض مصر لها تأثير على من وفد إليها , فتشبع بثقافتها , ومنها , ابنة قاضي الاسكندرية الروماني "جينا " , التي قد جاءت للاسكندرية بحكم عمل والدها , فكان تعليمها على يد فلاسفة سكندريين مسيحيين , أثروا فيها , فآمنت سراً بالمسيحية , وتخفت في زي رجل لمقابلة بعض النساك لتتعلم منه , فاتهمتها امرأة بتهمة باطلة  , فقبض عليها وحاكمها والدها , فانفردت به وكشفت له أمرها , فتأثر لذلك وآمن بالمسيحية واعتزل القضاء , وتفرغ للعبادة وصار أسقفاً , وقد استشهد أثناء ممارسة شعائر الصلاة , فعادت "جينا " وباقي أسرتها لروما , واستشهدت في طريق "لاتنيا" فأقيمت كنيسة بنفس ذلك المكان .

   وبعد أن صارت المسيحية ديناً رسمياً للبلاد , اتجهت بعض النساء للرهبنة وتفرغن للعبادة ومساعدة الآخرين , ونذكر منهم القديسة "مريم" أخت الأنبا "باخوم" – أول من أنشأ الاديرة في مصر – فكان لها ديرا للنساء . فاجتذبت الأديرة في مصر فتيات فضلن الرهبنة على مظاهر حياة الترف , ومنهن القديسة "أفروسينا " الابنة الوحيدة لأحد أثرياء الاسكندرية , و "أفروسينا " تعني البهجة , حيث جاءت له بعد أن فقد الأمل في أن يرزق بالذرية . وعندما بلغت "أفروسينا " ثمانية عشر عاماً , أراد والدها تزويجها بشاب غني فرفضت , حتى أنها هربت يوم زفافها , متنكرة بزي رجل لأحد الأديرة , وعاشت هناك ثمانية عشر عاماً كراهب , وظن والدها أنها توفيت , وكان يذهب للدير لطلب المعونة والارشاد , وعندما مرضت صرحت بأمرها لوالدها وأوصته بأن يترك أملاكه للفقراء وأسلمت روحها خالقها , فانصاع والدها لطلبها , ثم التحق بالدير ليعيش فيه عشر سنوات في قلاية ابنته .

  وغيرهن الكثيرات , فالقائمة طويلة بسجلات الأديرة والكنائس المصرية للقديسات اللاتي  ضربن المثل في الصبر والطهارة والسمو , فبرزت سيرهن وعبرن الحدود وتعلم منهن البشر في كل مكان .  

 

 

الخميس، 2 يونيو 2022

الفرار من بغداد للقاهرة "2"

 

المدرسة الصالحية من أهم مراكز التعليم في عصر المماليك 


بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656 هـ  - 1258م , والذين ذبحوا وحرقوا ونهبوا أهلها , مما جعل الكثير من أهل العراق يفرون للشام ومصر ومنهم العلماء والتجار والصناع والفنانين , وكانت الدولة الأيوبية في مصر تحتضر , وتولى من بعدهم المماليك الحكم ليدخلوا في صراع مباشر مع المغول الذين اطلقوا الشرارة وهددوا وجودهم في مصر , فكانت موقعة عين جالوت عام 1260م , ثم تلاها اغتيال السلطان المملوكي قطز - بيد المماليك بسبب الصراع على السلطة - قبل أن يأخذ خطوة جدية في تثبيت ملكه , باستضافة أحد أفراد البيت العباسي لتنصيبه خليفة اسمياً , والتحكم في أرث الخلافة فعلياً , وقد فعلها السلطان بيبرس حيث اختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب  "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وأصبحت العراق تحت حكم المغول في ذلك الوقت , فكانت مصر والشام – بعد ان استطاع المماليك صد هجمات المغول على الشام – مقصداً هاماً . ومكاناً آمناً للتجار و مكان ترحيب للأطباء والعلماء و الأدباء وتعاون الصناع العراقيون والفنانون والخطاطون مع إخوانهم المصريين ليطورا الصناعة والفن الذي بقيت روائعه حتى الآن تزين المتاحف العالمية .

