التاريخ دراسة مسلية "برتراند راسل "


الثلاثاء، 28 يونيو 2022

قديسات على أرض مصر

  

    

القديسة كاترين 


برزت على أرض مصر نساء عظيمات كتب لهم التاريخ خلود سيرتهم التي دلت على عظم مكانتهم وسمو قدرهم , فكانت في الأساطير مثل ايزيس , وكانت على أرض الواقع مثل اياح حتب "أم الملك أحمس " , و حتشبسوت .

   لذلك عندما مرت القرون وأتى عصر المسيحية وانتقلت إلى مصر واقبل عليها أهلها .  برزت نساء أخريات على أرضها , آمن بها ودافعن عنها مهما تحملوا من العذاب . فكان "اوريجين " أحد أبرز معلمي الكنيسة , لسيدة مصرية فضل عظيم عليه , ففي أواخر القرن الثاني الميلادي و أوائل القرن الثالث , عندما كان اوريجين صغيرا استشهد والده في محاولات الرومان محو المسيحية من مصر وتم مصادرة أملاكه , فرعته تلك السيدة هو وأخوته الستة , وانفقت على تعليمه .

   ولم يقتصر تعليم أوريجين على الرجال , فكان له أيضا تلميذات استشهدن , ومنهم "بوتامينا " الأمة الجميلة التي قاومت اغراء سيدها لها فشكاها للوالي لأنها مسيحية وقدم له رشوة لاقناعها بالخضوع لسيدها , وقد تم تعذيبها حتى استشهدت وكذلك حرقت أمها "مارسللا" ايضاً.  وكان من تلميذات "أوريجين "أيضا , سبع شابات أوكل لهم مهمة عظيمة وهي نسخ الكتاب المقدس في صيغته النهائية .

   وعلى أرض مصر كانت النساء المضحيات بحياتهن , وذكر لنا التاريخ "دميانة " القديسة الشهيدة , ابنة "مرقص" والي البرلس الوحيدة , فعندما بلغت سن الزواج , عزفت عنه وأرادت التفرغ للعبادة , وطلبت من والدها العزلة . فبنى لها والدها قصراً قرب الزعفرانة وجعل في خدمتها أربعين عذراء , وكان ذلك في عهد الامبراطور دقلديانوس مضطهد المسيحيين "284-305" م , وذات مرة طلب من الولاة ومنهم  " مرقص " والد "دميانة " الذهاب معه للمعبد وتقديم القرابين للآلهة , ولما علمت بذلك "دميانة " قابلت والدها حزينة لما فعله , فتأثر والدها وقابل الامبراطور وأعلن عن ندمه لما فعل واعلن مسيحيته , فقطعت رأسه فوراً , وقبض على دميانة والفتيات الأربعين وتم تعذيبهم ثم قتلهم . وقد بنت الامبراطورة هيلانة أم الامبراطور قنسطنين "306-337"م كنيسة في بلقاس , فوق المكان الذي ضم قبور دميانة وصاحباتها .

   ومن منا لا يعرف أحد أهم معالم مصر وسيناء الأثرية "دير سانت كاترين " , وكانت البداية عندما ولدت "كاترين " بالأسكندرية لأبويين وثنيين ارستقراطيين , تعلمت الفلسفة والخطابة والموسيقى والرياضيات والطبيعة والفلك والطب ,  وعندما بلغت ثمانية عشر عاماً رفضت الزواج واعتنقت المسيحية , حتى أنها غيرت اسمها من "زورثيا" إلى "كاترين " أو الطاهرة أو كثيرة الأكاليل , وقدرت على الوقوف في وجه "مكسيميان " امبراطور الغرب , الي انبهر بجمالها وقوة شخصيتها , وقد طلبت منه أن يحضر إليها علماء الوثنية لتجادلهم , فجاء إليها بخمسين عالماً , اعتنق بعضهم المسيحية بعد أن اقنعتهم بالبراهين بفضل المسيحية على عبادة الأوثان .

   فكان ذلك سبباً لغضب الوثنيين فحرضوا الامبراطور ضدها هي والعلماء الذين آمنوا بالمسيحية , فطلب منهم الامبراطور العودة للمسيحية ولما رفضوا قتلهم , أما "كاترين" فقد سجنت وطلب منها الامبراطور الزواج والعودة لعبادة الأوثان فرفضت , برغم تعدد الرسل لترغيبها واقناعها , فكان أن أنزل بها العذاب , وكان منها دواليب مركبة بسيوف بارزة , وقطع رأسها في النهاية , وعندما انتهى عصر الشهداء نقل الرهبان جسدها إلى سيناء إلى جبل سمي باسمها .  

    ونذكر ايضا من الشهيدات "للونيا" السكندرية التي وقفت أمام والي اسكندرية وأخذت تبشر بالمسيحية فأعجب بشجاعتها الكثير, وامنوا بالمسيحية , فقبض عليها وعذبت وبترت أعضائها وكسرت أسنانها , وظلت على ايمانها , فأمر الوالي بإلقائها في حفرة من النار.

   وكما كانت الشجاعة والاستشهاد مصدر تأثير على المصريين فاعتنقوا المسيحية , وازداد عددهم , كانت ايضا الشجاعة والتفاني في خدمة الناس ايضاً مصدراً للتأثير في اعتناق المسيحية , وتساوى في ذلك الرجال والنساء ونذكر من أمثلة النساء اللاتي افنين حياتهن في خدمة المسيحية و مساعدة الناس , الناسكة "بي آمون " التي كانت تعول نفسها وأمها من صناعة الغزل و النسج , و كانت في خدمة الناس فقامت ذات مرة ومنعت معركة كبيرة بين قريتين بسبب تقسيم مياه الري . 

    وهناك ايضاً القديسة "فيرينا " من "كراكوز" بمركز قوص محافظة قنا , كانت ممرضة صاحبت كتيبة مصرية في عهد الامبراطور دقلديانوس , إلى الحدود البلجيكية الفرنسية السويسرية , كمساعدة لامبراطور الغرب " ماكسيميان " لاخماد ثورة شعبية هناك , وقد تم لهم النصر , قتلهم "ماكسيميان " بعد أن رفضوا تقديم فروض الطاعة لمذبح الأوثان , لأنهم كانوا مسيحيون , وسرحت الممرضات , فاتجهن الى سولوتورن بشمال سويسرا , على الحدود بين سويسرا وألمانيا وعاشت هي وزميلاتها على حياكة الملابس و تطريزها وساعدتهم في بيعها سيدة عجوز من أهل البلاد وكانت تشتري لهم الطعام ومستلزماتهم اليومية , ثم عرفهم أهل المنطقة , وتعلمت لغتهم . تقرب إليها أهل البلاد بعد أن عرفوا عنها شفائها للأمراض فكانت على دراية بالتمريض وطب الأعشاب وعلمتهم النظافة والاغتسال بالماء , والصلاة من أجل الشفاء فطلب منها السكان الوثنيون معرفة دينها , فنشرت بينهم هي وزميلاتها  تعاليم المسيحية . وعندما علم حاكم المنطقة بأمرها , سجنها هي وزميلاتها , إلا أن الحمي التي أصابته , وقدرتها على شفائه منها جعلته يطلق سراحها هي وزميلاتها . وبعد انتهاء عصر "دقلديانوس "و"ماكسيميان "عام 305 م , ومجيء عصر قنسطنطين الذي أقر المسيحية ديانة رسمية للامبراطورية , انطلقت فيرونيا تنشر المسيحية حتى استقرت بمدينة تسورتساخ بسويسرا , ثم اعتكفت 11 عاما في كهفها تخدم المحتاجين . ثم توفيت في الأول من سبتمبر عام 344 م , عن 64 عاما . وبني فوق مكان دفنها كنيسة , ونحت لها تمثال تحمل فيه جرة ماء وتمسك باليد الأخرى مشط شهادة منهم على عدم معرفتهم بأبسط قواعد النظافة ": غسل الوجه ونظافة الشعر "  الا بفضلها , وأقيمت بسويسرا 70 كنيسة تحمل اسمها , 30 بألمانيا .

