برزت على أرض مصر نساء عظيمات كتب لهم التاريخ خلود سيرتهم التي دلت على عظم مكانتهم وسمو قدرهم , فكانت في الأساطير مثل ايزيس , وكانت على أرض الواقع مثل اياح حتب "أم الملك أحمس " , و حتشبسوت .
لذلك عندما مرت القرون
وأتى عصر المسيحية وانتقلت إلى مصر واقبل عليها أهلها . برزت نساء أخريات على أرضها , آمن بها ودافعن
عنها مهما تحملوا من العذاب . فكان "اوريجين " أحد أبرز معلمي الكنيسة ,
لسيدة مصرية فضل عظيم عليه , ففي أواخر القرن الثاني الميلادي و أوائل القرن
الثالث , عندما كان اوريجين صغيرا استشهد والده في محاولات الرومان محو المسيحية
من مصر وتم مصادرة أملاكه , فرعته تلك السيدة هو وأخوته الستة , وانفقت على تعليمه
.
ولم يقتصر تعليم أوريجين
على الرجال , فكان له أيضا تلميذات استشهدن , ومنهم "بوتامينا " الأمة
الجميلة التي قاومت اغراء سيدها لها فشكاها للوالي لأنها مسيحية وقدم له رشوة
لاقناعها بالخضوع لسيدها , وقد تم تعذيبها حتى استشهدت وكذلك حرقت أمها
"مارسللا" ايضاً. وكان من
تلميذات "أوريجين "أيضا , سبع شابات أوكل لهم مهمة عظيمة وهي نسخ الكتاب
المقدس في صيغته النهائية .
وعلى أرض مصر كانت
النساء المضحيات بحياتهن , وذكر لنا التاريخ "دميانة " القديسة الشهيدة
, ابنة "مرقص" والي البرلس الوحيدة , فعندما بلغت سن الزواج , عزفت عنه
وأرادت التفرغ للعبادة , وطلبت من والدها العزلة . فبنى لها والدها قصراً قرب
الزعفرانة وجعل في خدمتها أربعين عذراء , وكان ذلك في عهد الامبراطور دقلديانوس
مضطهد المسيحيين "284-305" م , وذات مرة طلب من الولاة ومنهم " مرقص " والد "دميانة " الذهاب
معه للمعبد وتقديم القرابين للآلهة , ولما علمت بذلك "دميانة " قابلت
والدها حزينة لما فعله , فتأثر والدها وقابل الامبراطور وأعلن عن ندمه لما فعل
واعلن مسيحيته , فقطعت رأسه فوراً , وقبض على دميانة والفتيات الأربعين وتم
تعذيبهم ثم قتلهم . وقد بنت الامبراطورة هيلانة أم الامبراطور قنسطنين
"306-337"م كنيسة في بلقاس , فوق المكان الذي ضم قبور دميانة وصاحباتها
.
ومن منا لا يعرف أحد أهم
معالم مصر وسيناء الأثرية "دير سانت كاترين " , وكانت البداية عندما
ولدت "كاترين " بالأسكندرية لأبويين وثنيين ارستقراطيين , تعلمت الفلسفة
والخطابة والموسيقى والرياضيات والطبيعة والفلك والطب , وعندما بلغت ثمانية عشر عاماً رفضت الزواج
واعتنقت المسيحية , حتى أنها غيرت اسمها من "زورثيا" إلى "كاترين
" أو الطاهرة أو كثيرة الأكاليل , وقدرت على الوقوف في وجه "مكسيميان
" امبراطور الغرب , الي انبهر بجمالها وقوة شخصيتها , وقد طلبت منه أن يحضر
إليها علماء الوثنية لتجادلهم , فجاء إليها بخمسين عالماً , اعتنق بعضهم المسيحية
بعد أن اقنعتهم بالبراهين بفضل المسيحية على عبادة الأوثان .
فكان ذلك سبباً لغضب
الوثنيين فحرضوا الامبراطور ضدها هي والعلماء الذين آمنوا بالمسيحية , فطلب منهم
الامبراطور العودة للمسيحية ولما رفضوا قتلهم , أما "كاترين" فقد سجنت
وطلب منها الامبراطور الزواج والعودة لعبادة الأوثان فرفضت , برغم تعدد الرسل
لترغيبها واقناعها , فكان أن أنزل بها العذاب , وكان منها دواليب مركبة بسيوف
بارزة , وقطع رأسها في النهاية , وعندما انتهى عصر الشهداء نقل الرهبان جسدها إلى
سيناء إلى جبل سمي باسمها .
ونذكر ايضا من الشهيدات
"للونيا" السكندرية التي وقفت أمام والي اسكندرية وأخذت تبشر بالمسيحية
فأعجب بشجاعتها الكثير, وامنوا بالمسيحية , فقبض عليها وعذبت وبترت أعضائها وكسرت
أسنانها , وظلت على ايمانها , فأمر الوالي بإلقائها في حفرة من النار.
وكما كانت الشجاعة والاستشهاد مصدر تأثير على المصريين فاعتنقوا المسيحية , وازداد عددهم , كانت ايضا الشجاعة والتفاني في خدمة الناس ايضاً مصدراً للتأثير في اعتناق المسيحية , وتساوى في ذلك الرجال والنساء ونذكر من أمثلة النساء اللاتي افنين حياتهن في خدمة المسيحية و مساعدة الناس , الناسكة "بي آمون " التي كانت تعول نفسها وأمها من صناعة الغزل و النسج , و كانت في خدمة الناس فقامت ذات مرة ومنعت معركة كبيرة بين قريتين بسبب تقسيم مياه الري .