   جدير بالذكر أن كثير من عائلات التجار العراقيين أثرت في الحياة الفكري فكان منهم العلماء ومنهم من أسس المدارس الدينية من حر ماله .

    وإذا كانت مصر بوجه عام والقاهرة بوجه خاص مقصداً لعلماء العراق أيام الدولة المملوكية , فهذا لم يكن غريباً فقد حدث نفس الشيء أيام سابقتها الدولة الأيوبية , حيث قدم لها من علماء الفقه والحديث وعلوم القرآن الشيخ الجلولي المقري , والشيخ البغدادي , وابن شعبان الأبلي وابن الأعلاقي .

     أما علماء العراق وقت الدولة المماليك فكان من أشهرهم : الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن علي من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب وكان عالماً في القراءات وعلم الأصول , وهناك عبد اللطيف بن الصيقل التاجر الحراني وقد عملت أسرته بالتجارة , وايضاً كان منهم علماء في الدين , وكان زين الدين الفارقي وابنه مروان الملقب ببدر الدين من الفقهاء , وايضا الشيخ علم الدين ابن بنت اسحق العراقي وكان يدرس في مدرسة الأمام الحسين , والشيخ عز الدين المارديني الحنفي وكان يدرس بالمدرسة الصالحية  , وهناك شيخ الفقهاء نجم الدين أبو عبدالله الحراني الحنبلي .

   وكان منهم من عملوا بالخطابة في المساجد فهناك الشيخ ابن العوام المحوجب وقد قرأ بالقراءات السبعة , وكان زميله ووريثه في الفقه من بعده الفقيه شمس الدين الجزري , حتى السيدات الفقيهات نزلن مصر وعلمن نساءها منهم الفقيهة الزاهدة فاطمة بنت عباس البغدادية الملقبة بأم زينب .

    وقد شاع التصوف في العراق بتشجيع من الدولة العباسية التي كانت تلك الحركة تحت رعايتهم لصد أي حركات مثل العيارين والشطار . ولبث الأمل في نفوس الناس بعد الحملات الصليبية على المشرق , وقد انتقلت مظاهر الصوفية لكل بلاد الاسلام ومنها مصر , فكان قدوم المتصوفة نهجاً لما فعله أساتذتهم الذين استقروا في مصر من قبل , وطوافاً ببلاد المسلمين الذي كان مبدأ هاماً بالنسبة لهم , ومنهم ابن القسطلاني التوزري , والابرقوهي , والشيخ ابن البناء , والشيح العارف بالله محمد بن أبي العشائر القرشي الباذبيني الواسطي صاحب الكرامات الخارقة , والشيخ عزالدين أبو اسحاق العلوي الحسيني العراقي .

  وكذلك ساهم ايضا العراقيون في الأدب والشعر والنحو  وكانت تلك الأنشطة تمارس بجانب تخصصهم الأساسي ألا وهو الفقه , ونذكر منهم الفقيه القاضي صدرالدين الجزري , النحوي المترجم علي بن عدلان الموصلي , الأديب أمين الدين السليماني الأربلي , الكمال طه بن أبي الأربلي .

   أما في العلوم العقلية فكانت لهم اسهامات بارزة , ونذكر منهم الطبيب العراقي ابن الأكفاني , وكان بارعاً في الرياضيات واهتم بدراسات اقليدس , وكان نابغة وخاصة طب العيون وكانت له مؤلفات طبية منها "كشف الدين في أحوال أمراض العيون " وكان يعمل ببيمارستان قلاوون بالقاهرة , كما كان عالماً بالجواهر و الأحجار الكريمة , وكان شاعراً وأديباً . وكذلك الطبيب الشاعر شمس الدين الموصلي .