   ولا شك أن أرض مصر لها تأثير على من وفد إليها , فتشبع بثقافتها , ومنها , ابنة قاضي الاسكندرية الروماني "جينا " , التي قد جاءت للاسكندرية بحكم عمل والدها , فكان تعليمها على يد فلاسفة سكندريين مسيحيين , أثروا فيها , فآمنت سراً بالمسيحية , وتخفت في زي رجل لمقابلة بعض النساك لتتعلم منه , فاتهمتها امرأة بتهمة باطلة  , فقبض عليها وحاكمها والدها , فانفردت به وكشفت له أمرها , فتأثر لذلك وآمن بالمسيحية واعتزل القضاء , وتفرغ للعبادة وصار أسقفاً , وقد استشهد أثناء ممارسة شعائر الصلاة , فعادت "جينا " وباقي أسرتها لروما , واستشهدت في طريق "لاتنيا" فأقيمت كنيسة بنفس ذلك المكان .

   وبعد أن صارت المسيحية ديناً رسمياً للبلاد , اتجهت بعض النساء للرهبنة وتفرغن للعبادة ومساعدة الآخرين , ونذكر منهم القديسة "مريم" أخت الأنبا "باخوم" – أول من أنشأ الاديرة في مصر – فكان لها ديرا للنساء . فاجتذبت الأديرة في مصر فتيات فضلن الرهبنة على مظاهر حياة الترف , ومنهن القديسة "أفروسينا " الابنة الوحيدة لأحد أثرياء الاسكندرية , و "أفروسينا " تعني البهجة , حيث جاءت له بعد أن فقد الأمل في أن يرزق بالذرية . وعندما بلغت "أفروسينا " ثمانية عشر عاماً , أراد والدها تزويجها بشاب غني فرفضت , حتى أنها هربت يوم زفافها , متنكرة بزي رجل لأحد الأديرة , وعاشت هناك ثمانية عشر عاماً كراهب , وظن والدها أنها توفيت , وكان يذهب للدير لطلب المعونة والارشاد , وعندما مرضت صرحت بأمرها لوالدها وأوصته بأن يترك أملاكه للفقراء وأسلمت روحها خالقها , فانصاع والدها لطلبها , ثم التحق بالدير ليعيش فيه عشر سنوات في قلاية ابنته .

  وغيرهن الكثيرات , فالقائمة طويلة بسجلات الأديرة والكنائس المصرية للقديسات اللاتي  ضربن المثل في الصبر والطهارة والسمو , فبرزت سيرهن وعبرن الحدود وتعلم منهن البشر في كل مكان .  

 

 

الخميس، 2 يونيو 2022

الفرار من بغداد للقاهرة "2"

 

المدرسة الصالحية من أهم مراكز التعليم في عصر المماليك 


بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656 هـ  - 1258م , والذين ذبحوا وحرقوا ونهبوا أهلها , مما جعل الكثير من أهل العراق يفرون للشام ومصر ومنهم العلماء والتجار والصناع والفنانين , وكانت الدولة الأيوبية في مصر تحتضر , وتولى من بعدهم المماليك الحكم ليدخلوا في صراع مباشر مع المغول الذين اطلقوا الشرارة وهددوا وجودهم في مصر , فكانت موقعة عين جالوت عام 1260م , ثم تلاها اغتيال السلطان المملوكي قطز - بيد المماليك بسبب الصراع على السلطة - قبل أن يأخذ خطوة جدية في تثبيت ملكه , باستضافة أحد أفراد البيت العباسي لتنصيبه خليفة اسمياً , والتحكم في أرث الخلافة فعلياً , وقد فعلها السلطان بيبرس حيث اختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب  "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وأصبحت العراق تحت حكم المغول في ذلك الوقت , فكانت مصر والشام – بعد ان استطاع المماليك صد هجمات المغول على الشام – مقصداً هاماً . ومكاناً آمناً للتجار و مكان ترحيب للأطباء والعلماء و الأدباء وتعاون الصناع العراقيون والفنانون والخطاطون مع إخوانهم المصريين ليطورا الصناعة والفن الذي بقيت روائعه حتى الآن تزين المتاحف العالمية .

   جدير بالذكر أن كثير من عائلات التجار العراقيين أثرت في الحياة الفكري فكان منهم العلماء ومنهم من أسس المدارس الدينية من حر ماله .

    وإذا كانت مصر بوجه عام والقاهرة بوجه خاص مقصداً لعلماء العراق أيام الدولة المملوكية , فهذا لم يكن غريباً فقد حدث نفس الشيء أيام سابقتها الدولة الأيوبية , حيث قدم لها من علماء الفقه والحديث وعلوم القرآن الشيخ الجلولي المقري , والشيخ البغدادي , وابن شعبان الأبلي وابن الأعلاقي .

     أما علماء العراق وقت الدولة المماليك فكان من أشهرهم : الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن علي من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب وكان عالماً في القراءات وعلم الأصول , وهناك عبد اللطيف بن الصيقل التاجر الحراني وقد عملت أسرته بالتجارة , وايضاً كان منهم علماء في الدين , وكان زين الدين الفارقي وابنه مروان الملقب ببدر الدين من الفقهاء , وايضا الشيخ علم الدين ابن بنت اسحق العراقي وكان يدرس في مدرسة الأمام الحسين , والشيخ عز الدين المارديني الحنفي وكان يدرس بالمدرسة الصالحية  , وهناك شيخ الفقهاء نجم الدين أبو عبدالله الحراني الحنبلي .

   وكان منهم من عملوا بالخطابة في المساجد فهناك الشيخ ابن العوام المحوجب وقد قرأ بالقراءات السبعة , وكان زميله ووريثه في الفقه من بعده الفقيه شمس الدين الجزري , حتى السيدات الفقيهات نزلن مصر وعلمن نساءها منهم الفقيهة الزاهدة فاطمة بنت عباس البغدادية الملقبة بأم زينب .

    وقد شاع التصوف في العراق بتشجيع من الدولة العباسية التي كانت تلك الحركة تحت رعايتهم لصد أي حركات مثل العيارين والشطار . ولبث الأمل في نفوس الناس بعد الحملات الصليبية على المشرق , وقد انتقلت مظاهر الصوفية لكل بلاد الاسلام ومنها مصر , فكان قدوم المتصوفة نهجاً لما فعله أساتذتهم الذين استقروا في مصر من قبل , وطوافاً ببلاد المسلمين الذي كان مبدأ هاماً بالنسبة لهم , ومنهم ابن القسطلاني التوزري , والابرقوهي , والشيخ ابن البناء , والشيح العارف بالله محمد بن أبي العشائر القرشي الباذبيني الواسطي صاحب الكرامات الخارقة , والشيخ عزالدين أبو اسحاق العلوي الحسيني العراقي .

  وكذلك ساهم ايضا العراقيون في الأدب والشعر والنحو  وكانت تلك الأنشطة تمارس بجانب تخصصهم الأساسي ألا وهو الفقه , ونذكر منهم الفقيه القاضي صدرالدين الجزري , النحوي المترجم علي بن عدلان الموصلي , الأديب أمين الدين السليماني الأربلي , الكمال طه بن أبي الأربلي .

   أما في العلوم العقلية فكانت لهم اسهامات بارزة , ونذكر منهم الطبيب العراقي ابن الأكفاني , وكان بارعاً في الرياضيات واهتم بدراسات اقليدس , وكان نابغة وخاصة طب العيون وكانت له مؤلفات طبية منها "كشف الدين في أحوال أمراض العيون " وكان يعمل ببيمارستان قلاوون بالقاهرة , كما كان عالماً بالجواهر و الأحجار الكريمة , وكان شاعراً وأديباً . وكذلك الطبيب الشاعر شمس الدين الموصلي .

   وقد برع ايضاً العراقيون الوافدون إلى مصر في علوم المنطق , ومنهم : عيسى بن داوود البغدادي الحنفي , وكان من تلامذته العراقيين في مصر الذين تولوا التدريس والبحث من بعده , ابن الاكفاني , والسبكي , و الطبيب شمس الدين الجزري المعروف بابن المحوجب . وحتى فنون الموسيقى تطورت بفضل التبادل بين الفن المصري والعراقي وكان من أبرز الموسيقيين العراقيين محمد بن عيسى البغدادي , ويرجع بأصوله إلى مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وكان حافظاً للقرآن تولى في شبابه مشيخة الزاوية بجوار المشهد الحسيني , وكان طبيبا ايضا , ولم يتكسب من الموسيقى نهائياً . وقد لوحظ أن  كتاب التراجم من العراقيين في مصر قد تأثروا بميل المصريين للنوادر والنكات فكان هذا ظاهراً في كتاباتهم , ومنهم : محمد ابن ابراهيم الأكفاني , محمد بن دانيال الموصلي , ومسند الحديث أبو عبد الله الحراني .