وهناك ايضاً القديسة "فيرينا " من "كراكوز"
بمركز قوص محافظة قنا , كانت ممرضة صاحبت كتيبة مصرية في عهد الامبراطور دقلديانوس
, إلى الحدود البلجيكية الفرنسية السويسرية , كمساعدة لامبراطور الغرب "
ماكسيميان " لاخماد ثورة شعبية هناك , وقد تم لهم النصر , قتلهم
"ماكسيميان " بعد أن رفضوا تقديم فروض الطاعة لمذبح الأوثان , لأنهم
كانوا مسيحيون , وسرحت الممرضات , فاتجهن الى سولوتورن بشمال سويسرا , على الحدود
بين سويسرا وألمانيا وعاشت هي وزميلاتها على حياكة الملابس و تطريزها وساعدتهم في
بيعها سيدة عجوز من أهل البلاد وكانت تشتري لهم الطعام ومستلزماتهم اليومية , ثم
عرفهم أهل المنطقة , وتعلمت لغتهم . تقرب إليها أهل البلاد بعد أن عرفوا عنها
شفائها للأمراض فكانت على دراية بالتمريض وطب الأعشاب وعلمتهم النظافة والاغتسال
بالماء , والصلاة من أجل الشفاء فطلب منها السكان الوثنيون معرفة دينها , فنشرت
بينهم هي وزميلاتها تعاليم المسيحية .
وعندما علم حاكم المنطقة بأمرها , سجنها هي وزميلاتها , إلا أن الحمي التي أصابته
, وقدرتها على شفائه منها جعلته يطلق سراحها هي وزميلاتها . وبعد انتهاء عصر "دقلديانوس
"و"ماكسيميان "عام 305 م , ومجيء عصر قنسطنطين الذي أقر المسيحية
ديانة رسمية للامبراطورية , انطلقت فيرونيا تنشر المسيحية حتى استقرت بمدينة
تسورتساخ بسويسرا , ثم اعتكفت 11 عاما في كهفها تخدم المحتاجين . ثم توفيت في
الأول من سبتمبر عام 344 م , عن 64 عاما . وبني فوق مكان دفنها كنيسة , ونحت لها
تمثال تحمل فيه جرة ماء وتمسك باليد الأخرى مشط شهادة منهم على عدم معرفتهم بأبسط
قواعد النظافة ": غسل الوجه ونظافة الشعر " الا بفضلها , وأقيمت بسويسرا 70 كنيسة تحمل
اسمها , 30 بألمانيا .
ولا شك أن أرض مصر لها
تأثير على من وفد إليها , فتشبع بثقافتها , ومنها , ابنة قاضي الاسكندرية الروماني
"جينا " , التي قد جاءت للاسكندرية بحكم عمل والدها , فكان تعليمها على
يد فلاسفة سكندريين مسيحيين , أثروا فيها , فآمنت سراً بالمسيحية , وتخفت في زي
رجل لمقابلة بعض النساك لتتعلم منه , فاتهمتها امرأة بتهمة باطلة , فقبض عليها وحاكمها والدها , فانفردت به وكشفت
له أمرها , فتأثر لذلك وآمن بالمسيحية واعتزل القضاء , وتفرغ للعبادة وصار أسقفاً
, وقد استشهد أثناء ممارسة شعائر الصلاة , فعادت "جينا " وباقي أسرتها
لروما , واستشهدت في طريق "لاتنيا" فأقيمت كنيسة بنفس ذلك المكان .
وبعد أن صارت المسيحية
ديناً رسمياً للبلاد , اتجهت بعض النساء للرهبنة وتفرغن للعبادة ومساعدة الآخرين ,
ونذكر منهم القديسة "مريم" أخت الأنبا "باخوم" – أول من أنشأ
الاديرة في مصر – فكان لها ديرا للنساء . فاجتذبت الأديرة في مصر فتيات فضلن
الرهبنة على مظاهر حياة الترف , ومنهن القديسة "أفروسينا " الابنة
الوحيدة لأحد أثرياء الاسكندرية , و "أفروسينا " تعني البهجة , حيث جاءت
له بعد أن فقد الأمل في أن يرزق بالذرية . وعندما بلغت "أفروسينا "
ثمانية عشر عاماً , أراد والدها تزويجها بشاب غني فرفضت , حتى أنها هربت يوم
زفافها , متنكرة بزي رجل لأحد الأديرة , وعاشت هناك ثمانية عشر عاماً كراهب , وظن
والدها أنها توفيت , وكان يذهب للدير لطلب المعونة والارشاد , وعندما مرضت صرحت
بأمرها لوالدها وأوصته بأن يترك أملاكه للفقراء وأسلمت روحها خالقها , فانصاع
والدها لطلبها , ثم التحق بالدير ليعيش فيه عشر سنوات في قلاية ابنته .
وغيرهن الكثيرات ,
فالقائمة طويلة بسجلات الأديرة والكنائس المصرية للقديسات اللاتي ضربن المثل في الصبر والطهارة والسمو , فبرزت
سيرهن وعبرن الحدود وتعلم منهن البشر في كل مكان .