   وقد برع ايضاً العراقيون الوافدون إلى مصر في علوم المنطق , ومنهم : عيسى بن داوود البغدادي الحنفي , وكان من تلامذته العراقيين في مصر الذين تولوا التدريس والبحث من بعده , ابن الاكفاني , والسبكي , و الطبيب شمس الدين الجزري المعروف بابن المحوجب . وحتى فنون الموسيقى تطورت بفضل التبادل بين الفن المصري والعراقي وكان من أبرز الموسيقيين العراقيين محمد بن عيسى البغدادي , ويرجع بأصوله إلى مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وكان حافظاً للقرآن تولى في شبابه مشيخة الزاوية بجوار المشهد الحسيني , وكان طبيبا ايضا , ولم يتكسب من الموسيقى نهائياً . وقد لوحظ أن  كتاب التراجم من العراقيين في مصر قد تأثروا بميل المصريين للنوادر والنكات فكان هذا ظاهراً في كتاباتهم , ومنهم : محمد ابن ابراهيم الأكفاني , محمد بن دانيال الموصلي , ومسند الحديث أبو عبد الله الحراني .

     ويتضح لنا أن سقوط بغداد وتوافد العراقيون على مصر والشام ومكوثهم على أرضها و تمازج علومهم وفنونهم بعلوم وفنون المصريين ترك آثاراً مزدهرة في مختلف المجالات , بفضل ترحاب المصريون بهم , ورعاية سلاطين المماليك .

   

الجمعة، 20 مايو 2022

الفرار من بغداد للقاهرة "1"


كرسي عشاء السلطان الناصر محمد بن قلاوون 


سقطت بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية وعاصمة الخلافة العباسية في عام 656 هـ  - 1258م في يد المغول , وقتلوا من قتلوا ونهبوا من نهبوا وحرقوا وخربوا , وأحرقت المساجد والمكتبات وقد اختلفت الروايات في عدد القتلى التي كان أقل تقدير لها هو 90 ألف وأكثر تقدير 2 مليون قتيل وصلت رائحة جيفهم للشام فأصابت الناس بالأمراض , وكان معظم القتلى من المسلمين السنة , فقد أمن المغول على حياة المسيحيين من سكانها , لأن زوجة قائدهم "هولاكو " مسيحية نسطورية , أما اليهود فلجأوا إلى دار الوزير ابن العلقمي , ولجأ أغنياء المسلمين لوضع أموالهم عند بطريرك السريان النساطرة الذي كان صاحب مكانة لدى المغول , وقد اشترك الشيعة في قتل المواطنين السنة وتوقف كل هذا بعد أربعين يوماً ليبدأ بعدها المغول باتخاذ خطوات جدية في تثبيت أقدامهم في بغداد فقتلوا الخليفة المستعصم بالله وبعض أولاده وسبوا الباقين , واداروا القتل فيمن بقي من بني العباس إلا قلة منهم .

وقد أراد الناصر يوسف حاكم  حلب ودمشق  في الاستفادة من ذلك الوضع, فأراد أن يأتي بأحد ابناء البيت العباسي ويعلنه خليفة , ويكون هو أمام المسلمين من أحيا الخلافة العباسية ، من خلال استقطاب أحد أبناء البيت العباسي الفارِّين من المغول، فيعلنه خليفة في الشام . غير أن سيل المغول  قد  جرف حلب ودمشق وحاكمها , واراد السلطان المملوكي قطز أن يحذو حذو الناصر يوسف خاصة بعد أن ثبت أركان دولته وانتصر في معركة "عين جالوت " على المغول عام 1260م وكان الأمل المنشود في الأمير أبا العباس أحمد ، والذي كان بدمشق ، فأمر بِإرساله إلى مصر تمهيدًا لِإعادته إلى  بغداد ولكن قطز لم يمكث كثيرا فقد اغتيل على يد بيبرس وأعوانه بعد عين جالوت بخمسين يوماً .فأراد بيبرس اكمال نفس الخطة في اسباغ حكم المماليك الشرعية بإعادتهم للمسلمين الخلافة والخليفة فاختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب  "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وقد بقي الخليفة في القاهرة بعد أن استطاب للمغول المقام فيها  , وكسب بيبرس مكانة بين المسلمين في حفظه للخلافة والخليفة وإن كانت قد عادت صورياً فقط . وقد اكتسبت مصر مكانة الزعامة في العالم الاسلامي فكانت الحجاز تحت حكمها , وقبل أشراف مكة ذكر السلطان المملوكي في الخطبة ونقش اسم السلطان المملوكي على السكة , وتكفلت مصر بحراسة قوافل الحج , وارسال كسوة الكعبة و حبست أوقافاً للحرمين الشريفين ولفقراء مكة والمدينة , وتلقب السلطان المملوكي بلقب "خادم الحرمين الشريفين " .