     ويتضح لنا أن سقوط بغداد وتوافد العراقيون على مصر والشام ومكوثهم على أرضها و تمازج علومهم وفنونهم بعلوم وفنون المصريين ترك آثاراً مزدهرة في مختلف المجالات , بفضل ترحاب المصريون بهم , ورعاية سلاطين المماليك .

   

الجمعة، 20 مايو 2022

الفرار من بغداد للقاهرة "1"


كرسي عشاء السلطان الناصر محمد بن قلاوون 


سقطت بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية وعاصمة الخلافة العباسية في عام 656 هـ  - 1258م في يد المغول , وقتلوا من قتلوا ونهبوا من نهبوا وحرقوا وخربوا , وأحرقت المساجد والمكتبات وقد اختلفت الروايات في عدد القتلى التي كان أقل تقدير لها هو 90 ألف وأكثر تقدير 2 مليون قتيل وصلت رائحة جيفهم للشام فأصابت الناس بالأمراض , وكان معظم القتلى من المسلمين السنة , فقد أمن المغول على حياة المسيحيين من سكانها , لأن زوجة قائدهم "هولاكو " مسيحية نسطورية , أما اليهود فلجأوا إلى دار الوزير ابن العلقمي , ولجأ أغنياء المسلمين لوضع أموالهم عند بطريرك السريان النساطرة الذي كان صاحب مكانة لدى المغول , وقد اشترك الشيعة في قتل المواطنين السنة وتوقف كل هذا بعد أربعين يوماً ليبدأ بعدها المغول باتخاذ خطوات جدية في تثبيت أقدامهم في بغداد فقتلوا الخليفة المستعصم بالله وبعض أولاده وسبوا الباقين , واداروا القتل فيمن بقي من بني العباس إلا قلة منهم .

وقد أراد الناصر يوسف حاكم  حلب ودمشق  في الاستفادة من ذلك الوضع, فأراد أن يأتي بأحد ابناء البيت العباسي ويعلنه خليفة , ويكون هو أمام المسلمين من أحيا الخلافة العباسية ، من خلال استقطاب أحد أبناء البيت العباسي الفارِّين من المغول، فيعلنه خليفة في الشام . غير أن سيل المغول  قد  جرف حلب ودمشق وحاكمها , واراد السلطان المملوكي قطز أن يحذو حذو الناصر يوسف خاصة بعد أن ثبت أركان دولته وانتصر في معركة "عين جالوت " على المغول عام 1260م وكان الأمل المنشود في الأمير أبا العباس أحمد ، والذي كان بدمشق ، فأمر بِإرساله إلى مصر تمهيدًا لِإعادته إلى  بغداد ولكن قطز لم يمكث كثيرا فقد اغتيل على يد بيبرس وأعوانه بعد عين جالوت بخمسين يوماً .فأراد بيبرس اكمال نفس الخطة في اسباغ حكم المماليك الشرعية بإعادتهم للمسلمين الخلافة والخليفة فاختار الأمير العباسي أبو القاسم أحمد واستقبله في القاهرة وبايعه بالخلافة عام 1261م . وقد لقب  "بالمستنصر لله" , وانتقلت شارات الخلافة للقاهرة وهي مخلفات الرسول صلى الله عليه وسلم , بردته , وبعض من شعر لحيته , وسيف الخليفة عمر بن الخطاب . وقد بقي الخليفة في القاهرة بعد أن استطاب للمغول المقام فيها  , وكسب بيبرس مكانة بين المسلمين في حفظه للخلافة والخليفة وإن كانت قد عادت صورياً فقط . وقد اكتسبت مصر مكانة الزعامة في العالم الاسلامي فكانت الحجاز تحت حكمها , وقبل أشراف مكة ذكر السلطان المملوكي في الخطبة ونقش اسم السلطان المملوكي على السكة , وتكفلت مصر بحراسة قوافل الحج , وارسال كسوة الكعبة و حبست أوقافاً للحرمين الشريفين ولفقراء مكة والمدينة , وتلقب السلطان المملوكي بلقب "خادم الحرمين الشريفين " .

   ولم يكن سقوط بغداد في يد المغول له مردود سياسي ومكانة روحية عادت على دولة المماليك بالفائدة فقط بل كانت هناك جوانب حضارية استفادت بها مصر ولا سيما في الصناعة فقد نزح من العراق الصناع المهرة فارين من الغزو المغولي واستقروا بمصر , فازدهرت فيها صناعات الزخرفة و التكفيت بالذهب والفضة وتكفيت البرونز بالنحاس , جدير بالذكر أن هؤلاء الصناع اتبعوا نفس الأساليب المصرية القديمة ولكنهم أضافوا الدقة في التنفيذ , وقد أتى معظمهم من الموصل , وبقيت آثارهم موجودة حتى الآن في المتحف الاسلامي منها باب خشبي من مصراعين مصفحين من النحاس ,وصندوق خشبي مصفح بالنحاس ومكفت بالفضة مزخرف بآيات قرآنية بالخط الكوفي المورق وخط الثلث . وللتوضيح , التكفيت , هو : أسلوب في زخرفة التحف المعدنية تحفر فيه الرسوم ثم تملأ الشقوق التي تكون الرسوم بقطع من مادة أغلى قيمة , أما الترصيع , فهو : ففيه طبقة الزخرفة الجديدة تلصق على السطح كله . أما التصفيح : فهو كسوة التحف الخشبية بصفائح معدنية مثل النحاس . وبراعة الصانع الموصلي في تلك المهن زادت على خبرة الصانع المصري , فنتج جيلاً جديداً بلغ بتلك الصناعة روائع انتاجاته اشتهرت في كل مكان , وقد خصص لصناعة التكفيت سوقاً بالقاهرة يسمى سوق الكفتيين يقع في الشارع الممتد من الغورية إلى الأزهر. وتذكر لنا المصادر من اسماء أرباب الحرف البارعين الموصليين : محمد بن سنقر البغدادي السنكري الملقب بابن المعلم , وربما يكون قد اكتسي هذا اللقب لأن والده كان ماهرا في حرفته ولقن أولاده أسرار المهنة , وخلدت أعمال ابن سنقر ذكراه والتي حملت توقيعه ابن المعلم ومنها كرسي معدني كان للسلطان الناصر محمد بن قلاوون ومحفوظ بالمتحف الاسلامي بالقاهرة , وكذلك صندوق مصحف خشبي مغطى بطبقة نحاسية ومكفت بالذهب والفضة موجود بمتحف برلين وإن كان ذلك الصندوق كان قد شارك بتطعيمه الحاج يوسف بن الغوابي . جدير بالذكر أن ابن سنقر كانت توقيعه يشمل لقب الأستاذ دلالة على مكانته الكبيرة وكذلك لقب السنكري دلالة على تخصصه في السنكرة أو صناعة الصفائح ثم توسع ليشمل الصناعات المعدنية .

    ونذكر ايضا أحمد بن باره الموصلي وله صندوق مكفت بالفضة والذهب للربعة الشريفة بمكتبة الجامع الأزهر في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون , وقد اقتنى سلاطين بني رسول باليمن التحف من صنع هؤلاء الصناع ومنهم : حسين بن أحمد بن حسين الموصلي ,وعلي بن حسين بن محمد الموصلي . ثم انتقل تأثير هؤلاء الفنانين إلى أوروبا عن طريق التجارة مع المدن الايطالية , فنالت اعجاب الأوروبيين و حاول صناع أوروبا تقليدها , فاستقدم حكام مدن ايطاليا من هؤلاء الصناع المهرة من يعلمهم تلك الحرف , فنشأت بعد ذلك مدرسة في عصر النهضة عرفت بمدرسة البندقية الشرقية , مزجت الصنعة العربية بالذوق الأوروبي .

    وقد ارتبط بتلك الصناعات الخط العربي الذي كان عنصراً زخرفياً هاما, ونجد أن ماتركه الأستاذ محمد بن سنقر البغدادي على مقتنيات الناصر محمد بن قلاوون -ومنها "كرسي العشاء " -تميزه في الخط الذي كان برع فيه و كان بالنسبة لصنعته عنصراً زخرفياً رئيسياً . جدير بالذكر أن مدارس الخط العربي البارزة في العراق لم تكن القاهرة بمنأى عن تأثيرها قبل سقوط بغداد فنجد أن المدرسة المصرية للخط قد أخذت الكثير من صنعة الخطاط "ياقوت بن عبد الله المستعصمي البغدادي " وكان مملوكاً للخليفة العباسي , ونتيجة لذلك انتقلت مصر في العصر الأيوبي من استعمال الخط الكوفي كخط رسمي إلى استعمال خط النسخ فدونت به المصاحف ونقش على العمائر والمنتجات الفنية , وبعد مجئء الخطاطين  من بغداد امتزجوا مع الفنانين المصريين فنتج فن جديد تفرع من خط النسخ هو الثلث المملوكي الذي زينت به العمائر والمنتجات الفنية المختلفة وإن لم يختف الخط الكوفي وبقي موجوداً , لدرجة أنهما من الممكن أن يكونا موجودين في نفس المكان على نفس الأثر الفني حيث كان الخط العربي بطل الموقف بعد أن تراجعت بشكل ملحوظ  ظاهرة اختفاء الرسوم الآدمية والمناظر التصويرية خاصة على التحف المعدنية وظهرت عناصر حيوانية محورة وصغيرة الحجم كما لوكانت تشبه النباتات , وأصبح تسجيل اسم السلطان وألقابه على التحفة دليلاً على مقدرة الفنان وبراعته في الخط العربي .

   ومن أشهر الخطاطين الذين انتقلوا للقاهرة : ابن العفيف محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الكاتب , ويرجع أصله لبلاد ماوراء النهر . ونشأ بالعراق وكان والده من تلاميذ ياقوت المستعصمي , وايضاً ابن الوحيد شرف الدين محمد بن شريف بن يوسف المصري الكاتب , وأصوله شامية ولكنه عاش بالعراق , وعندما انتقل للقاهرة كان له تلاميذ أحسنوا صنعتهم , وكان على عهد السطان بيبرس الذي لم يبخل عليه بالذهب , وكان ابن الوحيد بدوره لايبخل على صنعته بالذهب , فكان يأخذ من تلك العطايا ويكتب بها مصاحفه . وله نموذج من المصحف الشريف محفوظ بالمتحف البريطاني , ومصحف بدار الكتب المصرية , وله مؤلفات في صنعة الخط خلدت اسمه كذلك منها : شرح منظمة ابن البواب ولها نسخة في خزانة بايزيد العامة باسطنبول وفي الخزانة التيمورية بالقاهرة . وكذلك له ايضا في خزانة بايزيد باسطنبول  نسخة من كتابه "لمحة المختطف في صناعة الخط الصلف " . وايضا كان هناك ضياء الدين محمد بن محمد البغدادي الوراق , و عمر بن علي بن ابي بكر بن محمد بن الموصلي , و لم يكتف هؤلاء ببراعتهم في صنعة الخط فقد كان منهم العلماء , نذكر منهم : عبد الكريم بن عمر الأنصاري , علم الدين العراقي , والذي كان خطيباً وله في العلوم الشرعية كالفقه أصوال الدين واللغة العربية باعاً  وايضا محمد بن يوسف بن عبد الله الجزري ,الملقب بابن الحشاش , وقد عمل خطيباً بجامع القلعة , ثم جامع ابن طولون , وله شرح في ألفية ابن مالك . وله ديوان خط , وشعر . وكذلك محمد بن ابراهيم بن ساعد البخاري الملقب بابن الأكفاني وكان طبيباً وخبيراً بالعقاقير وله كتاب " الحشائش " أو خصائص العقاقير لديسقوريدس  نسخة منها موجودة بمكتبة "متحف طوبقابي سراي " في اسطنبول وقد نسخها الطبيب الخطاط أبي يوسف بهنام بن موسى يوسف والذي بدوره هو الآخر جمعه العلم والخط والأصل العراقي والهجرة لمصر ونسخ ذلك الكتاب العمل مع ابن الأكفاني .

   وكان طبيعياً في وسط ذلك الزخم الفني لفن الخط والزخرفة , أن يحدث اهتماماً خاصاً بأدوات الكتابة و الخط , فجعلها هي الأخرى بحد ذاتها تحفاً فنية , فكانت الدوايا أو المقلمات مصنوعة من المعدن ومكفتة بالذهب والفضة ومنها المقلمة المحفوظة بالمتحف البريطاني والمصنوعة من النحاس والمكفتة بالذهب والفضة , ومسجل اسم صانعها محمود بن سنقر ويحتمل أن يكون هو أخو محمد ابن المعلم سنقر البغدادي . وارتبط بذلك ايضا صناعة الورق واتسع مفهومها لتصبح صناعة الوراقة على من يصنعه أو يبيعه أو يقوم بالنسخ . وأصبح الوراق هو من يصنع الورق أو يبيعه أو ينسخ الكتب .

وكانت صناعة الورق مزدهرة من قبل في العراق والذي كانت خاماته من الألياف والقطن و والقنب والخرق البالية , فراجت تلك الصناعة عندما انتقلت للقاهرة مع المهاجرين من العراق . ونذكر من هؤلاء : ابن المرجل وكان يعمل بالورق وتجارة الكتب , وكان يدرس بالجامع الحاكمي النحو واللغة والقراءات والبيان .

    و كان لذلك النزوح العراقي رواج في صناعة أخري هي النسيج , فمصر دولة عريقة في صناعة النسيج منذ القدم , واشتهر نسيجها بالقباطي والذي كان يكسى به الكعبة وذلك قبل دخول الفتح الاسلامي لمصر. وتقدمت صناعة النسيج بعد ذلك أكثر وأكثر فيسجل لنا المقريزي في العصر الفاطمي روعة أقمشة مثل الديباج والحريروالقصب الملون الذي لامثيل له في أي مكان , وفي العصر الأيوبي لم تستمر صناعة الأقمشة الغالية كما كانت حيث توجهت الدولة لتحويل معظم طاقتها للجهاد ضد الصليبيين . وعادت تلك الصناعة بقوة مع أمراء المماليك محبي مظاهر البذخ ومعها الصناع العراقيين فزادوا على الصناعة المصرية الممتازة الفخمة أنواعاً أخرى جديدة مثل الحرير الموصلي "موسلين " . الذي كان يصدر لبلاد بعيدة . و كانت العراق مركزاً هاماً للتجارة بين الشرق الغرب لموقعها فكان لها المدن التجارية الهامة كبغداد وتكريت والموصل , وكان تجارها قد جابوا الأقطار من الصين وبلاد الروس والروم والمغرب العربي و خليج العرب . وكان طبيعيا بعد سقوط بغداد انتقال التجار للمكان الأكثر أمناً وهو مصر , وقد حملوا خبرتهم الطويلة فأثروا حركة التجارة وأصبحوا أصحاب تجارة عظيمة . فكانت هناك أسراً تعمل بالتجارة مثل أسرة التكريتي أو آل الكويك الكارميين واشتغلوا بتجارة التوابل . وكان من أفراد هذه الأسرة من استقر بالأسكندرية وبنى داراً للحديث وعلم بها الحديث والفقه على المذهب الشافعي وهي موجودة وقد تحولت لزاوية في شارع البلقطرية بقسم الجمرك . وهناك عزالدين بن جماعة وكان بجانب تجارته يدرس بقبة بيبرس وكان له معجماً وفهرساً وهناك ايضاً أسرة عبد المنعم ابن الصيقل الحراني المصري ومنها كان الفقيه عبد العزى بن الصيقل الذي كان بجانب فقهه له روايات ومغامرات غريبة. واشتهر الكثير من التجار العراقيين بإنشاء ووقف أموالهم على المدارس والحياة العلمية . و عمل معظمهم بتجارة المنسوجات والتوابل والورق والكتب والأحذية , لينقلوا السلع والثقافة من الشرق للغرب والعكس  , وشجعهم على ذلك الحماية التي وجدوها تحت مظلة الدولة الناشئة القوية ألا وهي دولة المماليك . 