   ولم يكن سقوط بغداد في يد المغول له مردود سياسي ومكانة روحية عادت على دولة المماليك بالفائدة فقط بل كانت هناك جوانب حضارية استفادت بها مصر ولا سيما في الصناعة فقد نزح من العراق الصناع المهرة فارين من الغزو المغولي واستقروا بمصر , فازدهرت فيها صناعات الزخرفة و التكفيت بالذهب والفضة وتكفيت البرونز بالنحاس , جدير بالذكر أن هؤلاء الصناع اتبعوا نفس الأساليب المصرية القديمة ولكنهم أضافوا الدقة في التنفيذ , وقد أتى معظمهم من الموصل , وبقيت آثارهم موجودة حتى الآن في المتحف الاسلامي منها باب خشبي من مصراعين مصفحين من النحاس ,وصندوق خشبي مصفح بالنحاس ومكفت بالفضة مزخرف بآيات قرآنية بالخط الكوفي المورق وخط الثلث . وللتوضيح , التكفيت , هو : أسلوب في زخرفة التحف المعدنية تحفر فيه الرسوم ثم تملأ الشقوق التي تكون الرسوم بقطع من مادة أغلى قيمة , أما الترصيع , فهو : ففيه طبقة الزخرفة الجديدة تلصق على السطح كله . أما التصفيح : فهو كسوة التحف الخشبية بصفائح معدنية مثل النحاس . وبراعة الصانع الموصلي في تلك المهن زادت على خبرة الصانع المصري , فنتج جيلاً جديداً بلغ بتلك الصناعة روائع انتاجاته اشتهرت في كل مكان , وقد خصص لصناعة التكفيت سوقاً بالقاهرة يسمى سوق الكفتيين يقع في الشارع الممتد من الغورية إلى الأزهر. وتذكر لنا المصادر من اسماء أرباب الحرف البارعين الموصليين : محمد بن سنقر البغدادي السنكري الملقب بابن المعلم , وربما يكون قد اكتسي هذا اللقب لأن والده كان ماهرا في حرفته ولقن أولاده أسرار المهنة , وخلدت أعمال ابن سنقر ذكراه والتي حملت توقيعه ابن المعلم ومنها كرسي معدني كان للسلطان الناصر محمد بن قلاوون ومحفوظ بالمتحف الاسلامي بالقاهرة , وكذلك صندوق مصحف خشبي مغطى بطبقة نحاسية ومكفت بالذهب والفضة موجود بمتحف برلين وإن كان ذلك الصندوق كان قد شارك بتطعيمه الحاج يوسف بن الغوابي . جدير بالذكر أن ابن سنقر كانت توقيعه يشمل لقب الأستاذ دلالة على مكانته الكبيرة وكذلك لقب السنكري دلالة على تخصصه في السنكرة أو صناعة الصفائح ثم توسع ليشمل الصناعات المعدنية .

    ونذكر ايضا أحمد بن باره الموصلي وله صندوق مكفت بالفضة والذهب للربعة الشريفة بمكتبة الجامع الأزهر في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون , وقد اقتنى سلاطين بني رسول باليمن التحف من صنع هؤلاء الصناع ومنهم : حسين بن أحمد بن حسين الموصلي ,وعلي بن حسين بن محمد الموصلي . ثم انتقل تأثير هؤلاء الفنانين إلى أوروبا عن طريق التجارة مع المدن الايطالية , فنالت اعجاب الأوروبيين و حاول صناع أوروبا تقليدها , فاستقدم حكام مدن ايطاليا من هؤلاء الصناع المهرة من يعلمهم تلك الحرف , فنشأت بعد ذلك مدرسة في عصر النهضة عرفت بمدرسة البندقية الشرقية , مزجت الصنعة العربية بالذوق الأوروبي .