الجمعة، 13 مايو 2022

لمحة عن ادارة الحكم في العراق القديم

  

صورة تخيلية لمدن العراق القديم 

    أثرت الطبيعة الجغرافية بلاشك في تكوين النظام السياسي للعراق القديم الذي يعد من أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية , فكان نهري دجلة والفرات يقسمون الأراضي لمساحات حالت دون تكوين دولة واحدة كبيرة في ذلك الزمن , فعرفت العراق حضارة المدينة وكانت من الممكن أن تتحد المدينة  مع مدن أخرى سواء بالسلم أو بالحرب . وقد تبلورت فكرة نشأة المدينة في الأساس على أنها مركز لعبادة الاله , فسميت على اسمه . ويظهر هذا جلياً من الاسم . فمدينة "نيبور " كانت مركزاً للإله "أنليل " إله سومر , و"بابل " أو بوابة الله" نجد أن ملوك الأسرة البابلية الأولى حرصوا عند انشاء كل مدينة جديدة الاحتفاظ بهذا النهج فكانت مدن مثل : "كارشماش " أو قلعة الاله شماش " و "نور أداد " أو "نور الإله أداد" . ومع تطور الزمن وظهور قوة الحكام نجد أن قوة الحاكم الملموسة في السلم والحرب برزت عما قبل  , فسميت المدن الجديدة على اسماء الملوك مثل الملك "كوريجالزو " من أسرة أور قد سمى مدينة باسم "دور كوريجالزو " أو مدينة كوريجالزو . وحتى الملك حمورابي أطلق اسمه على قناة للري .

  وكان المعبد هو مالك قوة المدينة الاقتصادية فكانت المعابد تشرف على أراضي الدولة وبالتالي كان الشعب يعمل لدى الإله , وهيأت الأساطير المواطن العراقي القديم لتقبل ذلك فجعلته يعتقد أنه يعمل ليريح الإله من العمل في  مزرعته التي هي أراضي المدينة , وحتى الحرف كان كان الكهنة يعلمونها لكل طوائف الشعب عبيداً أو عامة أو صفوة أو حتى ابناء ملوك , وللكاهن الأكبر سلطات واسعة فكان المشرف على كل هذا حيث كان تابعا للمعبد المصانع والمخازن , جدير بالذكر أن لزوجات الإله وأولاده كانت لهم معابد ولها مخصصات , ومثلما كان للكاهن الأكبر السلطة الدينية , كانت له مهام دنيوية أخرى مثل الاشراف على تأجير واستئجار الأراضي . وكانت أراضي المعبد ومراعيه يعمل بها كل طوائف الشعب , بلا استثناء .

    وكانت الأمور الإقتصادية يمسك الكهنة بزمامها , أما الأمور السياسية فكانت في يد المواطنين الأحرار , وقد ظهرت بعض المشاركة النسائية . وكانت السلطة شبه ديمقراطية مكونة من مجلس مكون من جميع المواطنين الأحرار لايمنع مشاركة النساء يرشده مجموعة من الشيوخ . وبذلك كان الحكم السياسي في يد الملك ومجلسين من مجالس الشورى الأول من الأعيان والشيوخ , والثاني من جميع الرجال القادرين على حمل السلاح .

   ومع تطور نظام دولة المدينة إلى الدولة الكبيرة تراجعت أهمية المجالس في الحكم التي تعرقل سرعة اتخاذ أي قرارات تخص الحروب , وتحول الحكم إلى النظام الملكي الاوتوقراطي , ومع ذلك بقيت مجالس الحكم واختلفت اختصاصها فأشرفت على القضايا وتنفيذ الأحكام بجانب المحاكم المكونة من الكهنة والقضاة المدنيين . وجدير بالذكر أن سلطة المجالس كانت تزداد قوة في أوقات تدهور الملكية . وقد كانت المجالس جزءا من عقيدة العراقي القديم فظهرت في أسطورة الخلق البابلية فصورت  للآلهة مجالساً  مقدسة في السماء لبحث شئونهم الخاصة وكانت الآلهة النساء يشتركن بها وتصور العراقي القديم أخلاق آلهته كما البشر فمن الممكن أن يوجد في تلك المجالس الظلم مثلما يوجد بها الحق .

   وقد آمن العراقي القديم بأن الملك مفوض من الآلهة لحكم البشر , وكان ذلك ضمن عملية الاختيار الإلهي فكان الإله الأعلى يختار إله المدينة ويختار الأخير بدوره ملك المدينة , حتى أخذ من تلك العملية الملك الفارسي "كوروش " الذي    زعم أن حكمه لبابل كان نتيجة اختيار الإله " مردوخ " له  .  

    وفي العصور المبكرة وبداية من العصر السومري القديم , كان النزاع بين المدن انعكاس لنزاع الآلهة لفرض سيطرتها على مدن أخرى , وتصور العراقي القديم أن ذلك النزاع لن يحله سوى الآلهة الكبار , التي كانت بطبيعة الحال تؤيد الملك المنتصر , كما كان يعزى أي تصرف لحاكم مدينة سواء بالخير أو الشر إلى  إلهها , حتى أن بعض الملوك فاقدي الشرعية قد ادعوا أنهم ابناء بالتبني للآلهة , مثلما ادعى الملك الأكدي "سرجون " بتبني الربة "عشتار " له . وزيادة في احكام روابطه القوية بالآلهة نصب ابنته ككبيرة كاهنات لإله القمر السومري "نانا " رب مدينة "أور" . واستمر من بعده الملوك حتى نهاية العصر البابلي في تنصيب أخواتهم وبناتهم في ذلك المنصب .

  و قد انحرف الملك "نارام سين " حفيد الملك "سرجون الأول " عن صورة الملك التي هي ظل للإله وليست تجسيدا له . فقد انفرد لأول مرة بأن يلقب نفسه بلقب" إله أكد " ولم يلق هذا قبول الشعب الذي تصور أن تدمير أكد نتيجة لغضب الألهة على الملك المتمرد على سلطتها .

  وحتى بعد أن جاءت الامبراطورية الأشورية بحكام أقوياء لم يتجرأ واحد منهم على ادعاء الألوهية وانما اعتبروا أنفسهم ظلاً للإله , وقد تواضع حكام آشور للإله آشور فكان هو الإله الحاكم المسيطر والمسمى على اسمه البلاد , وكانوا كهنة لمعبده مثلما كانوا ملوكاً , وقد وضعت تماثيلهم بجوار تمثاله كممثلين له وليس كأنداد مساويين له ففكرة الملك لإله , لم تجد رواجاً في العراق القديم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                          

    

الأحد، 2 يناير 2022

من كنوز مصر " الجندي المصري "

 


          في يوم 23 يوليو 1952م , قامت حركة الضباط الأحرار بحركة عسكرية من شباب الضباط – فيما عدا اللواء محمد نجيب - غيرت من شكل الحياة في مصر جذرياً , وكانت مخاضاً لمجموعة من الأحداث على الصعيدين الاقليمي والدولي لامجال للحديث عنها في مقالنا . وكان من نتائج الثورة عزل الملك فاروق الأول وترحيله خارج مصر في 26 يوليو من نفس العام , وتولي ابنه الأمير أحمد فؤاد العرش وذلك تحت وصاية بدأت بمشاركة الأمير محمد عبد المنعم نجل الخديو عباس الثاني والسياسي الوفدي بركات باشا والقائم مقام رشاد مهنا من مجلس قيادة الثورة ثم أصبحت بيد الأمير محمد عبد المنعم شكلياً وفعلياً تحت وصاية مجلس قيادة الثورة , حتى أعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953م , وانتهى حكم أسرة محمد علي الذي اعتبر أجنبياً , حتى وإن ظل أكثر من مئة عام وقد رحب الشعب المصري و أصبحت مصر للمصريين بعد أن كان قادة الجيش يضم بين صفوفه الأجانب من الأتراك و البريطانيين , وبالرغم من أنه كان من أقوى جيوش المنطقة إلا أنه مر بعديد من الظروف لم تجعله مالكاً لزمام أمره فكانت حرب 1948م ضد العصابات الصهيونية في فلسطين - وهي كيانات تسللت بمباركة بريطانيا – في حين كانت بريطانيا لها قواعد عسكرية بطول القناة  و في القاهرة نفسها بمنطقة العباسية , وقد قدم الجيش المصري في الحرب العالمية الثانية "1939- 1945"م جهوداً وأرواحاً ضاعت سدى في مواجهة جيوش المحور للدفاع عن بلادهم التي اعتبرها المحور حليفة لبريطانيا  , وكان لمرور مصر بتوقيت عصيب أثناء الحرب العالمية الأولى "1914- 1918"م , فكانت بين شقي رحى وخرجت من عباءة الدولة العثمانية وفرضت عليها الامبراطورية البريطانية الحماية , واعتبرت جزءا منها وسلب من ابناء مصر حوالي مليون ومائتي ألف في وقت كان عدد سكان مصر حوالي عشرة ملايين نسمة , و ذهبوا كجنود لحماية الامبراطورية البريطانية وزج بهم للحرب ضد أعدائها وكان منهم الدولة العثمانية نفسها , فسيق الفلاح المصري الذي أخذ بالقوة للحرب بآسيا وأفريقيا و أوروبا وأثبت من البسالة والبطولة ماجعل بريطانيا تمنح العديد منهم أعلى الأوسمة العسكرية ومنها وسام الملكة فيكتوريا ,  وقد استشهد منهم 100 ألف جندي ودفنوا في تلك الأراضي البعيدة  .


      ولاشك أن نزعة القومية التي سادت الجيش المصري وتجلت في ثورة 1952 م , كانت نتاجاً لبذرة غرسها الزعيم أحمد عرابي , الذي كان ايضاً له مجموعة من الرفاق من شباب الضباط كانوا مستائين من الظروف السياسية التي سيطر فيها الأجانب على حكام الأسرة العلوية وغاب الحكم الديمقراطي النيابي  , والديون التي تراكمت والغنى الفاحش للأسرة العلوية وحاشيتها والذي قابله فقر مدقع للشعب المصري , وعدم حصول الضباط المصريين على الترقيات واقتصار الرتب العليا على الأتراك والجراكسة وهم من يكونون دائماً في الصفوف الأمامية في أي قتال حتى أن ابناء مصر زج بهم لحروب أزهقت أرواحهم فيها وهي حروب لاطائل من وراءها سوى الوجاهة السياسية والعسكرية كما فعل الوالي عباس الأول وبعده الوالي سعيد بارسال قوات مصرية لمساندة السلطان العثماني في حربه ضد روسيا القيصرية في شبه جزيرة القرم و حرب المكسيك الذي جامل الوالي سعيد الامبراطور نابليون الثالث بارسال قوات مصرية وسودانية لدعمه في الحرب ضد القوات الثائرة على حاكم المكسيك الموالي لفرنسا , وقد ترجمت كل تلك المطالب مظاهرة عابدين 9 سبتمبر 1881م , لكنها لم تكن من الجرأة للمطالبة بعزل أسرة محمد علي , ولم يتوفر لها النجاح  في تحقيق مطالبها لأسباب كثيرة أهمها مساندة بريطانيا وفرنسا للأسرة العلوية ووقوفهما صراحة في وجه مطالب الثورة العرابية التي تهدد مصالحهما في مصر .

                              

عرابي و رفاقه من الجيش أمام الخديو يعرض مطالب الاصلاح في الحكم 

   وإذا كانت الثورة العرابية قد قامت في عهد الخديو محمد توفيق وثارالضباط المصريون على سوء حالهم في الجيش , فقد كان الخديو محمد توفيق يطبق سياسة مؤسس الأسرة العلوية محمد علي الذي أراد تأسيس دولة قوية له ولذريته من بعده , وكان الجيش من ركائز الدولة القوية , فأقام جيشا كان قادته الكبار من الضباط الفرنسيين والايطاليين الذين سرحوا من جيش نابليون بعد تسوية فيينا  وانتهاء الحروب النابوليونية في اوروبا , أما الضباط فكانوا من شباب المماليك – بعد النجاح في تصفية كبارهم وأعيانهم – وكان ضباط المماليك قد تلقوا التدريب العسكري الأوروبي الحديث من القادة الأوروبيين , أما الجنود فلم يرد محمد علي أن يكونوا من الأتراك والألبان لطبيعتهم التي تكره الانضباط والامتثال للأوامر , فاراد تجنيد العبيد من جنوب السودان الوثني حيث محمد علي قام بالفعل بغزو السودان لمطاردة فلول المماليك , وللبحث عن الذهب هناك - وكان ذلك نتيجة تقرير غير صحيح قد وصل إليه - , وبرغم من سيطرة محمد علي على أجزاء كبيرة من السودان فقد قامت الثورات ضد حكمه وضرائبه في شندي , وذبح قائد حملته وحاشيته هناك , إلا أنه قد جند ثلاثين ألفاً من أهل كردفان وسنار , وأرسلوا إلى بني عدي بالقرب من منفلوط , لكن توفي الكثير منهم , فاضطر محمد علي للانصات لنصيحة قنصل فرنسا بتجنيد الفلاح المصري , وكان انخراط المصريون للجيش أمراً منسياً منذ مئات الأعوام , وكان قوام الجيش مرتكزاً على قوات أجنبية منذ فترات بعيدة , لذلك لم يرحب الشباب المصري بالانضمام للجيش حيث كان التجنيد يتم بطرق غير انسانية , كما كان أمراً صعباً عليهم  الانسلاخ عن أهلهم وقريتهم , فلجأ الفلاحون إلى تشويه أعضائهم , فتغلب محمد علي عى ذلك بقبول المشوهين بالجيش , وأنشأ آلاياً كاملاً ممن فقد إحدى عينيه أو أصبعه أو أسنانه الأمامية , وغير من أسلوبه في جمع الشباب , واستعان بالوعاظ في حثهم على الانصياع لطلبات التجنيد , ولكثرة ثورات الفلاحين على محمد علي والتي كان من أسبابها أخذ أولادهم للتجنيد , حرص على عدم أخذهم لمراكز قيادية والاكتفاء بكونهم جنوداً فقط .

   واستطاع الجندي المصري أن ينثر الغبار الذي تراكم عليه طوال قرون طويلة ويستعيد أمجاد الماضي واستوعب جيداً التدريب الأوروبي الحديث الذي تلقاه , وصار قوة لا يستهان بها وذهب لليونان وسوريا والأناضول وحارب السلطنة العثمانية والدول الاوروبية والتي اتفقت عليه وادركت أن تثبيت قدمها في المنطقة لن يتأتى إلا بالقضاء عليه واضعافه والحفاظ على الدولة العثمانية مريضة حتى يأتي الوقت المناسب للإجهاز عليها وظهر ذلك جلياً في فرمان  السلطان العثماني 1841م والذي باركته الدول الأوروبية الكبرى وكان من أهم بنوده تقليص عدد جنود الجيش  المصري .

   وإذا كان محمد علي الحاكم المقدوني الأجنبي الذي ادرك أهمية الجندي المصري فقد سجل التاريخ حاكماً مقدونياً آخر حكم مصر استعان بالجندي المصري في الجيش وهو الملك يطلميوس الرابع , فقد جاء الاسكندر ومن بعده بطلميوس الأول على قوات من الجيش المصري لم تكن على جانب كبير من القوة فقد قاومت على مدار مئات الأعوام ممالك قوية فارسية وآشورية ونشأت تحت كنف ممالك أجنبية على أرض مصر , فاكتفى الاسكندر و الملوك البطالمة الثلاثة الأوائل بالاعتماد على أقوى محاربين عرفوا في ذلك الوقت من المقدونيين والاغريق وقد فتحوا أكبر امبراطورية وقتها وهم أهل ثقة بالنسبة لهم ومن بني جلدتهم , أما المصريون فكانوا مصدر خطر عليهم إذا ماتقلدوا مناصب في الجيش فمن الممكن أن يستعيدوا بلدهم من الحاكم الأجنبي , وفي نفس الوقت اهمالهم قد يسبب التذمر بين صفوفهم , فعهدوا إليهم بأعمال بعيدة عن القتال مثل النقل , ولم يسلحوهم سوى بالأسلحة الخفيفة أو القديمة وذلك للاستعانة بها في الحالات القصوى , حتى واجه الملك بطليموس الرابع صعوبة في جلب الجنود الاغريق والمقدونيين , فاستعان بالمصريين وأعطاهم السلاح والتدريب الذي يليق بتكوين جيش قوي , وانتصر الجيش المصري على الملك السلوقي أنتيوخوس الثالث الذي كان جنوده من الاغريق والمقدونيين , في معركة رفح 217ق.م , وكان من أهم نتائج تلك المعركة ازكاء روح المقاومة المصرية فقد رأوا تفوقهم على الاغريق والمقدونيين إذا ماتوافر لهم السلاح والتدريب . فقامت الثورات ضد الحكم البطلمي الأجنبي والتي كان مركزها من القوات المصرية التي انخرطت في الجيش البطلمي , فقامت الحروب الأهلية واقيمت مملكة في الصعيد تحت حكم ملوك مصريين لمدة عشرين عاماً وانفصلت الدلتا تحت حكم الثوار وقامت الحروب الاهلية واستعان بطلميوس الخامس  بالكهنة ليسجل تفانيه واخلاصه في خدمة الشعب والآلهة ورضا  الكهنة عن الملك الصالح المصلح  وهذا ما نقش في حجر رشيد الشهير وإذا كان الاستعانة بالجندي المصري في قلب الجيش سلاحا ذو حدين في يد البطالمة فقد اضطروا للاستعانة به في وقت كانت الآثار في كل مكان حولهم تشهد بقوة الجيش المصري من نقوش وصور و حصون وتحصينات وروايات عن مملكة قوية شهدت أول وأقوى حضارة عرفتها البشرية وفي بطولات الجيش المصري في التاريخ القديم لنا حديث آخر . 