    وقد ارتبط بتلك الصناعات الخط العربي الذي كان عنصراً زخرفياً هاما, ونجد أن ماتركه الأستاذ محمد بن سنقر البغدادي على مقتنيات الناصر محمد بن قلاوون -ومنها "كرسي العشاء " -تميزه في الخط الذي كان برع فيه و كان بالنسبة لصنعته عنصراً زخرفياً رئيسياً . جدير بالذكر أن مدارس الخط العربي البارزة في العراق لم تكن القاهرة بمنأى عن تأثيرها قبل سقوط بغداد فنجد أن المدرسة المصرية للخط قد أخذت الكثير من صنعة الخطاط "ياقوت بن عبد الله المستعصمي البغدادي " وكان مملوكاً للخليفة العباسي , ونتيجة لذلك انتقلت مصر في العصر الأيوبي من استعمال الخط الكوفي كخط رسمي إلى استعمال خط النسخ فدونت به المصاحف ونقش على العمائر والمنتجات الفنية , وبعد مجئء الخطاطين  من بغداد امتزجوا مع الفنانين المصريين فنتج فن جديد تفرع من خط النسخ هو الثلث المملوكي الذي زينت به العمائر والمنتجات الفنية المختلفة وإن لم يختف الخط الكوفي وبقي موجوداً , لدرجة أنهما من الممكن أن يكونا موجودين في نفس المكان على نفس الأثر الفني حيث كان الخط العربي بطل الموقف بعد أن تراجعت بشكل ملحوظ  ظاهرة اختفاء الرسوم الآدمية والمناظر التصويرية خاصة على التحف المعدنية وظهرت عناصر حيوانية محورة وصغيرة الحجم كما لوكانت تشبه النباتات , وأصبح تسجيل اسم السلطان وألقابه على التحفة دليلاً على مقدرة الفنان وبراعته في الخط العربي .

   ومن أشهر الخطاطين الذين انتقلوا للقاهرة : ابن العفيف محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الكاتب , ويرجع أصله لبلاد ماوراء النهر . ونشأ بالعراق وكان والده من تلاميذ ياقوت المستعصمي , وايضاً ابن الوحيد شرف الدين محمد بن شريف بن يوسف المصري الكاتب , وأصوله شامية ولكنه عاش بالعراق , وعندما انتقل للقاهرة كان له تلاميذ أحسنوا صنعتهم , وكان على عهد السطان بيبرس الذي لم يبخل عليه بالذهب , وكان ابن الوحيد بدوره لايبخل على صنعته بالذهب , فكان يأخذ من تلك العطايا ويكتب بها مصاحفه . وله نموذج من المصحف الشريف محفوظ بالمتحف البريطاني , ومصحف بدار الكتب المصرية , وله مؤلفات في صنعة الخط خلدت اسمه كذلك منها : شرح منظمة ابن البواب ولها نسخة في خزانة بايزيد العامة باسطنبول وفي الخزانة التيمورية بالقاهرة . وكذلك له ايضا في خزانة بايزيد باسطنبول  نسخة من كتابه "لمحة المختطف في صناعة الخط الصلف " . وايضا كان هناك ضياء الدين محمد بن محمد البغدادي الوراق , و عمر بن علي بن ابي بكر بن محمد بن الموصلي , و لم يكتف هؤلاء ببراعتهم في صنعة الخط فقد كان منهم العلماء , نذكر منهم : عبد الكريم بن عمر الأنصاري , علم الدين العراقي , والذي كان خطيباً وله في العلوم الشرعية كالفقه أصوال الدين واللغة العربية باعاً  وايضا محمد بن يوسف بن عبد الله الجزري ,الملقب بابن الحشاش , وقد عمل خطيباً بجامع القلعة , ثم جامع ابن طولون , وله شرح في ألفية ابن مالك . وله ديوان خط , وشعر . وكذلك محمد بن ابراهيم بن ساعد البخاري الملقب بابن الأكفاني وكان طبيباً وخبيراً بالعقاقير وله كتاب " الحشائش " أو خصائص العقاقير لديسقوريدس  نسخة منها موجودة بمكتبة "متحف طوبقابي سراي " في اسطنبول وقد نسخها الطبيب الخطاط أبي يوسف بهنام بن موسى يوسف والذي بدوره هو الآخر جمعه العلم والخط والأصل العراقي والهجرة لمصر ونسخ ذلك الكتاب العمل مع ابن الأكفاني .