بطلميوس الرابع 


الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

ابن فرناس الحكيم الشاعر

 

                              تمثال عباس ابن فرناس بمطار بغداد 

     هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس من بربر "تاكرنا "كان من أعلام عصره , والذي كانت فيه الأندلس واحدة من مراكزالحضارة والعلم على مستوى العالم , وعاصر حكم الأمير الحكم بن هشام المعروف بالربضي  وابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط وحفيده الأمير محمد بن عبد الرحمن .  ولد في أواخر القرن الثاني الهجري – أواخر القرن الثامن الميلادي – وعاش في قرطبة العاصمة . ودرس الشعر والأدب و الموسيقى والفلسفة وتفوق في دراستهم ولبراعته في تلك المجالات كان من البارزين في بلاط الأمير الحكم بن هشام , ونتيجة احتكاكه بصفوة العقول في مجال العلوم انكب على دراسة الكيمياء و الطبيعة والفلك , وقام بنفسه بتجاربه العلمية بعد أن كان معظم أسلافه يكتفون بالدراسات النظرية , فخرجت تجاربه باكتشافات عظيمة منها : صنع الزجاج من الرمل والحجارة , واخترع النظارات الطبية , وصنع أول قلم حبر وكانت عبارة عن أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة. واختراع آلات فلكية دقيقة منها : الميقاتة وهي آلة لتعريف الوقت. وكان مهندساً طبق العلوم التي برع فيها على مقر الأمير بقرطبة فكان القصر و الحديقة من التحف المعمارية الهندسية الطريفة .

   كما حوت داره والتي كانت هي ايضا معمله غرفة كنموذج يحاكي السماء، يرى فيها الزائر النجوم والسحاب والصواعق والبرق .

    وكان ابن فرناس من البارزين في بلاط الأمير "محمد بن عبد الرحمن الأوسط " لبراعته في الموسيقى , فقدم أبرع الألحان والأغاني التي كانت أشعارها من نظمه , فكان شاعراً كبيراً في عصره , ثالث ثلاثة من كبار الشعراء وقتها , هو و مؤمن بن سعيد , و أبي عمر بن عبد ربه صاحب كتاب " العقد الفريد " .

    وكان ايضا عالماً باللغة العربية , فكان في قصر الأمير عبد الرحمن الأوسط كتاب العروض للخليل بن أحمد , وعندما قرأه بن فرناس لاحظ مالم يلاحظه أحداً في البلاط , فقد كان الكتاب ناقصاً في بدايته , فأرسل الأمير إلى المشرق يطلب بدايته , فأخذ عنه علم العروض بالأندلس , وكانت مكافأته لذلك ثلاثمائة دينار وكسوة فاخرة " . 

وقد اشتهر بمحاولته للطيران على مشهد من أهل قرطبة , فكسى نفسه بالريش وصنع جناحين بتصميم معين يساعده على الطيران وقفز من ربوة عالية وحلق لمسافة بعيدة سقط بعدها , في مشهد ظل في ذاكرة الأندلسيين وتغنى به الشعراء .

  وكان لتفوقه في كثير من المجالات عرضة لهجمات شرسة من العامة الجهلاء والخاصة الحاقدين , فاتهموه بممارسة السحر ورموه بالكفر والزندقة , فاعتقل وعقدت محكمته بالمسجد الجامع بقرطبة , في محاكمة شهدت الحشد الكثير,  وكان قاضيه القاضي المستنير سليمان بن أسود الغافقي والذي برأه من تلك التهم . وقد توفي عباس بن فرناس عام 274هجريه / 887 ميلاديه . 

   وظلت سيرة ابن فرناس يتوارثها الأجيال ففي وقتنا الحالي سميت باسمه فوهة قمرية لابداعاته في الفلك , ولتجربته في الطيران صنع له تمثالاً ووضع أمام مطار بغداد , كتب عليه   "أول طيار عربي ولد في الأندلس ", وسمي باسمه مطار آخر شمال بغداد ,وأصدرت ليبيا طابعاً بريدياً باسمه، وأطلق اسمه على فندق مطار طرابلس . 

                                                                   فوهة قمرية باسم ابن فرناس 
                                    

 أما مسقط رأسه الأندلس وتحديدا قرطبه فقد افتتح جسراً عام "2011"م , باسمه على نهر الوادي الكبير، وتوسط الجسر  تمثالاً له مثبّتاً فيه جناحين يمتدان إلى نهايتي الجسر، كما افتتح مركزاً فلكياً يحمل اسمه في بلدة رندة جنوب الأندلس .

                                    

                           جسر ابن فرناس بقرطبه 

 

الجمعة، 20 أغسطس 2021

نهاية جنة قراصنة الكاريبي

 


              كثير من هواة الرحلات البحرية - حتى ممن لا يبارحون أماكنهم ويكتفون بالمشاهدة على الانترنت أو الأفلام الوثائقية - ينبهرون بجمال جزر البحر الكاريبي ذات المياه الزرقاء الصافية والجبال الخضراء و الغابات والشلالات وزد عليهم الاستعداد لاستقبال السياح بالاطعمة الخاصة ودفء الاستقبال والموسيقى والثقافة و المنتجات الوطنية .

     

 


 


                                                     بورت رويال الآن 

   

   وتبرز من بين تلك الجزر "جاميكا " التي وصفها "كريستوفر كولمبس" بأنها الأجمل من بين مااكتشفه من الجزر , وعند تفقد الأماكن السياحية التي ينصح بمشاهدتها قرية هادئة للصيادين تدعى "بورت رويال " أو الميناء الملكي , يتميز أهلها بالود والطيبة  ويذكر الدليل السياحي أسماء المرشدين من صندوق التراث الوطني الجامايكي  , وعددهم  لايزيد على أصابع اليد الواحدة  وعلى استعداد لاصطحابك في جولة في "بورت رويال " لمعرفتهم التامة بتاريخها البائد والذي يتمثل في متحف صغير آخر ماتبقى من حصن "فورت تشارلز " و كان مخزناً للأسلحة عام "1888"م - وقد تعرض لزلزال قوي عام "1907"م فأصبح جزءا من يسمى "جيدي هاوس " من المعالم بسبب ميله الغريب - ويحوي القليل  من الآثار المنتشلة من تحت الماء .

                                                   جيدي هاوس 

 

    وقد زاد من هدوء المكان انقطاع الرحلات السياحية البحرية إليه منذ أربعين عاماً- لظروف سياسية - حتى بدأت السفن السياحية تتدفق إليها خاصة أن الحكومة قد زودت الميناء برصيف عائم كانت بداية عمله استقبال 2000 زائر , في يناير 2020م , قادمين على السفينة "ماريا ديسكفري 2 " .


                           عودة الرحلات البحرية لبورت رويال

     وبالطبع السائح عندما تطء قدمه تلك البقعة سيروى له تاريخ حافل , ربما لن يستطع البعض الربط بينه وبين مايراه الآن من هدوء وزوال لتلك الآثار .

    فبعد اكتشاف كريستوفر كولمبوس للعالم الجديد , توسع المكتشفين من بعده في الغزو , ونهب ثروات العالم الجديد برعاية أسبانيا والبرتغال , فطمعت بريطانيا في أن يكون لها موطئ قدم فبدأت بانشاء المستعمرات في أمريكا الشمالية و حاولت الاتجاه جنوباً لجزر الكاريبي ففشلت في الاستحواذ على هسبانيولا " هاييتي و جمهورية الدومينكان الآن " فاتجهت إلى "جامايكا " وحصلت عليها في "1655 "م , واستعانت انجلترا بقوات غير نظامية , لم تدربها أو تدفع لها راتبا , وتدين لها بالولاء وكانت شوكة في ظهر القوات البحرية الأسبانية , وكانت تلك القوة هي القراصنة , التي كانت تتقاسم معهم الغنائم , وظهر منهم "هنري مورجان " من ويلز , وكان من الطبيعي لسفن القراصنة بعد أن تنتهي من رحلتها الدموية أن ترسو على شاطئ للتزود بالمؤن والاستمتاع بالغنائم , وبديهياً لن يكون ذلك على جزر العدو الأسبانية أو العودة للوطن فيما وراء المحيط وهم رسمياً خارجين على القانون , فوقع الاختيار على استراحة ومدينة سميت "بورت رويال" التي كانت مركزاً للقراصنة والجنس وتجار العبيد ووصفت بأنها المدينة الأكثر شراً في العالم , وكان ذلك بمباركة انجلترا .

       

                                                          القرصان هنري مورجان 

     ثم عينت القرصان "هنري مورجان " نائباً لحاكم جامايكا عام 1675م  وقبلها بعامان أعطته لقب سير تقديراً لجهوده , وقد انتهى عهده في القرصنة بعد أن تصالح الانجليز مع الأسبان , وظهر للعلن أن الانجليز ومعهم القرصان السابق مورجان في حرب ضد القرصنة , ربما لأن ذلك سوف يضر السفن الانجليزية مثلما كانت الاسبانية من قبل , وقد مات مورجان عام " 1688م " في مقبرة "باليسادوس "  , ولكن الزائر للجزيرة لن يجد تلك المقبرة , فقد حدث عام 1692 م زلزالاً هائلاً قدرت قوته بمقدار 7.5 ريختر دمر ثلثي مباني الجزيرة – بما فيها أربعة من خمسة حصون للمدينة وبقي حصن فورت تشارلز - والتي كانت مبنية على الرمال ثم اعقبها موجات تسونامي لتغرق مابقي منها , فغرق ثلاثة وثلاثين فداناً من المدينة , وكانت منها مقبرة "هنري مورجان" وطفت الجثث بكل مكان , حيث قدر عدد الضحايا بحوالي ألفي قتيل .

        وبما أنها مدينة الشر فمن بقي من ساكني المدينة عاث فيها فساداً لينهب الثروات التي قتل أصحابها ويسرق ويقتل كل من ظهر عليه الضعف . وتناقلت الأخبار بسرعة عن الجزاء الإلهي الذي أنزله الله بالقراصنة وتجار الجنس والعبيد و الأثرياء من الانجليز الذين جمعوا الثروات غير الشرعية .
    إلا أن ذلك لم ينه تاريخ المدينة الأسود فبقيت مقصداً للقراصنة في الكاريبي لنصف قرن بعدها ومن أشهرهم  القرصان الانجليزي " كاليجو جاك " أو جاك راكهام التي كانت نهايته على الجزيرة حيث حكم عليه الانجليز بالشنق هو وأفراد طاقمه عام "1720م" , والغريب في الأمر أنه لم يتم القبض عليه بواسطة الأسطول الانجليزي , بل أوعز الانجليز صائد القراصنة "جوناثان بارنت " و "جان بونادفس " القرصان الفرنسي السابق بتلك المهمة والذي كان هو وسفنه خاضعين لخدمتهم , أي أن الانجليز لم تنقطع صلاتهم بالقراصنة الذين يخدمون مصالحهم والذين يكتفون بالاغارة على سفن الأسبان دون الانجليز , وتكررت تلك الاستعانة مرات عديدة منها الاستعانة بالقرصان الانجليزي "بينجامين هورنجولد "الذي كان له يد ايضا في تقويض قوة "جاك راكهام " بل أن "هورنجولد " قد سلم الانجليز القرصان "ادوارد تيتش " أو ذو اللحية السوداء الذي كان معلمه وحليفه السابق .

 

القرصان جاك راكهام 

 

القرصان ادوارد تيتش 




وقد يظن البعض أن البحر الكاريبي جنة للسفن الأسبانية والبريطانية و القراصنة حيث الملاحة الآمنة , وهذا غيرصحيح  فالسفن كانت تتعرض للأخطار الطبيعية وتميزت تلك المناطق بالصخور والمياه الضحلة التي قد تهدد السفن بالغرق والتحطم , ولتجنب ذلك كان هناك ملاحاً انجليزياً يدعى "جوزيف سميث " كانت له خبرة طويلة في الابحار في أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي فقد أعد "كتاب ربان الهند الغربية" وفي عام "1766" م ,  و به 13خريطة وإرشادات ملاحية مفصلة للمرور بين الموانئ في منطقة البحر الكاريبي , ثم أضاف عليها ثم نشر طبعة موسعة تحتوي على 26 خريطة في "1771" م . لتجنب مخاطر الابحار والرسو في تلك المناطق . 


                خريطة قديمة لجامايكا وجزر بحر الكاريبي من عام 1778م 

   وإذا عدنا لمدينتنا "بورت رويال" سنجد أنها ابتليت بالعديد من النكبات منها حريق مدمرعام"1710"م , إلتهم أغلب مبانيها , وزلزال شديد عام  "1907" م , ثم أغلق الانجليز ميناء بورت رويال لأن المدينة نفسها لم تعد آمنة من الكوارث , وكان آخر كارثة أصابت المدينة اعصاراً قوياً دمر مابقي منها عام "1951" م , وبالطبع كانت تلك الكوارث يأتي في ذيلها الأمراض والأوبئة . وقد بقي القليل من آثار المدينة الغنية , والتي تحولت لقرية صغيرة لايزيد عدد سكانها عن 2000 نسمة .

 


 


                         تحصينات بورت رويال المباقية حتى الآن  

      وبورت رويال في الحقيقة لاتختلف كثيراً عن مانقرأه من قصص وأفلام عن المغامرات واكتشاف الكنوز وبقايا السفن , فالمياه المحيطة بها شهدت منذ النصف الثاني من القرن العشرين - والذي شهد تطور آلات الغطس والتنقيب تحت الماء – رحلات كثيرة للأثريين و صيادي الكنوز ومحبي المغامرات , فتحت المياه المحيطة ببورت رويال يستقر مجد المدينة من كنوز غمرتها مياه البحر , ويقدر تلك المسافة بأربعين قدماً تحت الماء , وشهد النصف الثاني من القرن العشرين مغامرات الغواصين تحت الماء وتسجيلها , وكان من أطرف مااكتشف ساعة للجيب بتاريخ 1686م توقفت في تمام الساعة 11:43, وقد اكتشفت عام 1969م , وقد أنشأت حكومة جامايكا صندوق للتراث الوطني به شعبة للآثار مركزها ميناء كينجستون العاصمة , وبالاستعانة بالسونار اكتشفت سفينة غارقة للقراصنة بميناء كينجستون , وقد تعاون صندوق التراث الوطني مع برنامج الآثار البحرية بجامعة تكساس إيه أند ام للكشف عن المدينة الغارقة ,وقد انتهى ثمرة تعاونهم عام 1990م , وبعد فهرسة تلك الآثار أصبحت بورت رويال من المواقع الأثرية الرسمية  بجامايكا  وذلك عام 1999م . ووضعت حكومة جامايكا نصب عينيها هدف واضح في تجميع أكبر قدر من الآثار المنتشلة لتكوين متحف كبير يليق بتاريخ المدينة الحافل .

 

                                اجزاء من المدينة الغارقة 
اجزاء من المدينة تحت الماء