   وكان طبيعياً في وسط ذلك الزخم الفني لفن الخط والزخرفة , أن يحدث اهتماماً خاصاً بأدوات الكتابة و الخط , فجعلها هي الأخرى بحد ذاتها تحفاً فنية , فكانت الدوايا أو المقلمات مصنوعة من المعدن ومكفتة بالذهب والفضة ومنها المقلمة المحفوظة بالمتحف البريطاني والمصنوعة من النحاس والمكفتة بالذهب والفضة , ومسجل اسم صانعها محمود بن سنقر ويحتمل أن يكون هو أخو محمد ابن المعلم سنقر البغدادي . وارتبط بذلك ايضا صناعة الورق واتسع مفهومها لتصبح صناعة الوراقة على من يصنعه أو يبيعه أو يقوم بالنسخ . وأصبح الوراق هو من يصنع الورق أو يبيعه أو ينسخ الكتب .

وكانت صناعة الورق مزدهرة من قبل في العراق والذي كانت خاماته من الألياف والقطن و والقنب والخرق البالية , فراجت تلك الصناعة عندما انتقلت للقاهرة مع المهاجرين من العراق . ونذكر من هؤلاء : ابن المرجل وكان يعمل بالورق وتجارة الكتب , وكان يدرس بالجامع الحاكمي النحو واللغة والقراءات والبيان .

    و كان لذلك النزوح العراقي رواج في صناعة أخري هي النسيج , فمصر دولة عريقة في صناعة النسيج منذ القدم , واشتهر نسيجها بالقباطي والذي كان يكسى به الكعبة وذلك قبل دخول الفتح الاسلامي لمصر. وتقدمت صناعة النسيج بعد ذلك أكثر وأكثر فيسجل لنا المقريزي في العصر الفاطمي روعة أقمشة مثل الديباج والحريروالقصب الملون الذي لامثيل له في أي مكان , وفي العصر الأيوبي لم تستمر صناعة الأقمشة الغالية كما كانت حيث توجهت الدولة لتحويل معظم طاقتها للجهاد ضد الصليبيين . وعادت تلك الصناعة بقوة مع أمراء المماليك محبي مظاهر البذخ ومعها الصناع العراقيين فزادوا على الصناعة المصرية الممتازة الفخمة أنواعاً أخرى جديدة مثل الحرير الموصلي "موسلين " . الذي كان يصدر لبلاد بعيدة . و كانت العراق مركزاً هاماً للتجارة بين الشرق الغرب لموقعها فكان لها المدن التجارية الهامة كبغداد وتكريت والموصل , وكان تجارها قد جابوا الأقطار من الصين وبلاد الروس والروم والمغرب العربي و خليج العرب . وكان طبيعيا بعد سقوط بغداد انتقال التجار للمكان الأكثر أمناً وهو مصر , وقد حملوا خبرتهم الطويلة فأثروا حركة التجارة وأصبحوا أصحاب تجارة عظيمة . فكانت هناك أسراً تعمل بالتجارة مثل أسرة التكريتي أو آل الكويك الكارميين واشتغلوا بتجارة التوابل . وكان من أفراد هذه الأسرة من استقر بالأسكندرية وبنى داراً للحديث وعلم بها الحديث والفقه على المذهب الشافعي وهي موجودة وقد تحولت لزاوية في شارع البلقطرية بقسم الجمرك . وهناك عزالدين بن جماعة وكان بجانب تجارته يدرس بقبة بيبرس وكان له معجماً وفهرساً وهناك ايضاً أسرة عبد المنعم ابن الصيقل الحراني المصري ومنها كان الفقيه عبد العزى بن الصيقل الذي كان بجانب فقهه له روايات ومغامرات غريبة. واشتهر الكثير من التجار العراقيين بإنشاء ووقف أموالهم على المدارس والحياة العلمية . و عمل معظمهم بتجارة المنسوجات والتوابل والورق والكتب والأحذية , لينقلوا السلع والثقافة من الشرق للغرب والعكس  , وشجعهم على ذلك الحماية التي وجدوها تحت مظلة الدولة الناشئة القوية ألا وهي دولة المماليك .